fbpx

وثائق مسربة فضحت الحكاية السرية لـ”آبل” في جزيرة هوب

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!
"درج"

في أيار(مايو) 2013، كان الرئيس التنفيذي لشركة “آبل” تيم كوك غاضباً. جلس أمام اللجنة الفرعية الدائمة للتحقيقات التابعة لمجلس الشيوخ الأميركي، التي أنجزت تحقيقاً حول كيفية تجنب “آبل” عشرات المليارات من الدولارات المطلوبة للضرائب، عن طريق تحويل الأرباح إلى شركات تابعة إيرلندية، أسماها رئيس اللجنة الفرعية “الشركات الأشباح”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تحقيق: سيمون بويرز
في أيار(مايو) 2013، كان الرئيس التنفيذي لشركة “آبل” تيم كوك غاضباً.
جلس أمام اللجنة الفرعية الدائمة للتحقيقات التابعة لمجلس الشيوخ الأميركي، التي أنجزت تحقيقاً حول كيفية تجنب “آبل” عشرات المليارات من الدولارات المطلوبة للضرائب، عن طريق تحويل الأرباح إلى شركات تابعة إيرلندية، أسماها رئيس اللجنة الفرعية “الشركات الأشباح”.
وقال كوك: “ندفع كل الضرائب المستحقة علينا، كل دولار. نحن لا نعتمد على الحيل الضريبية… نحن لا نخبئ المال في بعض الجزر الكاريبية”.
وبعد خمسة أشهر، خضعت إيرلندا للضغط الدولي وأعلنت عن حملة ضد الشركات الإيرلندية، على غرار الشركات التابعة لشركة “آبل”، التي ادعت أن كل إيراداتها تقريباً لا تخضع للضرائب في إيرلندا أو في أي مكان آخر في العالم.
والآن تسلط وثائق مسربة حديثاً الضوء على كيفية استجابة الشركة المصنعة لـ”آي فون” لهذه الخطوة. على الرغم من الرفض العلني لرئيسها التنفيذي للجزر الملاذات، تبين أن “آبل” بدأت تبحث في هذه الجزر عن ملاذ ضريبي جديد.
تواصل مستشارو شركة “آبل”، العاملون في واحدة من أكبر شركات المحاماة في العالم، “بيكر ماكنزي” ومقرها الولايات المتحدة، مع أحد اللاعبين البارزين في العالم الخارجي، وهي شركة محاماة أخرى تُسمَّى “آبلبي”، تتخصص في إنشاء وإدارة شركات الملاذ الضريبي.
وحمل استبيان أرسلته “بيكر ماكنزي” عبر البريد الإلكتروني في آذار (مارس) 2014، 14 سؤالاً لمكاتب “آبلبي” في جزر كايمان، وجزر فيرجن البريطانية، وبرمودا، وجزيرة مان وغويرنسي وجيرسي.
وفي أحد الأسئلة، ورد ما يلي: “تأكدوا من أن الشركة الإيرلندية يمكنها القيام بأنشطة الإدارة… من دون أن تخضع للضرائب لدى سلطتكم”.
كما طلبت “آبل” تأكيدات بأن المناخ السياسي المحلي سيبقى ودوداً: “هل هناك أي تطورات تشير إلى أن القانون قد يتغير بطريقة غير مواتية في المستقبل المنظور؟”.
في النهاية، استقرت “آبل” على جزيرة جيرسي، وهي جزيرة صغيرة في القناة الإنكليزية، وهي مثل العديد من ملاذات منطقة البحر الكاريبي، لا تفرض أي ضريبة أرباح على معظم الشركات. وكانت جيرسي أدت دوراً مهماً في هيكل الضرائب الإيرلندي، المكون حديثاً لدى “آبل”. وفي ضوء هذا الإعداد، كانت الشركة المصنعة لـ”ماك بوك” قادرة على الاستمرار في التمتع بمعدلات ضريبية منخفضة للغاية على معظم أرباحها، وتحويل كثير من أرباحها غير الأميركية إلى كتلة من النقد في الخارج تساوي 246 مليار دولار. ولم يكن لحملة القمع التي شنتها الحكومة الإيرلندية على شركات الظل، في الوقت نفسه، أثر يُذكر.
