fbpx

زمن السقوط المستمر من طلال حيدر إلى شيرين وإليسا

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

إذاً سقط طلال حيدر وسقط أدونيس، وحققا توازن السقوط المطلوب، حتى يبقى العالم ببشاعته يسير في مكانه، بين أنظمة ديكتاتورية متصارعة يمتدحها شعراء كبار، وبين ملوك ورؤساء توزّع عليهم النياشين والمدائح، وتُدار الظهور للوجع الإنساني والحروب التي يقودها هؤلاء والمعارك التي يحرقون فيها الأرواح وقوداً لطائراتهم.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]
طلال حيدر في ملتقى ألقى فيه قصيدة مديح بولي العهد السعودي محمد بن سلمان

في شارع الحمراء، جلس شعراء شباب في قهوةٍ على الرصيف. كان الحديث عن شاعر سقط، وهو شاعر يكبر الشباب عمراً وخبرةً ووزناً. لكنه سقط.

سقط طلال حيدر لا لأنه ألقى قصيدةً في حب ملوك السعودية، كان يمكن أن يلقيها المتنبي لو كان حاضراً الآن أو غيره من الشعراء الذين تزلّفوا عبر التاريخ. طلال حيدر سقط لأنه لعب بالوقت وأعاد عقاربه إلى الخلف، وأصبح من شعراء البلاط، أيّ بلاط، الذين تفرد لهم في دروس الأدب أجنحة صغيرة، مفادها قصيدة مديح مقابل المال. والملوك لا يحبّون شيئاً كحبّهم المديح. سأل أحدهم: “كيف لمن كتب (بغيبتك نزل الشتي قومي اطلعي عالبال في فوق سجادة صلا واللي عم يصلوا قلال) أن يكتب قصيدة في حب النظام المتهم بتقطيع جسم الصحافي جمال خاشقجي بالمنشار؟”. وقال آخر: “إنه المال!”. مؤلم أن يكون حديث كهذا عن طلال حيدر، بغض النظر عن مدى صحّته…

قبل هذا السقوط، تجمّع شبانٌ آخرون في حمص أو في الحمراء أو في مخيّمٍ للجوء، وأعلنوا سقوط شاعر كبير آخر، هو أدونيس يوم أعلن انحيازه لبشار الأسد قاتل أطفال بلاده ومفجّر براميل الموت في وجوههم.  

إذاً سقط طلال وسقط أدونيس، وحققا توازن السقوط المطلوب، حتى يبقى العالم ببشاعته يسير في مكانه، بين أنظمة ديكتاتورية متصارعة يمتدحها شعراء كبار، وبين ملوك ورؤساء توزّع عليهم النياشين والمدائح، وتُدار الظهور للوجع الإنساني والحروب التي يقودها هؤلاء والمعارك التي يحرقون فيها الأرواح وقوداً لطائراتهم. 

 

في بلاد تكثر فيها أسباب الاختناق، كان يمكن أن يكون الفن مساحة نهرب إليها، ليقول كل واحد ما يشاء من دون أن يحتاج إلى مسايرة ملك يظلم شعبه أو مغازلة رئيس فاشل. لكن يبدو أن بلادنا ستواصل الاختناق وسيواصل كثيرون التساقط!

 

في حفل في جدة بمناسبة اليوم الوطني السعودي، قررت الفنانة المصرية شيرين عبد الوهاب أن تستلحق نفسها وألا “تسقط” من جديد، بعدما تعرّضت للكثير بسبب إبدائها آراء سياسية.

منعت نفسها هذه المرة من الوقوع في أي حفرة أو زلة لسان. قالت بصراحة إنها عاهدت نفسها بعدم التعبير عما تفكّر فيه وما تشعر به، فطلبت المساعدة من زوجها الفنان حسام حبيب، وقالت: “عشان مثقف وبيعرف يتكلم”. بدت ضعيفة حتى الهشاشة والخوف، وهي تطلب بصوت يترنّح، النجدة من صوت آخر، حتى لا تقول أي شيء. دخل حبيب إلى المسرح لينجّي شيرين من عفويتها وصدقها، إذ سبق أن دفعت ثمنهما غالياً. قبّلت يده، وقال حبيب “ما يجب أن يقال”. شكر السعودية وملكها وولي عهدها محمد بن سلمان، وهو ما فعله كل الفنانين الذين غنوا على مسارح السعودية منهم ماجدة الرومي. أصبح ذلك تقريباً قاعدةً عامة، وتعابير من قبيل “مملكة الخير” و”وطني الثاني”، باتت فولكلوراً يصاحب الحفلات الغنائية في السعودية وسواها. ووجّه حبيب رسالة إلى مصر مؤكداً وقوفه وشيرين إلى جانب الوطن و”الريّس” والجيش. وإذ حاولت شيرين أن تقول شيئاً ما، غلبتها دموعها وسقطت!

