fbpx

هل وصل صراخ إدلب إلى الأمم المتحدة؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ما هي الأدوات التي يمكن استعمالها من أجل الفهم ثم المحاسبة؟ وهل ما زال للقانون الدولي فائدة ومعنى؟ما يحصل في إدلب وغيرها من مناطق القتل والصراعات في العالم يجعل هذه الأسئلة في اللحظة الأولى فارغة ومنقطعة الصلة بالواقع.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

صارت مأساة المدنيين في محافظة إدلب في شمال غربي سوريا ربما أعمق مما يمكن تجاهله مع منتصف صيف 2019، حتى في عالم تفيض عليه صور المعاناة المتدفقة عبر الشاشات وتخدّره. وتحركت عجلات المنظمات الدولية والديبلوماسية الحكومية في دول عدة منذ أيار/ مايو، فهل هذا تحول مهم؟ وكيف يمكن دعمه أو نقده من ليكون أكثر فائدة لمن يعانون من دون أي ذنب على الأرض؟

في أواخر آب/ أغسطس، أبلغ مارك لوكوك وهو الأمين العام المساعد للأمم المتحدة مجلس الأمن بأن حوالى 600 ألف سوري نزحوا من إدلب، بينما قتل 500 مدني وجُرح المئات في هذه المحافظة. وأعلنت منظمة الصحة العالمية وصندوق الطفولة (يونيسيف) أن الأعمال العسكرية الدائرة أوقعت خسائر متنوعة في 43 منشأة صحية و87 مؤسسة تعليمية و29 محطة مياه وسبعة أسواق. هذه الهجمات مؤكدة وأكثر من 90 في المئة منها ناتج عن قصف جوي (أي طائرات روسية وسورية). ولضمان دقة تقاريرها، راجعت الأمم المتحدة البيانات مع شركائها العاملين على الأرض، ثم أكدت وقوع كل هجمة مع مصدرين اثنين مستقلين على الأقل، وفقاً للوكوك.

وتظهر عمليات القصف الجوي الممنهجة والمتزايدة للمنشآت الصحية والمدنية الأخرى في إدلب، كيف أن المؤسسات العسكرية في روسيا وسوريا لا تحترم اتفاقيات خفض التصعيد De-Confliction، التي التزمت بها بعد مفاوضات. وكان بين أهم نتائج هذه المفاوضات قوائم منشآت مدنية تنبغي حمايتها، محددة بإحداثيات جغرافية، قدّمها قسم الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة. وأسوأ من التخلي عن مثل هذه الاتفاقيات (وإن لم يكن أمراً مفاجئاً في حرب تتحدى كل قواعد القانون الدولي تقريباً) أن هناك شكوكاً مبررة في أن الإحداثيات الجغرافية لهذه المنشآت تحولت من قائمة نقاط محمية إلى قائمة أهداف متاحة للقصف!

وفي منتصف الصيف ومع تكرار قصف هذه المنشآت المدنية، أكدت لي مسؤولة مساعدات إنسانية تتواصل مع ضباط الاتصال الروس بحكم موقعها، أن الجانب الروسي صار بوضوح غير مبالٍ بالتزاماته وفق القانون الدولي الإنساني (اتفاقيات جنيف التي تنظم الحروب). وفي مرة واحدة على الأقل أبلغها الضابط الروسي: “نعم، قصفنا هذه الأماكن التي تتحدثين عنها لأنها كانت تقدم العلاج لإرهابيين”. 

ولكن، حتى لو كانت هذه المستشفيات تداوي جرحى من الميليشيات أو يعمل فيها أشخاص مسلحون، فهي خاضعة للحماية ويُحظر ضربها وفق اتفاقية جنيف الأولى التي وقعت عليها روسيا وسوريا. ولذا يتبنى المسؤولون الروس لغة أكثر ديبلوماسية ويصفون الاتهامات الموجهة إليهم بقصف المستشفيات، بالـ”كاذبة”، بينما قال مسؤولون سوريون مراراً إن إرهابيين صاروا يستعملون تلك المستشفيات لأغراض عسكرية. وهكذا يمارس الديبلوماسيون المهرة عملهم الذي لا يتقن ويهتم ضباط الاتصال العسكريين بلطفه وقواعده، فتخرج منهم مواقف أسرع وأوضح.

