قبل 54 عاماً، لم يجد الرئيس اللبناني الراحل شارل حلو شأناً أسمى أو أهم من الإصلاح القضائي ليبدأ به عهده. حينها، لامه كثيرون على تسييس الحملة واستهدافها الأفراد المتهمين بالفساد، دون التركيز على إيجاد حلول جذرية لمعالجة هذه القضية. وبالفعل، يُحسب للرئيس الحلو اعترافه بهذه الإخفاقات، إذ أقرّ في مذكراته “بأن هذا المفهوم للإصلاح الذي جعل منه إدانة وتطهيراً كان ظالماً للقضاة وللموظفين المصروفين بما نسب إليهم من تهم دون أن يتاح لهم الدفاع عن أنفسهم”. إصلاح المؤسسة كان ضرورة أكثر إلحاحاً من استهداف بضعة أفراد لأغراض سياسية. ذلك أن القضاء اللبناني بقي حتى يومنا هذا، ووفقاً لاتهامات السياسيين واعترافاتهم، يُعاني من المحسوبية والتدخلات السياسية من جهة، وتسييس الأحكام وضعف الانتاجية من جهة أخرى.
أكثر من خمسة عقود مرت منذ هذه التجربة الإصلاحية الفاشلة، شملت حرباً أهلية وزمناً ليس باليسير من الوصاية السورية، وما زلنا عند النقطة صفر، لا بل نبدو قاب قوسين أو أدنى من العودة إلى الإصلاح المسيس، وكأن ليس في جعبتنا أرشيف أو ذاكرة جماعية. عاد الهاجس الإصلاحي لشارل حلو إلى الحيز العام في العهد الرئاسي الحالي. ذلك أن الرئيس عون وضع الإصلاح القضائي في مقدم أولوياته، وأعلن أن “القضاء لن يكون في عهده منظومات مرتهنة لأحد بل سلطة تمارس رسالتها بوحي من ضمير القاضي الحر والنزيه والمحايد فتتوافر معه ضمانات المتقاضين كاملة وغير منقوصة”. لكننا في منتصف العهد، والتشكيلات القضائية ما زالت معرقلة، ولم يتحقق وعد تنظيم مؤتمر “من أجل عدالة أفضل” الذي وُصف كسابقة مُقبلة علينا في عالم القضاء. رغم ذلك، علينا كمواطنين طرح السؤال الآتي: هل تضمن الرئاسة الحالية عدم تكرار تجربة الماضي التي اتسمت بوعود واهية وبتسييس لمحاولة الإصلاح؟
استقلال القضاء ليس رفاهية، بل في صُلب أي نظام ديموقراطي ومؤسساتي فاعل، ولا يُختزل بالأفراد، إذا كان هذا بالفعل ما نصبو إليه. المادة 20 من الدستور اللبناني تنص صراحة على استقلالية القضاء، بالقول إن “القضاة مستقلون في إجراء وظيفتهم وتصدر القرارات والأحكام من قبل كل المحاكم وتنفذ باسم الشعب اللبناني”، لكنها وكما تفيد “المفكرة القانونية”، لم تُعرف مبدأ استقلال القاضي والوظيفة المرجوة منه. ذلك أن التناقض الأبرز في الحديث عن استقلالية القضاء، يتمثل في أن السياسيين، ووفقاً للنظام التوافقي الطائفي، يتولون تعيين القضاة في مراكز أساسية، دون العودة إلى سلطة اشتراعية أو هيئة مستقلة للموافقة على التعيين والتأكد من موافاته شروط الاستقلالية. لهذا السبب، هناك دور أساسي للسلطة التنفيذية في تعيين القضاة وتحديد أعمال وتنظيم مسار مجلس القضاء الأعلى وفقاً للمادة 26 من قانون تنظيم القضاء. بالإضافة إلى ذلك، تشكل ميزانية السلطة القضائية جزءاً من ميزانية وزارة العدل مما يجعلها خاضعة لسلطة رجال السياسة والدولة.
وغني عن القول في الإطار التوافقي اللبناني، أن التشكيلات القضائية والتعيينات تخضع للتسييس والمحسوبيات السياسية، على حساب معايير الكفاءة والنزاهة. وهذا يخلق واقعاً تنعكس فيه الخلافات السياسية والطائفية على القرارات القضائية مما سبب شللاً في هيئة التفتيش القضائي. وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذه الثغرات تتخطى القطاع القضائي بشكل خاص لتشمل القطاع العام بالمجمل. والمثال الأبرز والأحدث على ذلك هي المواجهة بين كل من رئيس هيئة التفتيش المركزي جورج عطية والمدير العام لإدارة المناقصات جان علية، والتي عكست واقعاً أليماً وضعفاً في هيكلية أجهزة الرقابة والمحاسبة داخل القطاع العام.