القصة الحقيقية لبحث “آبل” عن جزيرة هي من بين الإفصاحات الخارجة من تسريب جديد للسجلات السرية للشركات، التي تكشف عن كيفية لعب لعبة الضرائب في الخارج من قبل شركات “آبل”و”نايكي” و”أوبر”، وشركات أخرى متعددة الجنسيات، وكيف ساعدتها كبرى شركات القانون على استغلال الثغرات بين قوانين الضرائب المختلفة في كل أنحاء العالم.
وتأتي الوثائق من الملفات الداخلية لشركة “آبلبي” العالمية للمحاماة في الخارج، وشركة “إستيرا” لخدمات الشركات، وهما شركتان عملتا معاً تحت اسم “آبلبي”، حتى استقلال “إستيرا” عام 2016. وتظهر الملفات كيف أدت “آبلبي”، وفي وقت لاحق “إستيرا”، دوراً في خلق العديد من الهياكل الضريبية عبر الحدود. وحصلت صحيفة “سودوتشيه تسايتونغ” الألمانية على السجلات، وشاركتها مع الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين وشركائها من وسائل الإعلام، بما في ذلك صحيفة “نيويورك تايمز”، و”إيه بي سي” في أستراليا، و”بي بي سي” في المملكة المتحدة، و”لوموند” في فرنسا، و”سي بي سي” في كندا.
تأتي هذه الإفصاحات، في الوقت الذي ينظر فيه البيت الأبيض والكونغرس الأميركي في خفض معدل الضريبة الفيدرالية الأميركية على دخل الشركات، ما يدفعها نزولاً من أعلى معدل لها، وهو المعدل الحالي البالغ 35% إلى 20% أو أقل. وأصر الرئيس دونالد ترامب على أن الشركات الأميركية تعاني غبناً من القواعد الضريبية الحالية.
وتظهر الوثائق أن العديد من الشركات الأميركية الكبرى، متعددة الجنسيات، تدفع في الواقع معدلات ضريبية منخفضة جداً، ويعود ذلك جزئياً إلى الهياكل المؤسسية المعقدة، التي أنشأتها بمساعدة شبكة عالمية من نخبة من المستشارين الضريبيين.
وفي هذا الصدد، أدت “آبل” دوراً رائداً. فلسنوات، أفادت الشركة المصنعة لـ”آي فون” أن ثلثي أرباحها كان يتحقق خارج الولايات المتحدة، ويخضع لضريبة بمعدل منخفض أو متوسط.
وعلى الرغم من وابل الانتقادات، والتغييرات في القانون الإيرلندي، وحكم الاتحاد الأوروبي ضد ترتيبات “آبل” في إيرلندا، تبين الوثائق المسربة كيف تمكنت “آبل” من الاستمرار في دفع الضرائب بمعدلات منخفضة للغاية.
الشركات متعددة الجنسيات، التي تجمع الأصول في الملاذات الضريبية، وتنفذ استراتيجيات تجنب عدوانيةً أخرى، تكلف الحكومات في كل أنحاء العالم ما يصل إلى 240 مليار دولار سنوياً في الإيرادات الضريبية المفقودة، وفقاً لتقدير متحفظ أصدرته عام 2015 منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي.
الإبداع المؤسسي
وتتيح الوثائق الجديدة التي استعرضها الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين ووسائل الإعلام الشريكة الأخرى، نظرةً ثاقبةً على كيفية عمل تلك الاستراتيجيات. وهي تظهر الأساليب الإبداعية التي تستنبطها الشركات الاستشارية استجابةً لمحاولات الهيئات الناظمة للقضاء على هذه الملاذات الضريبية.
وقال إدوارد كلينبارد، المحامي السابق للشركات، الذي يشغل حالياً منصب أستاذ قانون الضرائب في جامعة جنوب كاليفورنيا: “الشركات الأميركية المتعددة الجنسيات تدير مخططات عظمى لتجنب الضرائب، ما يستنفد ليس فقط عائدات الضرائب الأميركية، بل جمع الضرائب لمعظم الاقتصادات الكبرى في العالم”.
وتدرس إدارة ترامب والكونغرس، إذا كانت ستمنح إعفاءً ضريبياً لمرة واحدة من شأنه أن يسمح للشركات متعددة الجنسيات الكبرى، أن تعيد إلى بلادها ما يقدر بنحو 2.6 تريليون دولار أميركي، تم تخزينها في الشركات التابعة في الخارج لقاء معدل ضريبي منخفض بشكل حاد.