عموماً، إن قصف المنشآت الصحية استراتيجية واضحة للجيشين الروسي والسوري حتى قبل احتدام الصراع الحالي على إدلب التي صارت آخر معقل للمعارضة المسلحة (وغير المسلحة) لنظام بشار الأسد. وقالت منظمة “أطباء من أجل حقوق الانسان” في تقرير في شهر أيلول/ سبتمبر، إنها تأكدت من وقوع 583 هجمة على منشآت صحية بين آذار/ مارس 2011 وأيار 2019، كما أن النظام السوري أو حلفاءه مسؤولون عن 90 في المئة من هذه الهجمات التي أدت إلى مقتل 912 عاملاً في الخدمات الطبية.

وعندما يقر مسؤولون روس أو سوريون بهذه الهجمات، فإنهم يلجأون إلى استثناءات محددة في اتفاقيات جنيف، تسمح لهم بمثل هذا الإجراء بدعوى أنها كانت هجمات “متناسبة” وحققت “ميزة عسكرية”، تفوق الخسائر المدنية “العرضية”. هذه مصطلحات يفهمها خبراء ومحامو القانون الدولي، وتعني ببساطة أنه تعين التعامل بالقوة المناسبة مع خطر عسكري واضح وكبير، من جانب منشأة مدنية من أجل تحقيق هدف عسكري مهم، وأن أي خسائر بين المدنيين ومنشآتهم لم تكن مقصودة، بل عرضية. وفي هذا المجال، فإن الأساتذة الذين تعلم الروس والسوريون على أياديهم هم جنرالات جيش الدفاع الإسرائيلي، وتعلّموا أيضاً تبريراتهم لوقوع مذبحة تلو الأخرى بين المدنيين (على سبيل المثال قانا في 1996). 

القوانين في نهاية المطاف هي مدونات تتغير كثيراً مع تغير الضغوط الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. يمكن استغلال القوانين كأدوات لفرض نظام أو لقمع جماعات، ولكنها أيضاً أدوات يمكن أن يلجأ إليها الطرف الأضعف وضمان قدر ما من المحاسبة والمساواة أمام قواعد عامة.

ما الذي حرّك البيروقراطية الأممية؟

في أواخر ربيع 2019 تزايدت صور المعاناة من إدلب وتقارير المنظمات الحقوقية والإنسانية الأهلية عنها، بينما تواصلت تحركات عواصم غربية تريد أن تحاسب روسيا على تدخلات عدة غير محسوبة في أنحاء العالم، وكان على البيروقراطية الأممية أن تتحرك. وفي منتصف أيلول قرر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، أن يعين لجنة تحقيق برئاسة الجنرال النيجيري تشيكاديبيا اوبياكور للنظر في الهجمات التي وقعت على المنشآت المدنية في إدلب، آخر المحافظات السورية التي يسيطر عليها معارضون مسلحون.

ولكن من دون دعم من مجلس الأمن (حيث تملك روسيا حق النقض ويمكنها تعطيل أي قرار مثلما فعلت مراراً بشأن سوريا هذا العام)، ومن دون موافقة، لن يمنحها بشار الأسد، فإنه من المشكوك فيه للغاية أن هذه اللجنة ستستطيع أن تسافر إلى إدلب للقيام بالتحقيقات المطلوبة كلها. وربما لهذا أعلنت الأمم المتحدة أن مهمة اللجنة ليست تحديد مسؤولية الطرف المعتدي وأن تقريرها سيكون داخلياً ويتلقاه الأمين العام.

وأحياناً تصبح مثل هذه اللجان العاجزة عن التوصل إلى نتائج واضحة ومحددة أو أدلة يمكن استعمالها في المحاكم، ذريعة تسمح للمعتدي بأن يقول: “حتى لجان التحقيق الدولية لم تتوصل إلى شيء”. ولكن إذا كانت النتيجة الوحيدة لهذه اللجنة، إضفاء صبغة رسمية على قائمة منشآت مدنية كانت الأمم المتحدة أبلغت الروس بمواقعها من قبل، ثم تعرضت بعدها للتدمير نتيجة قصف جوي، فسيكون هذا مفيداً إلى حد كبير في توجيه اتهامات وفضح هذا السلوك العدواني الأرعن في المستقبل، حتى لو تكن القيادات العسكرية والسياسية الروسية والسورية مهتمة إلى حد كبير بالقيم والمعايير الإنسانية والإحراج الدولي الناتج عن السلوك الدموي. 

