fbpx

“أعيش مثل امرأة”: عن جهود النساء التي لا يراها الرجال

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كم هو شاق العيش كامرأة في عالم كل ما فيه سريع ومتطلب. ويحدث أن تمسي المرأة فيه تعبة. ويضاعف تعبها أنها تحاول التوفيق بين حيوات مختلطة ولا يفصلها عن بعضها بعضاً سوى خيوط غير مرئية

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أفكّر وأنا أحاول اللحاق بـ”المترو”، راكضاً إلى عملي، في كم هو شاق العيش كامرأة في عالم كل ما فيه سريع ومتطلب. ويحدث أن تمسي المرأة فيه تعبة. ويضاعف تعبها أنها تحاول التوفيق بين حيوات مختلطة ولا يفصلها عن بعضها بعضاً سوى خيوط غير مرئية. فهي كائن يراكم مسؤوليات، يعدّها النظام الأبوي “واجبات منزلية”، فوق شغلها اليومي وأعمالها الخارجية وإنجابها البيولوجي والأدوار المطلوبة منها في تراكيب معقدة اجتماعياً وسياسياً. ولم تتغير على رغم حضور شعار “المساواة” الفضفاض في يومنا هذا، في خطاب النظام الاقتصادي والاجتماعي الليبرالي. 

في مقطورة “مترو باريس” عند السابعة والنصف كل مساء، غالبية الحشد الملتصقة أبدانه قرب بعضه، هي من النساء. أراهنَّ بأجسادهن المنهكة مشغولات البال. أحاول أن أقول لهن بعيني المتعبتين أيضاً إنني رجل أشبههن كثيراً. ألوذ بالتعب والمسؤوليات التي فرضتها عليّ العلاقة مع رجل يعمل بدوام كامل. وأنا لا أداوم بشكل ثابت. على رغم أنني أنجز معظم ما يتطلبه المنزل من شؤون وتدابير وأعمال، تضاف الى أشغالي المختلفة في الصحافة والتدوين وتعليم العربية ومجالسة الأطفال وكتابة الرواية بشكل يومي. 

قبل أن أكون في علاقة ثابتة، كانت حياتي منضبطة في إيقاع “بوهيمي” يشبه حياة الكتّاب والفنانين. لكن مع حياتي المشتركة مع شريكي تيو، تغيرت يومياتي رأساً على عقب. يبدأ نهاري عند السابعة والنصف. أعبره مثل جسم مكوكي، أخاف الارتطام بالوقت. أنجز شؤون البيت: الغسيل، المسح، الطبخ، الجلي، تنظيف الحمامات والسجاد وإزالة الغبار. أكتب مقالي وأقرأ الصحف، ثم أكتب قليلاً في صفحات الرواية، قبل أن أستعدّ للخروج الى عملي في مجالسة طفل في السادسة. أحضره من المدرسة، أطعمة، أدرّسه، أفسّحه، ألعب معه. وفي يومين آخرين من الأسبوع، أدرّس فتاة صغيرة اللغة العربية. ثم أعود في “المترو” وأقرأ في الوقت المستقطع. أحضّر العشاء مع تيو، ثم أجلي. أنظف المطبخ. أكتب في الرواية وأصل الى نهاية نهاري متعباً ولا قدرة لي على الحراك. أكاد لا أستطيع فتح عيني لمتابعة فيلم في الفراش. وأغفو عند الواحدة صباحاً، ورأسي منشغل بشخصيات روايتي. وهنا كثيراً ما تعن على بالي النساء الروائيات، تحديداً. هؤلاء اللواتي يعملن في مهن كي يعشن ويربين أطفالاً ولديهن مسؤوليات بيتية ويكتبن في الوقت نفسه أعمالاً أدبية. 

أفكر أيضاً بنساء بلادي اللواتي ينجزن في اليوم الواحد أعمالاً كثيرة. يتحملن مسؤولية أسرة وأمزجة رجال يُهيَّئون باكراً ليكونوا “قوامين على النساء”. وتتحمل بعضهن فوق هذه الأعمال الشاقة، العنف أحياناً بحجة حماية أسرهن من التفكك. وهي حجة كثيراً ما نسمعها من نساء، لا سيما الأمهات التقليديات اللواتي يجدن في انفصال بناتهن عبئاً وخطراً على سمعة العائلة. 

