fbpx

 إسراء غريّب والفلسطينيات المقتولات

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

مقتل إسراء غريّب ليس مثالاً جديداً في حياتنا فمقتلها امتداد لمقتل كثيرات في المجتمعات الفلسطينية المختلفة. هنا قراءة في كيف كانت الفصائل الفلسطينية تتعامل مع جرائم قتل النساء…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لن تكون إسراء غريّب آخر قتيلة في المجتمع الفلسطيني ولا هي الأولى بالتأكيد. لن أحكي هنا عن القتيلات في البلاد العربية ولا عن الإحصاءات التي تقدمها تقارير حقوق الإنسان وهيئات الأمم المتحدة حول العدد المتصاعد لجرائم العار التي توصف بجرائم الشرف، فذلك متروك لدراسات طويلة ومعمقة. ولكن سوف أتناول هذه الكارثة الاجتماعية المنتشرة في كل المجتمعات الفلسطينية سواء في الضفة الغربية أو داخل العمق الفلسطيني، في أراضي الـ48 أو في غزة أو في الشتات.

منذ بداية العام الحالي قتلت أكثر من 10 نساء فلسطينيات داخل العمق الفلسطيني، آخرهن امرأة مسنة في الثالثة والثمانين طعناً على يد ابنها. وما يدعو إلى الدهشة أن فلسطينيي الـ48، يعيشون ضمن دولة إسرائيل التي مع كونها دولة “احتلال”، إلا أنها دولة قانون على المستوى الداخلي ويطبق القانون فيها على مرتكبي مثل هذه الجرائم. لكن من الواضح أن العقلية الذكورية العربية التي توفر لها المقاربات الدينية السائدة عناصر الخصوبة لا يردعها لا قانون ولا إحتلال وخصوصاً في ظل الإرباك الهوياتي وفشل الأحزاب العربية في إسرائيل في خلق حالة من التطور الاجتماعي على الأقل لمجابهة الإحتلال وممارساته العنصرية تجاههم. وفي غزة التي تعيش تحت سلطة دينية إسلامية، فلا قانون ولا نواميس غير تلك التي يمليها الفقه الديني والثقافة التي تعلي من شأن الذكور استناداً إلى الشريعة وأحكامها في الكتاب والسنة. ولا تختلف الضفة الغربية عن غزة، فالقوانين لا تزال تستمد روحها مما كان مطبقاً إبان الإدارة الأردنية التي خضعت لها الضفة الغربية حتى عام 1967، وبالتالي فإن ما يطبق في الأردن يطبق في الضفة.

في منتصف الستينات، وفي المرحلة التي يحلو لنا أن نصفها بمرحلة النهوض الوطني الفلسطيني على إثر بروز حركة المقاومة الفلسطينية المسلحة وانتقالها إلى لبنان ومع انتشار السلاح في أوساط الفلسطينيين في المخيمات في نهاية الستينات، ارتفع عدد النساء القتلى في سياق جرائم تتعلق بالسلوك غير المقبول وفق تقاليد المجتمع وقيمه التقليدية المحافظة. أذكر عدداً من حوادث القتل في مخيم عين الحلوة بحق نساء. أذكر أن القتلة، الأزواج أو الأشقاء أو الأباء كانوا أعضاء في التنظيمات الفلسطينية المختلفة، بعضهم في “حركة فتح” والبعض الآخر في “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” أو “الجبهة الديموقراطية” اليساريتين. وكانت أداة القتل عادة البندقية التي حملها القاتل بالأساس ليحارب بها إسرائيل، فتحولت في حالات كثيرة لتأكيد الذكورية وسلطة حاملها على زوجته أو أخته أو أمه، وكأن البندقية امتداد لعضوه التناسلي الذي يفخر به.

 

لطالما لجأ اليسار الفلسطيني إلى فهم متخلف وانتهازي في العلاقة مع المجتمع، جوهره عدم التصادم مع التقاليد المهيمنة لكي لا يخسر الجماهير

 