الرعب الذي بان على وجه شيرين في الفيديوات التي انتشرت في السوشيل ميديا يعود إلى عام 2017، حين تحوّل “تويتر” إلى محاكمة مفتوحة، حين قالت شيرين إنّ من يشرب من نهر النيل يصاب بالبلهرسيا، وكان ذلك في حفل في الشارقة. في مرة أخرى، قبل أشهر قليلة، تحدثت في حفل لها في البحرين عن تكميم الأفواه في بلادها. كان ذلك أشبه بنكتة، لكن النكات بطبيعة الحال ممنوعة إذا كانت تمس الملوك والعروش. فما بالك إن جاءت على لسان فنانة لها متابعون وناس؟

بدت شيرين في حفلها الأخير في جدة مثيرةً للشفقة حقاً تماماً كما بدا طلال حيدر وهو يلقي قصيدته المشينة. إنما يمكن في مكان استيعاب صعوبة ما تمر به، بعد ما تعرّضت له من تهديدات وإهانات ومطالبات بإيقافها عن الغناء، بسبب أرائها.

https://www.youtube.com/watch?v=fqIIDFisgiw

في زمن السقوط هذا، تعرّضت الفنانة إليسا لمحاولة إسقاط أيضاً. وقع صدام كلامي على “تويتر”، بينها وبين رئيس هيئة الترفيه السعودية، تركي آل الشيخ.

يُطلَب من الفن أن يكون كذوباً، وألا يُشبه نفسه وأن يفقد المعنى، ويدخل في بوتقة التهليل والتبجيل الرائجة. ويكون على الفنان أن ينسى حريّته في بيته قبل أن يصعد إلى المسارح، وأن يكون جاهزاً لحفلة مسايرة ضرورية، حتى تواصل الأرض الدوران وحتى تسير الأمور على ما يرام.

البداية كانت بتعليق من أحد مُعجبي إليسا على تغريدة لآل الشيخ، طالبه فيها باستضافتها في موسم الرياض. وردت إليسا، قائلة: “عندما ترغبون في مشاهدتي في حفل، سيحصل ذلك في الوقت المناسب، لا تطلبوا ذلك من أي شخص، لأنني أكون في المكان الذي أستحق أن أتواجد فيه”.

ورد رئيس هيئة الترفيه السعودية، “عشان كذا لم تستحقي أن تُدعي!”. 

وقالت إليسا في تغريدة لاحقة: “أكّن كل محبة وتقدير للمملكة العربية السعودية ولشعبها والوقت الذي ترونه مناسباً لوجودي بينكم سأفعل بكل محبة”. فرد آل الشيخ: “ايوه كذا بوضوح… أحب المملكة وفي الوقت الي بنطلب فيه أنا جاهز”.

إنه حوار مؤسف حقاً بين فنانة ومسؤول سعودي، حيث لغة الامتلاك واضحة في حديث تركي آل شيخ، وهي لغة رائجة في بلاد المال الكثير، فيما حاولت إليسا أن تلتقط أنفاسها في كل تغريدة.

في زمن السقوط الراهن، يدفع الفنان ثمناً باهظاً بسبب موقف حر، وقد يُعتقل أو يسجَن أو يضطهد. في زمن السقوط يُطلب من الفنان مهما علا شأنه أن يقدّم الطاعة ويبتسم في وجه مسؤولين ورؤساء ربما لا يستحقون أي تقدير. ويُطلَب من الفن أن يكون كذوباً، وألا يُشبه نفسه وأن يفقد المعنى، ويدخل في بوتقة التهليل والتبجيل الرائجة. ويكون على الفنان أن ينسى حريّته في بيته قبل أن يصعد إلى المسارح، وأن يكون جاهزاً لحفلة مسايرة ضرورية، حتى تواصل الأرض الدوران وحتى تسير الأمور على ما يرام.