أمعن النظر في عيون النسوة الباريسيات ويأخذني السهو الى رُقيّة، المرأة التي قابلتها في “حي الدبابسة” في طرابلس منذ ست سنوات. امرأة أربعينية لديها أربعة أو خمسة أولاد. تستيقظ مع زوجها عند الخامسة فجراً. تعد له الأكل و”زوادة” الظهيرة. ثم يبدأ نهارها مع “لف” سندويشات لأطفالها وإلباسهم وأخذهم الى المدرسة. ثم تعرج إلى السوق وتشتري الخضار والفواكه. تطبخ وجبة الغذاء وفي الوقت عينه تنظف البيت وتمسح أرضيته. وعند الظهيرة تخرج إلى عملين متتاليين الأول في مكتب محاماة والثاني في مستشفى. ثم تمر على شقيقتها لتأخذ أولادها عند السادسة مساء. تدرسهم وتحمّمهم وتطعمهم من الطبخة التي أعدتها ظهراً، وتلعب معهم الى حين عودة الزوج. تسخن له الماء ليستحم. تحضر عشاءه ونرجيلته. ثم تهيئ نفسها لرغباته. ولا أحد يقول لها “شكراً”. كأن كل هذا مطلوب منها طبيعياً، وعليها تحمل أعبائه الثقيلة وحدها بلا “نق”، مذ خيِّرت أو اختارت أن تكون زوجة. وهي بذلك أفهمت نفسها أنها حاضرة لأدوار الأم والمدرّسة والطباخة والمنظفة والعاملة خارج البيت والمرافقة للأولاد والزوجة التي عليها أن تكون هنا لزوجها. 

أفكر أيضاً بنساء بلادي اللواتي ينجزن في اليوم الواحد أعمالاً كثيرة. يتحملن مسؤولية أسرة وأمزجة رجال يُهيَّئون باكراً ليكونوا “قوامين على النساء”. وتتحمل بعضهن فوق هذه الأعمال الشاقة، العنف أحياناً بحجة حماية أسرهن من التفكك.

ما يتناساه البعض أن المرأة في أحيان كثيرة، جهودها “غير مرئية”. ولا ينشغل الرجل عموماً باعتبار جهودها مضافة على كاهلها ومثقلة بالتعب النفسي والإحساس بالذنب، فكثيرة هي المسؤوليات الجندرية الموضوعة على رؤوس النساء عنوة، والتي عليها تحمّلها وتنفيذها، وإلا تطلق عليها صفة “مقصّرة”، كون هذه المسؤوليات فسرّت على أنها لها (هي فقط وإن فعلها الرجل، فيمتدح، كأنه حقّق معجزة).  

وحتى لو تغيرت أنماط العائلة وأدوار الرجل فيها، إلا أن كثيرات يعملن، في الداخل والخارج، بدوام كامل ويكاد لا يُذكَر ذلك على أنه جهد مضاعف. بل يصنف دوماً في خانة “واجبات طبيعية”. قليلات من رفيقاتي أزواجهن يساعدونهن في أعمال البيت، عرباً كنّ أو فرنسيات. وأسمع من كثيرات جملة شبه مكررة أن رجالهن “ما بقيموا قشة”، كما يقول مثلنا العامي. أي أنهم يعودون من أشغالهم ويستريحون، ليجدوا العشاء معداً والأطفال قد درسوا وشاهدوا برامجهم الكرتونية ولعبوا، ليعودوا ويبسطوا أدوارهم الآمرة أو لـ”النق”. أو يخرج من بعدها واحدهم لحياته وسهره ورفاقه ويترك زوجته وحيدة مشغولة بأولاده، بنومهم مثلاً وهي مهمة شاقة، وجلي الصحون وترتيب البيت والألعاب المنثورة هنا وهناك، وتحويل “السيرك” الذي صاره البيت إلى منظومة ساكنة معدة لهناء الرجل (العامل السعيد). 

هذه أول مرة في حياتي، أعيش مثل امرأة بمسؤوليات عدة ومنهكة. شكراً للنساء في حياتنا، عاملات، كاتبات، صحافيات، أمهات، شقيقات، زوجات، صديقات. شكراً لجهودكن التي لا يراها الرجال. 

المقاهي التي تصبح بيوتنا