وقال كلينبارد إن احتمال حدوث تخفيضات ضريبية للشركات الكبرى “يرجو ببساطة الشركات أن تزيد استراتيجيتها للتهرب من دفع الضرائب أكثر من ذلك تحسباً لمزيد من الإعفاءات في السنوات المقبلة. وهو يزيل الضغط من أجل إصلاح حقيقي”.
ورفض المتحدث باسم شركة “آبل” الإجابة على قائمة من الأسئلة حول الاستراتيجية الضريبية الخارجية للشركة، إلا أنه قال إنها أبلغت الهيئات الناظمة في الولايات المتحدة وإيرلندا والمفوضية الأوروبية، بإعادة التنظيم الذي أجرته في الخارج. وقال المتحدث: “التغييرات التي قمنا بها لم تقلل من دفعاتنا الضريبية في أي دولة”.
وأضاف: “في آبل نحن نتبع القوانين، وإذا تغير النظام سنلتزم. ونحن نؤيد بقوة جهود المجتمع الدولي تجاه الإصلاح الضريبي الدولي الشامل ووضع نظام أبسط بكثير، وسنواصل الدعوة لذلك”.
ومن خلال نقل العلامات التجارية وحقوق براءات الاختراع، وغير ذلك من الأصول غير الملموسة إلى شركات خارجية بهدوء، تمكن العديد من الشركات العالمية الأخرى أيضاً من خفض فواتيرها الضريبية بشكل كبير.
تظهر الأوراق المسربة كيف أن الأصول الثمينة، بما في ذلك الحق في علامة “سووش” التجارية لـ”نايكي”، وتطبيق “أوبر” لاستدعاء سيارات الأجرة، وبراءات الاختراع الطبية التي تغطي كل شيء من البوتوكس إلى زراعة الثدي، يمكن تتبعها كلها إلى مبنى تجاري من خمسة طوابق في برمودا تحتله “آبلبي” و”إستيرا”.
يتم الاحتفاظ بملكية قاعدة بيانات المستخدمين في “فيسبوك” وتكنولوجيا المنصات لمعظم البلدان خارج الولايات المتحدة، وتبلغ قيمتها مليارات الدولارات، من خلال شركات ذات عنوان متواضع، على نحو مماثل في غراند كايمان، تستخدمه “آبلبي” و”إستيرا”. في حين أن مسار المال في “آبل” يمكن تتبعه إلى مبنى تستخدمه “آبلبي” و”إستيرا” في جيرسي، على بعد 19 ميلاً قبالة شواطئ شمال فرنسا.
تحدت الحكومات في كل أنحاء العالم بعض الهياكل الضريبية التي يحتفظ بها عملاء “آبلبي” و”إستيرا”، وإن لم يكن دائماً بنجاح. فـ”نايكي” انتصرت على خدمة الإيرادات الداخلية في الولايات المتحدة قبل سنة. ولا يزال النزاع بين “فيسبوك” وسلطات الضرائب الأميركية قائماً في المحكمة. وفي الوقت نفسه، تُلاحَق “أبل” بسبب 14.5 مليار دولار من الضرائب الإيرلندية غير المسددة، بعدما حكمت الهيئات الناظمة الأوروبية، أن إيرلندا منحت مساعدات حكومية غير قانونية، حين وافقت على هيكل الضرائب الخاص بـ”آبل”.
وتساعد الوثائق المسربة على تفسير كيف أن ثلاث سلطات صغيرة، هولندا وإيرلندا وبرمودا، أصبحت وجهات مقصودة للشركات الكبيرة، الباحثة عن تجنب الضرائب على الأرباح في الخارج. وتتقاسم هذه البقع الثلاث أقل من ثلث 1% من سكان العالم، لكنها تمثل 35% من كل الأرباح التي ذكرت الشركات الأميركية متعددة الجنسيات، أنها حققتها في الخارج العام الماضي، وفقاً لتحليل غابرييل زوكمان، الخبير الاقتصادي في جامعة كاليفورنيا فيبيركلي.