حملة تضامن فنية؟

في مصر، قوبلت حملة الاحتجاج ضد ممارسات نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي القمعية، بحملة تضامن “فنية”، بدا جلياً أنها بإيعاز من المكاتب الأمنية والاستخباراتية. جنّد فنانون وممثلون أنفسهم من أجل السيسي ونظامه العسكري، في مواجهة رجل الأعمال والفنان، محمد علي، الذي تلقى فيديواته رواجاً واسعاً في مواقع التواصل الاجتماعي وفيها فضح مشاريع وقصوراً وهدراً للمال العام بتوقيع السيسي.

وسجّل فنانون مصريّون فيديو للدفاع عن السيسي، من بينهم: محمد فؤاد، بيومي فؤاد، حجاج عبد العظيم، أحمد بدير، شعبان عبد الرحيم، حسام داغر، أحمد شيبة، محمد لطفي، أحمد فلوكس، حكيم، محمود عبد المغني، هنادي مهنا، هاني شاكر، وطارق عبد الحليم.

وأطلق هؤلاء الفيديو، تحت وسم “إحنا معاك يا ريس”، قالوا فيه “إحنا معاك وفي ظهرك يا ريس… الشعب معاك والجيش خط أحمر… ويسقط كل خائن”.

أما الفنان الشعبي شعبان عبد الرحيم، فذهب أبعد من ذلك، وأعلن أنه سيطلق أغنية ضدّ محمد علي!

من غنّى للرؤساء؟

لم يخلُ بلد عربي واحد ربما من أغاني الرؤساء، التي عرفت رواجاً فاق أحياناً كثيرة الأغاني العاطفية وتلك التي تشيد بالوطن ومن ضحّى ومات لأجله.

عهد الملك فاروق في مصر كان بداية ظهور مثل تلك الأغاني، فكوكب الشرق أم كلثوم غنت مجموعة من القصائد في تمجيد فاروق أطلق عليها إسم “الفاروقيات”، من بينها قصيدة “الملك بين يديك” لأمير الشعراء أحمد شوقي، و”اجمعي يا مصر أزهار الأماني” من كلمات أحمد رامي وبعدها غنت لجمال عبدالناصر ..
أما موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب فقدم أغنية “الشباب” من كلمات صالح جودت بمناسبة جلوس الملك على العرش. وقدم من كلمات صالح جودت أغنية “الفن” التي يقول فيها: “والفن مين انصفه غير كلمة من مولاه، والفن مين شرفه غير الفاروق ورعاه”.

كما قدم الفنان عبد الحليم حافظ أغنيات كثيرة في حب جمال عبد الناصر، منها  “يا جمال يا حبيب الملايين“، “ناصر يا حرية“، “صورة“، “يا أهلاً بالمعارك“، “بستان الاشتراكية”. 

أما في حب آل الأسد ولا سيما حافظ، فنظمت قصائد كثيرة ولحّنت مئات الأغنيات على مدى عقود من الحكم. ومن بين الفنانين الذين قدموا أعمالاً من هذا النوع، مصطفى نصري وابنته أصالة (لبيك يا وطن الأباة)، إضافة إلى ميادة الحناوي (جبهة المجد، سوريا يا حرية)، وجورج وسوف (تسلم للشعب، وهاني شاكر (جنة المواعيد)، ونجوى كرم (بنرفع أيدينا)….
في العراق، حكم الرئيس صدام حسين البلاد لنحو ربع قرن من الزمن حفلت بالتمجيد المطلق له، حتى لم يبق فنان عراقي تقريباً لم يغنِّ له، بدءاً من كاظم  الساهر (هله يالناذر عمره)، إلى سعدون جابر (تهنّن يا خوات صدام)، (يا ساري بينا للمعالي) وغيرهما. 

في لبنان، تنتشر الأناشيد الحزبية، التي تمجد قادة التيارات والأحزاب، وقد حاز الرئيس الحالي ميشال عون حظاً وافراً من الأغنيات، قبل تسلمه سدة الرئاسة وحتى اليوم، منها، “عونك جايي من الله”، “طل القائد عون” وغيرهما.
في بلاد تكثر فيها أسباب الاختناق، كان يمكن أن يكون الفن مساحة نهرب إليها، ليقول كل واحد ما يشاء من دون أن يحتاج إلى مسايرة ملك يظلم شعبه أو مغازلة رئيس فاشل. لكن يبدو أن بلادنا ستواصل الاختناق وسيواصل كثيرون التساقط!

المثقف الخبيث!