fbpx

من وحي الأدب الروسي: الرقيب يعرف كل شيء

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

سأل بريشيبيف مستنكراً: “هل لديهم حق قانوني للتجمهر، هل مسموحٌ أن يتجمعوا كالقطيع؟”، صرخ الرقيبُ فيهم أن يتفرقوا. و”أمر” جندي الدورية بأن “يذيقهم طعم العصا”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كصورةٍ التقطتها عدسةُ مصوّرٍ ماهر في اللحظة المؤاتية، تختزل القصة القصيرة الجيدة ما يتطلب وصفه مجلّدات، وقلائل فاقوا الروسي أنطون تشيخوف (1860-1904) في عبقرية شرحه واختصاره في آنٍ معاً المجتمع الذي عاصره. كثيرٌ مما كتبه تشيخوف سيرى فيه القارئ المعاصر، العربي وغير العربي، ما عاشه ويعيشه. لكن نصاً بعينه، يقع في بضع صفحات، يصارحنا أكثر من غيره.

الكاتب الروسي أنطون تشيخوف

يقف الرقيب بريشيبيف Sergeant Prishibeyev، (بحسب الترجمة الإنكليزية)، الشخصية الأساس في قصة تشيخوف التي تحمل الاسم ذاته (المنشورة 1885)، أمام القاضي متّهَماً بالاعتداء على ضابط شرطة وشيخ قريته وآخرين. “هل تقر بالذنب؟”، يسأله القاضي. يرد صاحبنا، ضابط الصف المتقاعد، منتصباً متخشباً كما لو أنه في ساحة تدريب عسكري، بصوتٍ جهير ولغةٍ متقعرة: “الشهادات لا بد أن تؤخذ متزامنة وبشكل متعدد مع أخذ كل الظروف في الاعتبار، ومن ثم، بناء عليه سيدي القاضي، لست أنا المذنب، بل هم”. شرع الرقيب، الذي نفهم ضمناً أنه أمضى جُل حياته في الجيش القيصري الروسي، في سرد أدلة براءته وذنب الآخرين جميعاً. يوم الأحداث التي تناقشها القضية، كان يتنزه في “هدوءٍ ووقار” مع زوجته حين رأى جمعاً من الناس عند ضفة النهر. قبل أن يعرف سبب تجمهر أبناء قريته، كما روى للقاضي، سأل بريشيبيف مستنكراً: “هل لديهم حق قانوني للتجمهر، هل مسموحٌ أن يتجمعوا كالقطيع؟”، صرخ الرقيبُ فيهم أن يتفرقوا. و”أمر” جندي الدورية بأن “يذيقهم طعم العصا”. قاطعه القاضي ليخبره أن هذا ليس من شأنه؛ وكأنما كان كل أبناء القرية ينتظرون سماع هذه الكلمات. “ليس من شأنه، ليس من شأنه”، ردد الحاضرون، ثم استطرد أكثر من صوت: “ما من أحدٍ يستطيع العيشَ معه في العالم نفسه! خمسة عشر عاماً منذ خروجه من الجيش… ولا هم له سوى تعذيبنا”. ثم تبعهم شيخ القرية: “الكل يعاني الأمرّين… لا نستطيع التنفس في وجوده؛ إن سرنا في موكب (ديني) حاملين الأيقونات، أو تجمعنا في عرس، أو أي مناسبةٍ كانت… يصرخ فينا ويصدر الأوامر. يشد آذان الصغار ويتجسس على النساء… كـأنه حمو كل واحدة منهن. بل إنه منذ أيامٍ طاف على البيوت آمراً الجميع ألا يغنوا أو يشعلوا ضوءاً”. “انتظر”، قاطع القاضي شيخ القرية، “ستُتاح لك فرصة الشهادة لاحقاً… أكمل يا بريشيبيف”. “نعق” الرقيب، كما يقول تشيخوف، مخاطباً القاضي: “ترون أن فض تجمعٍ ليس من شأني، لكن لنفترض حدوث بلبلة وإخلالٍ بالهدوء؟ لا يمكنك السماح للناس بالتصرف بهذا الشكل غير اللائق”. ثم سأل العسكري المتقاعد، في صيغة يعرّفها أهل علم البلاغة بأنها استفهام غرضه الإنكار (أو ربما الاستنكار): “أي قانونٍ هذا الذي يقول إن الناس أحرار؟ أنا لن أسمح بذلك”. ثم يستطرد ليشرح لِمَ هو، دون غيره، المؤهل لممارسة سلطته: “إن لم أطاردهم وأعاقبهم، من سيقوم بذلك؟ ما من شخص في القرية يعرف شيئاً عن القانون والنظام سواي. أنا فقط من يجيد التعامل مع العوام”. ثم يضيف بثقة: “سيادة القاضي ليس هناك شيء لا أعرفه”. الرقيب يعرف كل شيء، وهو قطعاً لا يخطئ أبداً، كيف يخطئ من لديه كل هذا العلم؟ بريشيبيف مؤمنٌ بعلمه الكامل وعلى يقين منه، هو مخلصٌ تماماً في ما يقوله. مأساته تسبق قسوته على ضحاياه وتدعونا للأسى عليه مثلما تغرينا بالسخرية منه.