الكأس المقدسة
على مدى ثلاثة عقود، كانت الشركات الأميركية متعددة الجنسيات تزداد جرأةً، وتحول أجزاء ضخمة من الأرباح إلى الملاذات الضريبية. وتم تجاهل الشواغل حول تكتيكاتها إلى حد كبير، حتى تعرضت المالية الحكومية في كل أنحاء العالم لضغوط، في أعقاب الأزمة المالية عام 2008. وبدءاً من خريف عام 2012، جاءت هذه القضية في مقدمة التحقيقات الحكومية، ومداهمات المفتشين الضريبيين، والصحافة الاستقصائية، ووعود الإصلاح.
وبحلول الوقت الذي أصدرت فيه اللجنة الفرعية للتحقيقات في مجلس الشيوخ الأميركي 142 صفحةً من الوثائق والتحليلات حول الجلسة العلنية بشأن تجنب “آبل” للضرائب في أيار (مايو) 2013، كان العالم يولي اهتماماً بالموضوع. ووجدت اللجنة الفرعية أن “آبل” كانت تعزو مليارات الدولارات من الأرباح سنوياً لثلاث شركات إيرلندية تابعة لم تعلن “الإقامة الضريبة” في أي مكان في العالم.
وبموجب القانون الإيرلندي، يطلب من معظم الشركات القائمة في إيرلندا دفع الضرائب محلياً على أرباحها. لكن إذا كان المديرون قادرين على إقناع السلطات الضريبية الإيرلندية بأن الشركة “تُدار وتُحكم” في الخارج، فإنها غالباً تفلت من الضرائب على كل الأنشطة غير الإيرلندية.
وهذا ما فعله لأكثر من عقدين من الزمن، مديرو الشركات الإيرلندية الثلاث لـ”آبل”، بمن فيهم، ولسنوات عديدة، تيم كوك. ومن خلال إدارة هذه الشركات التابعة من مقر المجموعة في ولاية كاليفورنيا، تجنبوا الإقامة الضريبية الإيرلندية.
وفي الوقت نفسه، كان المديرون يعرفون أن شركاتهم الإيرلندية لن تكون مؤهلة للحصول على إقامة ضريبية في الولايات المتحدة، لأن قانون الضرائب الأميركي يعمل بشكل مختلف. فبموجب القواعد الأميركية، تكون للشركة إقامة ضريبية أميركية فقط إذا تم تأسيسها هناك.
وقال السناتور كارل ليفين (ديمقراطي من ميشيغان)، وهو رئيس اللجنة الفرعية في مجلس الشيوخ، خلال جلسة الاستماع عام 2013: “سعت آبل إلى الكأس المقدسة لتجنب الضرائب: فالشركات الخارجية التي تجادل بأنها ليست لأغراض الضرائب، غير مقيمة في أي مكان في أي دولة”.
وكان وزير المالية الإيرلندي آنذاك مايكل نونان، دافع في البداية عن سياسات بلاده قائلاً: “لا أريد أن أكون الصبي الذي يعزز بعض سوء الفهم في جلسة الاستماع في الكونغرس الأميركي”. لكن بحلول تشرين الأول (أكتوبر) 2013، ورداً على الضغط الدولي المتنامي، أعلن خططاً للاشتراط على الشركات الإيرلندية إعلان الإقامة الضريبية في مكان ما في العالم.
وفي ذلك الوقت، كانت “آبل” راكمت 111 مليار دولار نقداً، احتفظت بها كلها تقريباً شركات الظل الإيرلندية، بعيداً عن متناول السلطات الضريبية في الولايات المتحدة. وفي كل عام، نمت الكتلة أكثر وأكثرمع ضخ أرباح بمليارات الدولارات في هذه الشركات التابعة الخاضعة لضرائب منخفضة.
وأراد مسؤولو الشركة الاحتفاظ بالوضع بهذا الشكل.
لذلك سعت آبل إلى بدائل لتحل محل ترتيبات المأوى الضريبي التي ستُغلق في إيرلندا قريباً. في الوقت نفسه، ومع ذلك، أرادت الشركة المصنعة لـ”آي فون” إبقاء اهتمامها بالملاذات الخارجية سرياً.
وكما أوضح كاميرون أديرلي، الرئيس العالمي لقسم الشركات في شركة “آبلبي”، في رسالة إلكترونية إلى شركاء كبار آخرين: “بالنسبة إلى أولئك الذين لا يدركون الأمر، فإن المسؤولين في آبل حساسون للغاية بشأن الدعاية… كما أنهم يتوقعون مناقشة العمل الجاري من أجلهم فقط بين الموظفين الذين يحتاجون إلى معرفته”.