المادة 20 من الدستور اللبناني تنص صراحة على استقلالية القضاء، بالقول إن “القضاة مستقلون في إجراء وظيفتهم وتصدر القرارات والأحكام من قبل كل المحاكم وتنفذ باسم الشعب اللبناني”
في ضوء هذه التحديات، طالب العديد من الناشطين والسياسيين بإجراء بعض التعديلات بهدف تعزيز استقلالية القضاء، لكنها لم تصل إلى أي نتيجة، ولم تتحول إلى نصوص أو مشاريع قوانين. لكن في تاريخ 7 أيلول 2018 تغير هذا الواقع إذ أعدت “جمعية المفكرة القانونية” بالتعاون مع كل من “كلنا إرادة” والائتلاف المدني لدعم استقلال القضاء وشفافيته”، مشروع قانون حول استقلال القضاء وشفافيته لدى المجلس النيابي. وأعلنت المفكرة القانونية أن إحدى أبرز ميزات هذا الاقتراح دخوله المجلس النيابي بمبادرة من المنظمات الحقوقية وليس من مجلس القضاء الأعلى أو من السلطة التنفيذية فحسب. بشكل عام، نلحظ أن اقتراح القانون، يقدم إصلاحاً بنيوياً للنظام المسؤول عن الخلل القضائي، وتحديداً تعزيز أجهزة الرقابة والاستقلالية المالية والإدارية للمؤسسات الناظمة. بعض هذه الإصلاحات مبني على تجارب حديثة مع الإصلاح القضائي في كل من تونس والمغرب.
في خصوص الاستقلالية، يُحرر المشروع السلطة القضائية من هيمنة السلطة التنفيذية ووزارة العدل من خلال زيادة نسبة القضاة المنتخبين وإعطاء مجلس القضاء الأعلى كامل السلطة لإصدار التعيينات. فالباب الأول من اقتراح القانون نص على ما يلي: “يتحقق هدف الحد من دور السلطة التنفيذية في اختيار أعضاء مجلس القضاء الأعلى من خلال زيادة عدد القضاة المنتخبين من أندادهم أو إضافة أعضاء غير قضاة يتم اختيارهم من قبل أصحاب المهن التي يمارسونها”. أما بالنسبة الى تعزيز سبل المسألة والمحاسبة، فالقانون المقترح أدخل أدوات جديدة لمحاربة الفساد الداخلي والخارجي على غرار المعايير التي اعتمدتها القوانين المغربية والتونسية الجديدة. ومن أبرز هذه المقترحات: إلزام المجلس بنشر جداول أعماله وقرارته، وضع تقرير سنوي عن أعمال الدائرة وأعمال محاكم الاستئناف، فرض ضرورة إجراء التقييم لكل قاضٍ بشكل دوري كل أربع سنوات، توسيع نطاق الشكاوى، وغيرها… تمكن مشروع القانون أيضاً من اشراك غير القضاة في مجلس القضاء الأعلى وإشراك مختلف فئات المجتمع آخذين ذوي الاحتياجات الخاصة والمساواة بين الجنسين في عين الاعتبار. ومن أهم ما نص عليه الباب الثالث من هذا المشروع هو الاعتراف صراحة بمبدأ تمتع القضاة بحريات التعبير والتجمع وتكوين الجمعيات على غرار سائر المواطنين.
من المهم اليوم ونحن في منتصف عهد الرئيس الحالي، أن نُفكر في تجارب الماضي، كي نجد حلولاً أنجح وطويلة الأمد من خلال تعديل المؤسسات
في هذا السياق، من المهم ذكر “قانون رفع الحصانة” في عهد شارل حلو الذي نظّم عمل مجلس القضاء الأعلى ومنحه صلاحيات استثنائية تخوله صرف القضاة كجزء من الإصلاح القضائي. لكن هذا القانون لم يخلُ من الشوائب وواجه العديد من الانتقادات إذ تبين لاحقاً أن مجلس القضاء الأعلى لم يستمع إلى القضاة المعدّين للصرف بحجة أن القانون لا يفرض ذلك. ومنعاً لتكرار تجارب الماضي ضمن الباب الثالث من اقتراح القانون حق القضاة في الدفاع عن أنفسهم من خلال تغيير آليات محددة في إجراءات المحاكمة التأديبية تحفظ للقاضي حقوق الدفاع كاملة وتحميه من أي قرارات صرف تعسفية.
لهذا، من المهم اليوم ونحن في منتصف عهد الرئيس الحالي، أن نُفكر في تجارب الماضي، كي نجد حلولاً أنجح وطويلة الأمد من خلال تعديل المؤسسات بدلاً من التركيز على فاسد هنا وهناك.
أبرز ما علمتنا إياه تجارب الماضي هو أن عودة الفساد والترهل، مرده مؤسساتي، وهو أكثر تجذراً من أثر الأفراد. من المهم في هذه الحالة تبني نهج شامل للإصلاح لا يشمل فقط الإدعاءات وتوجيه أصابع الاتهام، بل يُبنى على الإجراءات والمبادرات التي تضمن إنشاء دولة قانون فعالة واستعادة لقب بيروت أم الشرائع.
المهم شرف المحاولة مجدداً، أو كما قال الحلو، “الإصلاح ليس بالموجة العابرة، إنه تجدد مستمر!”. وهنا يحتّم السؤال: هل سيبصر هذا الإقتراح النور، أم سيضم إلى مقترحات مهجورة أخرى في أدراج قاعة مجلس النواب؟