غلاف رواية الرقيب بريشيبيف

يعدد ضابط الصف تجارب سنواته الطويلة خادماً مطيعاً في جيش القياصرة من آل رومانوف. ثم يختم “سابقة الخبرة” بالتأكيد مرة أخرى “أنه يعرف كل القوانين واللوائح”، ومن ثم “فعلى كل فلاحٍ جاهل أن يفعل ما آمره به، لأن هذا في صالحه”. ولأن صاحبنا يعرف “كل القوانين”، بل يعرف كل شيء، ومن صالح الجهلة أن يطيعوه، شرح للقاضي كيف أصدر توجيهاته لمن حضر من المسؤولين عند رؤية هذه الجثة، وكيف تجاهله هؤلاء ساخرين، ما أثار غضبه وصولاً إلى الاعتداء عليهم بالضرب، بخاصة أن أحدهم جرؤ وقال إن هذا الأمر، وما يعنيه من جريمة قتل محتملة، ليست من اختصاص قاضي الناحية. هكذا قال مخاطباً من يقول إنه غضب له: قاضي الناحية. أيضاً يوضح للقاضي أنه لم يضربهم “بشدة”، فهو مع علمه الكامل وعلى رغم غضبه الجامح رجلٌ رحيم.

يشكو الرقيب للقاضي، وهو من أمضى حياته في العسكرية، اضطراره مجبراً لأداء دوره. فحتى حين كان حارساً في مدرسة بعد تقاعده كان هناك دوماً سلطة أعلى (تعرف كل شيء أيضاً، ربما) يمكنه اللجوء إليها لتعينه على فرض النظام. أما في القرية، حيث هو العالم الوحيد والعارف الأوحد، فلمن يلجأ؟ مشهد التجمهر حول جثة الغريق وردود ضابط الشرطة وشيخ القرية عليه جعلت دمه “يغلي”، لماذا؟ “أجنتني الطريقة التي يؤكد بها الناس حقوقهم هذه الأيام وكيف يرتكبون أفعالاً ملؤها التمرد”. ثم عاد ليدافع عما فعله: “كنت في حالة من الجنون سيادة القاضي. إنه أمرٌ مفهوم. لا بد أن تضرب الناس أحياناً، خطيئة ستؤرق ضميرك ألا تضرب هؤلاء الخرقى، بخاصة إن أثاروا الفوضى واستحقوا ذلك”.

يستوقفه القاضي مرة أخرى، “هناك آخرون مهمتهم حفظ الهدوء واستتباب الأمن”، لكن “عارف كل شيء” لا يكل: “لكن الضابط (من الشرطة) لا يمكنه أن يتابع كل ما يجري، وهو لا يفهم الأمور كما أفهمها أنا”. يكرر القاضي: “هل عنَّ لك أن هذا ليس من شأنك؟” هنا يغضب الرقيب: “ما هذا سيدي، ليس من شأني؟ غريبٌ أن تقولوا ذلك، يثيرُ الناسُ الفوضى والأمر ليس من شأني! أمفترضٌ أن أربت على رؤوسهم؟ يشتكون أنني أمنعهم من الغناء؟ أي خيرٍ في الأغاني؟ بدلاً من قضاء الوقت في شيء مفيد، يغنون! بل إنهم مؤخراً، بدلاً من النوم، يضيئون لياليهم ويتسامرون ويتبادلون النكات. لقد كتبت تقريراً عن ذلك”. “ماذا كتبت؟”، سأله القاضي. وكما لو كان يخرج تقريراً لقائده في المعسكر عن انضباط زملائه أو عدمه، أخرج الرقيب ورقةً مُكرمشة قذرة وارتدى نظارته وبدأ يقرأ قائمة بأسماء من ارتكبوا جرم السهر وإضاءة الليالي، ولأنه “كبير العائلة” إضافة إلى كونه عارفَ كل شيء، أضاف اسم أرملة تعيش “في الحرام” مع أحدهم، ثم اسم آخر يمارس السحر واسم زوجته التي “تسرق لبن أبقار الآخرين ليلاً”. هنا استوقفه القاضي بغضب: “هذا يكفي”.

يشكو الرقيب للقاضي، وهو من أمضى حياته في العسكرية، اضطراره مجبراً لأداء دوره. فحتى حين كان حارساً في مدرسة بعد تقاعده كان هناك دوماً سلطة أعلى  يمكنه اللجوء إليها لتعينه على فرض النظام.

احمرّ أنف الرقيب وجحظت عيناه في ذهول، كان واضحاً أن القاضي ليس في صفه. استغرب همهمات الشهود وضحكاتهم المكتومة، أما الحكم فصدمه: الحبسُ شهراً. “لماذا؟ لماذا؟ بأي قانون؟”، سأل الرقيب الذي اكتشف فجأة أن هناك ما لا يعرفه. عاش حياته كلها بقوانين المعسكر، فلِمَ لا يلتزمُ الكلُ الصوابَ الذي عرفَه وجرّبه؟ أنى له أن يعيش في عالمٍ كهذا؟ اسودت الدنيا في وجهه. لكن ما إن خرج من قاعة المحكمة ورأى الفلاحين أبناء قريته يتسكعون ويتحادثون حتى وقف شاداً جسده في وضع الانتباه العسكري وصرخ فيهم: “تحركوا! لا تتجمهروا! عودوا إلى بيوتكم!”.

تُرى كم بريشيبيف عرفنا في أنفسنا، وبيننا، ومُتسلطاً علينا؟

الوسيلة الأفضل للتعامل مع روسيا… انتظار انهيارها