وبالنسبة إلى “آبلبي”، أوضح أديرلي أن هذه “فرصة هائلة لنا للتألق على الصعيد العالمي مع بيكر ماكنزي”.
ويُعتبَر دور “بيكر ماكنزي” في إنشاء منشآت خارجية للشركات متعددة الجنسيات، ثم الدفاع عنها، عند تحدي الجهات الناظمة للضرائب، أسطورياً. كما أن مكتب المحاماة شارك في الضغط ضد مقترحات للقضاء على تجنب الضرائب من جانب عمالقة التكنولوجيا. فهو يشغل 5,000 محام في 77 مكتباً في كل أنحاء العالم. ومن بين الشركاء السابقين كريستين لاغارد، وزيرة المالية الفرنسية السابقة والمديرة الإدارية لصندوق النقد الدولي اليوم.
وخلف الأبواب المغلقة، قررت شركة “آبل” أن هيكلها الضريبي الخارجي الجديد يجب أن يستخدم، بمساعدة “آبلبي” (وفي وقت لاحق “إستيرا”)، جيرسي، وهي واحدة من أكبر ملاذات الجزر التي لها صلات قوية بالنظام المصرفي في المملكة المتحدة، حيث تملك شركات “آبل” الإيرلندية الفرعية بالفعل حسابات. وجيرسي تابعة للتاج في المملكة المتحدة، لكنها تضع قوانينها الخاصة، وتحدد معدلات الضرائب الخاصة بها، ولا تخضع لمعظم تشريعات الاتحاد الأوروبي، ما يجعلها الملاذ الضريبي الشعبي.
الازدواج الإيرلندي
بينما تقدمت خطط “آبل” لاستخدام جزيرة في الخارج، ظهرت مشكلةً محتملة أخرى. في منتصف عام 2014، ومرةً أخرى تحت ضغط من حكومات أخرى، بدأ الوزراء الإيرلنديين استكشاف فرص فرض حظر على المأوى الضريبي المعروف باسم “الازدواج الإيرلندي”، وهي استراتيجية تجنب ضريبي تستخدمها العديد من الشركات، بما في ذلك “غوغل” و”فيسبوك” و”لينكد إن”، وغيرها من شركات التكنولوجيا، فضلاً عن صانعي الأدوية مثل “مختبرات أبوت”.
ويسمح “الازدواج الإيرلندي” للشركات بجمع الأرباح من خلال وحدة إيرلندية واحدة، توظف بالفعل أشخاصاً في إيرلندا، ثم توجيه هذه الأرباح إلى شركة تابعة لشركة إيرلندية ثانية تدعي إقامة ضريبية في جزيرة منخفضة الضرائب مثل برمودا أو غراند كايمان أو جزيرة مان.
وكان من الممكن أن تعرقل هذه الحملة خطط “آبل” الجديدة في جيرسي قبل أن ترى النور. وعلى الرغم من أن الحملة استهدفت الهياكل الإيرلندية المزدوجة، فإن التغيير المحتمل للقواعد يحظر على كل الشركات الإيرلندية المطالبة بالإقامة الضريبية في الملاذ الضريبي.
وفي حين أن الشركة المصنعة لـ”آي فون” لم تكن في وضع يسمح لها بالاحتجاج بصوت عال، تحدث آخرون. فقد كتبت تيريلا ويلينغا، رئيسة معهد التنفيذيين الضريبيين، إلى وزير المالية الإيرلندي نونان في تموز (يوليو) 2014، تحذر من أن فرض حظر على الهياكل الإيرلندية المزدوجة “قد لا يكون حكيماً”. وأضافت أنه إذا مضى الوزراء الإيرلنديون قدماً في الأمر، يُنصح بإدراج “فترة انتقالية كبيرة”.
ما لم تقله رسالتها، لكن أوراق “أبلبي” المسربة تظهره الآن، هو أن ويلينغا كانت تدير بهدوء هيكلاً إيرلندياً مزدوجاً منذ أمد طويل لشركة “أليرغان” المصنعة للبوتوكس، فكانت في ذلك الوقت تعمل كرئيس لقسم الضرائب. ولأكثر من عقد من الزمان، تحول هيكل الأرباح بعيداً عن إيرلندا، إذ تملك “أليرغان” مصنعاً للبوتوكس، إلى برمودا.