ماذا نستفيد من هذه اللجان؟

كلنا محاصرون بصور متتابعة لأعمال قتل جماعية تبدو بلا معنى من ويلينتغتون إلى تكساس ومن صنعاء إلى إدلب، مجرد دم وأشلاء وجثث وأجساد مغطاة بالتراب أو تترنح بين حطام شوارع مقصوفة. وتتدافع على الشاشات وجوه جمّدتها الصدمة أو شوهتها مشاعر لوعة وحزن لا تهدأ. مشاهد تهب علينا من شاشات في الشوارع، في المقاهي، في عربات المترو، في سيارات الأجرة، في بيوتنا، ومن على شاشات هواتفنا الذكية.

معظم هذه المشاهد وبعض السطور المصاحبة سواء كنا نسمعها أو نقرأها لا تشرح لنا أسباب ما يحدث حقاً وخلفياته، على رغم أن هذه الفظائع قابلة للتفسير أو على الأقل للبحث والتحقيق لو كان لدى الواحد منا أو لدى المؤسسات المعنية ما يكفي من الوقت والقدرة والدوافع. تفسير هذه الفظائع وجعلها “ذات مغزى” بدلاً من بقائها “عشوائية”، وجزءاً من سلوك “غير حضاري” من ديكتاتور مأفون هنا أو دولة متجبرة هناك، هو أمر مهم للغاية لأنه ينقلنا من الشاشات إلى أرض الواقع، حيث يمكن أحياناً أن نؤثر ونغيّر بدلاً من الشعور المتغلغل والدائم بالخوف والعجز المتسلط على كثيرين.

ولكن ما هي الأدوات التي يمكن استعمالها من أجل الفهم ثم المحاسبة؟ وهل ما زال للقانون الدولي فائدة ومعنى؟

ما يحصل في إدلب وغيرها من مناطق القتل والصراعات في العالم يجعل هذه الأسئلة في اللحظة الأولى فارغة ومنقطعة الصلة بالواقع. منذ نيسان/ أبريل هذا العام نزح قرابة خمس سكان محافظة إدلب، بينما تتوالى على رؤوس الناس قذائف مدمرة، غالبيتها العظمى من طائرات روسية وسورية حكومية، وبعضها لا شك من ميليشيات غالبيتها تدين بولاء أيديولوجي للقاعدة. لم يعد من قبيل التكرار وتأكيد المعلوم أن يقول الواحد المهتم منا إن الكشف عن مثل هذه الأعمال القذرة ومقاومتها بشتى السبل هو واجب أخلاقي نتحمله جميعاً. وبات من الضروري تذكير الحكومات بأنها بأفعالها أو بتغاضيها عما يحدث، تنتهك اتفاقيات القانون الإنساني الدولي التي وقّعت عليها دول العالم، بما فيها الفقرة الأولى المشتركة في اتفاقيات جنيف التي تلزم كل الدول الموقعة أن “تحترم وتكفل احترام”، هذه الاتفاقات هي التي تنظم سلوك الأطراف في حالة الحرب وتضع قيوداً عليها.

هناك بالطبع شكوك قوية ومبررة في فاعلية مثل هكذا اتفاقيات وأهميتها، بخاصة في العقدين الأخيرين، ولكن طالما ظل القانون وفكرته موجودين، أعتقد أنه سلاح يمكن استخدامه، وتحسينه وتغييره. 

لذا، فإن لجنة التحقيق الأممية التي ستبدأ عملها أوائل تشرين الأول/ أكتوبر مهمة في النضال من أجل قواعد يجب أن تحكم الحروب، أو من أجل تغيير هذه القواعد، أو من أجل إنفاذها بسبل أفضل، قبل أن نتخلى عن هذه المنظومة كلها، ونصير في عراء غير واضح يتحكم فيه أمثال بوتين وبشار تماماً.

القوانين في نهاية المطاف هي مدونات تتغير كثيراً مع تغير الضغوط الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. يمكن استغلال القوانين كأدوات لفرض نظام أو لقمع جماعات، ولكنها أيضاً أدوات يمكن أن يلجأ إليها الطرف الأضعف وضمان قدر ما من المحاسبة والمساواة أمام قواعد عامة. وهذه هي الفرصة التي تمنحها صراعات دموية ووحشية كتلك الدائرة في سوريا واليمن الآن، لأطراف من خارج الصراع في أنحاء العالم، كي لا نواصل الفرجة والشعور بالعجز. ومن هذا المنطلق فإن قرار الأمم المتحدة بتعيين لجنة تحقيق حول ما حدث في إدلب في الشهور القليلة الماضية، مسألة تستحق الترحيب والاستثمار فيها.

في إدلب “رابير” يُشبهها… غاضبٌ “على كل الجبهات”