فلسطينيات في مخيم برج البراجنة – 1987

كان النظر في هذه المشكلات التي تقود البعض الى ارتكاب مثل هذه الجرائم، من صلاحية “الكفاح المسلح”، أي الشرطة الفلسطينية المحلية داخل المخيمات والتي تحيل مرتكبي الجرائم إلى ما كان يسمى القضاء الثوري، وكانت الجرائم المسماة جرائم الشرف تنظر فيها تلك الهيئات. هذا إذا تم تسليم الجاني إليها الذي ينجو عادة بفعلته، لأنه ينتمي إلى فصيل قوي يدافع عنه وعن جريمته باسم التقاليد. لم تضع المنظمة، في تلك الفترة المتميزة بالنهوض الوطني والحراك الثوري على المستويات الفكرية والسياسية والاجتماعية، أي قوانين متقدمة عمّا هو سائد في أكثر الدول العربية تخلفاً بقوانينها وهي التي تشرف على المخيمات بحسب إتفاقية القاهرة الموقعة مع الدولة اللبنانية، في ما يتعلق بجرائم الشرف. حتى الفصائل اليسارية، التي كانت تزعم تميزها عن “حركة فتح” بإيديولوجيتها الماركسية، كالجبهتين الشعبية والديموقراطية، رافعة شعار تحرر المرأة، واحترام كينونتها ووجودها، لم تتقدم قيد أنملة في سياق تطبيق مفاهيم تغيّر في القيم العشائرية والمجتمعية السائدة. فلطالما لجأ اليسار الفلسطيني إلى فهم متخلف وانتهازي في العلاقة مع المجتمع، جوهره عدم التصادم مع التقاليد المهيمنة لكي لا يخسر الجماهير التي قد تنفر من الفكر الاشتراكي الذي تبنته تلك الفصائل متأثرة بالدروس التي استخلصتها من قراءة سطحية للتجربة الماوية في الصين. وهكذا بتنا نرى في نهاية المطاف الكوادر النسائية في هذه الفصائل يرتدين الحجاب ويقمن بفريضة الحج. لم تستطع، فصائل اليسار المسلح الفلسطيني، ولا حركة فتح، بأفكارها التي لا تتميز عن أفكار المجتمع الذي جاءت لتحرره، أن تمثل أنموذجاً رادعاً للتخلف الاجتماعي، المتأثر بحرفية النصوص الدينية التي تدعو إلى قتل الزانية رجماً بالحجارة أو برصاص الرشاشات في مرحلة الثورة المسلحة. والعجيب في الأمر أن تلك الجرائم لم تكن تحدث إلا لماماً، قبل دخول السلاح الى المخيمات ففي المرحلة السابقة كانت الدولة اللبنانية تعتقل القتلة على الأقل، وتحاكمهم حتى ولو كانت قوانين العقاب لا تصدر سوى أحكام مخففة كما بقية البلاد العربية  في حين لم نسمع أن قاتلاً واحداً عوقب على جريمته من قبل القضاء الثوري.

لا شكّ في أن وجود منظمة التحرير الفلسطينية في تلك المرحلة قد مكّن  أعداداً كثيرة من الفلسطينيات من الانخراط في صفوف الثورة، ومنهن من دخلن معسكرات التدريب العسكري وشاركن في عمليات عسكرية وأعمال تنظيمية وجماهيرية خارج سلطة العائلة، إذ كانت المشاعر الوطنية في ذروتها، إلاّ أن مشاركتهن في الثورة لم تنقذهن من المصير المأساوي في حالة التفكير في تجاوز الحدود التي تضعها السلطة الذكورية المجتمعية التي تعلو فوق سلطة المنظمة.

لم تقدم منظمة التحرير الفلسطينية بفصائلها المختلفة أي برامج اجتماعية للحد من ظاهرة العنف ضد النساء، لا بل زاد وضع المرأة سوءاً في المراحل التي تسامح المجتمع إلى حد ما مع اندماج النساء في العمل الوطني في مرحلة النهوض. وتفاقم هذا الوضع إثر الهزيمة السياسية التي منيت بها المنظمة بعد اجتياح 1982، حين تُرك فلسطينيو الشتات بلا مرجعية، ما أتاح الطريق للمجموعات الإسلامية الأصولية لنخر مجتمع المخيمات كما نرى اليوم، وعلى رغم وجود سلطة فلسطينية بعد أوسلو، إلاّ أن الوضع لم يتبدل لجهة بناء مجتمع مدني يمتلك وعياً في أهمية حقوق الإنسان وخصوصاً النساء فيه، فلا قوانين تحمي المجتمع ولا النساء خصوصاً. وقد ظلت المفاهيم العشائرية التي تمثل القيم الدينية هي السائدة. وفي هذا السياق، فإن مقتل إسراء غريّب ليس مثالاً جديداً في حياتنا فمقتلها امتداد لمقتل كثيرات في المجتمعات الفلسطينية المختلفة اليوم، وسيكون استمراراً لعمليات قتل في المستقبل، طالما بقيت القوانين عاجزة عن التطور والفكر الديني متسلطاً على المجتمع.

كنّا نقرأ الأدب ونشاهد السينما في عين الحلوة