وحاول الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين الاتصال بويلينغا عن طريق البريد الإلكتروني لكنه لم يتلق رداً. ولم ترد “أليرغان” على أسئلة محددة حول الشؤون الضريبية، لكنها قالت: “تلتزم أليرغان بكل القوانين الضريبية والقواعد المحاسبية المعمول بها، وتدفع كل الضرائب المستحقة في كل الاختصاصات التي تمارس نشاطها فيها”.
وبدا أن الضغط كان يؤتي ثماره.
لقد أدرجت إيرلندا شرطاً سخياً للتعويض عن شركة أليرغان، وغيرها من الشركات متعددة الجنسيات باستخدام هياكل الضرائب الإيرلندية. وقال نونان في 14 تشرين الأول (أكتوبر) 2014: “بالنسبة إلى الشركات القائمة، سيكون هناك مادة لفترة انتقالية حتى نهاية عام 2020”.
وعلى نحو أدق، كشفت الوثائق الدقيقة عن أن أحكام الإعفاء ستطبق ليس فقط على الشركات القائمة عندما تحدث وزير المالية، لكن أيضاً على أي شركات جديدة ستنشأ بحلول نهاية العام 2014.
وأعطى هذا “آبل” ما يكفي من الوقت. ومع بداية العام 2015، أعادت هيكلة شؤونها في إيرلندا، بما في ذلك تأمين الإقامة الضريبية في جيرسي لشركة “آبل للمبيعات الدولية” و”آبل للعمليات الدولية”، وهما اثنتان من ثلاث شركات ظل إيرلندية سلط الضوء عليهما التحقيق في مجلس الشيوخ الأميركي العام السابق.
وعلى مدى السنوات الخمس الماضية، كانت “آبل للمبيعات الدولية” أكبر مولد للأرباح لشركة “آبل”، إذ ضخت أكثر من 120 مليار دولار، أو ما يقارب 60% من عائدات “آبل” في كل أنحاء العالم.
وفي الوقت نفسه، تم نقل كثير من تلك الأرباح كتوزيعات أرباح لشركة “آبل للعمليات الدولية”، التي وصفها كوك “بأنها تأسست لتوفير وسيلة فعالة للإدارة النقدية لشركة آبل”.
وقبل انتقالها إلى جيرسي، أدت الشركتان التابعتان دوراً رائداً في مساعدة “آبل” على تجميع مبلغ 137 مليار دولار نقداً، وكلها تقريباً جاءت من أرباح غير أميركية، بالكاد تخضع للضريبة من قبل أي حكومة في العالم.
وتشير أحدث الأرقام إلى أنه منذ إعادة تنظيم “آبل” شركاتها الإيرلندية، تضاعف هذا المبلغ تقريباً، على الرغم من أن “آبل” ترفض تأكيد أي من الشركات التابعة الأجنبية تملّك هذا النقد.
وجعلت هذه الكمية من المال عن غير قصد “آبل” واحدة من أكبر صناديق الاستثمار في العالم، وقد وضعت احتياطاتها النقدية في الخارج قيد الاستثمار في محفظة تشمل سندات الشركات والديون الحكومية والأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري.
في الوقت المناسب
لم تكن “آبل” الشركة المتعددة الجنسيات الوحيدة التي تحركت بسرعة للاستيلاء على فرصة أخيرة قبل فجر عام 2015.
قال مستشارون من شركة “دي إل إيه بايبر” الأميركية الكبرى للمحاماة لشركة “سيتيكسيس”، وهي مورد برمجيات بالتجزئة مقرها في نيويورك: “في نهاية عام 2014، تُغلق نافذة فرص”. وأطلقت “دي إل إيه بايبر” برنامجاً محموماً للمنشآت، ونقل الملكية الفكرية، كان يجب استكماله قبل العام الجديد لإقامة هياكل إيرلندية مزدوجة.
وكما أوضحت “دي إل إيه بايبر”، فإن هذا الترتيب “يجب أن يدار ويُحكم في سلطة للضرائب بنسبة 0% أو بنسبة منخفضة، مثل جزيرة مان، إذ يتم التعرف إلى الجزء الأكبر من الأرباح”. وبهذه الطريقة، ينتج الهيكل بأكمله معدلاً ضريبياً فعلياً متدنياً، يقارب 5% إلى 7%”.
اتصل الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين بـ”سيتيكسيس”، وغيرها من الشركات متعددة الجنسيات، التي ظهرت في هذه القصة. لم تستجب “سيتيكسيس” ورفضت “أوبر” التعليق. ورفضت “نايكي” و”فيسبوك” و”أليرغان” الإجابة على الأسئلة، لكنها قدمت بيانات عامة تقول إنها تمتثل تماماً للوائح الضريبية في البلدان التي تعمل فيها.
ورفضت شركة المحاماة “دي إل إيه بايبر” التعليق، بينما قالت “بيكر ماكنزي” إنها لا تناقش مسائل العملاء. ورفضت “آبلبي” الرد على أسئلة، لكنها قالت على موقعها على الإنترنت: “نحن مكتب محاماة في الخارج يقدم المشورة للعملاء حول الطرق المشروعة والقانونية اللازمة لإدارة أعمالهم”.
العثور على موطن
في حين يظهر هيكل “سيتيكسيس” الجديد تشابهاً قوياً مع الهياكل التي تتبناها “فيسبوك” و”غوغل” وغيرها، باستخدام “الازدواج الإيرلندي”، يمكن للترتيبات المعدلة لـ”آبل” أن تعمل بشكل مختلف. رفضت الشركة المصنعة لـ”آي فون” الإجابة على أسئلة الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين حول الإعداد الجديد، لكن يبدو أنه يعطي دوراً رئيسياً لشركة إيرلندية أخرى تابعة لـ”آبل”، وهي شركة تسمى “آبل للعمليات الأوروبية”.
وجنباً إلى جنب مع “آبل للعمليات الدولية” و”آبل للمبيعات الدولية”، قامت الشركة بتأسيس الشركات الإيرلندية الثلاث التي تعرضت لانتقادات من أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي عام 2013 كونها “شركات وهمية”، لا تملك إقامة ضريبية في أي مكان في العالم.
وبحلول العام 2015، أجبرت القوانين الإيرلندية الأكثر تشدداً الثلاثة على العثور على موطن ضريبي جديد. لكن بينما تولى الاثنان الآخران الإقامة في جيرسي، أصبحت “آبل للعمليات الأوروبية” تملك إقامة ضريبية في إيرلندا.
وهناك فكرة عن سبب رغبة الشركات متعددة الجنسيات أن يكون لديها فروع في إيرلندا يمكن العثور عليها مرة أخرى في إعلان ميزانية وزير المالية الإيرلندي نونان عام 2014.
وبينما ركزت عناوين وسائل الإعلام على قراره بالقضاء على الترتيبات الإيرلندية المزدوجة، لم يول إلا اهتمام أقل للتدابير الأخرى التي لم يرد ذكرها في خطابه المتعلق بالميزانية، لكن الواردة في وثائق السياسات المصاحبة لها. وعلى وجه الخصوص، كشفت الأوراق عن خطط لتوسيع نظام ضريبي سخي بالفعل للشركات، التي تجلب ممتلكات غير ملموسة إلى إيرلندا.
ويعني هذا الحافز، الذي يعرف ببدل رأس المال، أنه إذا اشترت شركة متعددة الجنسيات ممتلكاتها غير الملموسة من خلال شركة تابعة إيرلندية، فإن كلفة ذلك الشراء ستولد سنوات عديدة من الإعفاء الضريبي في إيرلندا.
وكان هذا الترتيب جذاباً بصفة خاصة بالنسبة إلى الشركات متعددة الجنسيات، التي يمكنها بيع ممتلكاتها غير الملموسة إلى إيرلندا من شركة تابعة في ملاذ ضريبي، فالربح من البيع سيصبح غير خاضع للضريبة.
وحتى قبل أن يجمّل نونان شروط هذا النظام الضريبي، اقترح بعض الخبراء أن الشركات المتعددة الجنسيات التي تحول الممتلكات غير الملموسة إلى إيرلندا يمكن أن تحقق معدلات ضريبية منخفضة تصل إلى 2.5%.
وعادةً تقوم الحكومات بتصميم بدلات رأسمالية لتشجيع الشركات على القيام باستثمارات باهظة الثمن في مصانع أو آلات جديدة تساعدها على التوسع. وهي ليست عادةً مصممة للشركات المتعددة الجنسيات التي تنقل أصلاً تملكه بالفعل من شركة إلى أخرى.
ورفضت شركة “آبل” الإجابة على أسئلة حول إذا كانت استفادت من هذا الإعفاء الضريبي، من خلال بيع بعض الحقوق لاستخدام ممتلكاتها غير الملموسة من جيرسي إلى إيرلندا.
من الواضح، على الرغم من ذلك، أن كمية كبيرة من الممتلكات غير الملموسة هبطت فجأة في إيرلندا في كل مراحل الفترة التي أعادت شركة “آبل” فيها تنظيم فروعها الإيرلندية الثلاثة. في الواقع، قفز الناتج المحلي الإجمالي للبلاد لعام 2015 بنسبة لا تصدق بلغت 26%، مدعومةً بنحو 270 مليار دولار من الأصول غير الملموسة، التي ظهرت فجأةً في الحسابات القومية في إيرلندا بداية العام، أي أكثر من القيمة الكاملة للعقارات السكنية في إيرلندا.
وسمى بول كروغمان، الخبير الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل، الأمر بـ”الاقتصاد الشيطاني”.
بعد مراجعة عدة أشهر لأرقام إيرلندا، أصدر المكتب الإحصائي الرسمي في أوروبا (يوروستات) بياناً يصف فيه السبب الرئيسي للقفزة في الناتج المحلي الإجمالي، بأنه “نقل عدداً محدوداً من المشغلين الاقتصاديين الكبار إلى إيرلندا”.
ورداً على سؤال عن وجهة نظره، قال وزير المالية السابق نونان: “حركة الملكية الفكرية إلى إيرلندا عام 2015 كانت باعتقادي تعود إلى حد كبير، إلى الاقتراحات حول إصلاح الممارسات الضريبية الدولية”. وأضاف: “إيرلندا من أهم الدول في تنفيذ إصلاحات [مكافحة الضرائب] التي اقترحتها منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي”.
وأضافت وزارة المالية الإيرلندية: “النظام الإيرلندي لبدلات رأس المال للأصول غير الملموسة يشبه إلى حد كبير الأنظمة المتاحة في بلدان أخرى، ولا يمنح أي مزايا إضافية للشركات متعددة الجنسيات”. ومع ذلك، في تشرين الأول (أكتوبر) 2017، عكست إيرلندا البنود المجملة التي أضافها نونان إلى الإعفاءات الضريبية قبل ثلاث سنوات.
وتقول “آبل” إنها بعد إعادة تنظيمها، باتت تدفع مزيداً من الضرائب الإيرلندية عن ذي قبل. وقالت “آبل” في بيان لها: “التغييرات التي قمنا بها لم تقلل من دفعاتنا الضريبية في أي دولة. وفي الواقع، زادت مدفوعاتنا إلى إيرلندا بشكل ملحوظ، وعلى مدى ثلاثة أعوام 2014 و2015 و2016، دفعنا 1.5 مليار دولار في الضرائب هناك، 7% من كل ضرائب دخل الشركات المدفوعة في ذلك البلد”.
لكن الشركة المصنعة لـ”آي فون” لا تزال ترفض إعلان يقول الربح المحقق من خلال الشركات الإيرلندية، ما يجعل من المستحيل معرفة إذا كان مبلغ 1.5 مليار دولار يساوي كثيراً من الضرائب في ثلاث سنوات أو لا.
إلا أن البيانات المالية لشركة “آبل” تشير إلى أنها استمرت في التمتع بمعدل ضريبي منخفض على عملياتها الدولية. فالشركة المصنعة لـ”ماك بوك” حققت 122 مليار دولار أرباحاً خارج الولايات المتحدة خلال فترة السنوات الثلاث التي تشير إليها “آبل”، وخضع المبلغ لضريبة 6.6 مليار دولار، أي بمعدل 5.4%.
ساهمت جيسي دروكر، وهي مراسلة في صحيفة “نيويورك تايمز”، في هذه القصة. [video_player link=”https://www.youtube.com/watch?v=r0_bjUM4LK8&feature=youtu.be”][/video_player]