fbpx

يوم كان للسياسة… عقل!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

هذا هو الانطباع الشعبيّ الواسع. نظريّة المؤامرة عزّزت هذا الانطباع: “لا بدّ أن يكونوا أذكياء إلى الحدّ الذي يجعلهم يبدون أغبياء! إنّهم من الذكاء إلى درجة يستطيعون معها أن يتغابوا”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

هل تظنّون أنّ السياسيّين أذكياء؟
هذا هو الانطباع الشعبيّ الواسع. نظريّة المؤامرة عزّزت هذا الانطباع: “لا بدّ أن يكونوا أذكياء إلى الحدّ الذي يجعلهم يبدون أغبياء! إنّهم من الذكاء إلى درجة يستطيعون معها أن يتغابوا”.
تجربتي الشخصيّة تحمل على افتراض العكس. أذكر، مثلاً، قبل عقد ونيّف، أنّ التفكير بالسياسيّين بدا لي سبباً وجيهاً لليأس من العقل. قلت لنفسي، وأنا أحسب مستويات انتمائي مستوىً مستوى: أنا كعكّاريّ، أجد أن السيّد عصام فارس، نائب رئيس الحكومة، أهمّ سياسيّ في عكّار. وكشماليّ، أعتبر السيّد عمر كرامي، رئيس الحكومة، أهمّ سياسيّ في الشمال. وكلبنانيّ، أعترف بأن السيّد إميل لحّود، رئيس الجمهوريّة، أهمّ سياسيّ في لبنان. وكعربيّ، فإنّ رئيس جمهوريّة مصر، السيّد حسني مبارك، هو حكماً أهمّ سياسيّ في العالم العربيّ. وكمواطن عالميّ، يبقى السيّد جورج دبليو بوش، رئيس أميركا، أهمّ سياسيّ في العالم.
ما المشترك بين هؤلاء السادة الذين يتحكّمون بحياتي في مستوياتها المتعدّدة؟ نقص فادح في الذكاء، إن لم نقل: في العقل نفسه.
ومَن يطبّق هذه الحسبة نفسها اليوم يزداد يأساً، إذ حلّ السيّد عبد الفتّاح السيسي محلّ مبارك، والسيّد دونالد ترامب محلّ بوش… وهكذا نهبط سنةً بعد أخرى إلى وادٍ قد لا يكون له قعر.
هل هؤلاء كلّهم أذكياء إلى الحدّ الذي يجعلهم يمثّلون دور الأغبياء بكفاءةٍ منقطعة النظير؟ أشكّ كثيراً في ذلك، وأظنّ أن تحليلاً كهذا يبالغ في حذلقةٍ تنمّ عن أمر من اثنين: إمّا ضعف في الذكاء عند أصحاب ذاك التفسير، أو غربة كاملة عن السياسة تفترض أنها أشبه بالسحر.
ومع أنّني لا أحبّ مطلقاً أن أتفوّه بكلمة مديح للسيّد دونالد ترامب (وإذا فعلتُ، فالويل لي من زميلتي ديانا مقلّد)، فإنّني سأعترف هنا بأنّ للرجل فضيلة واحدة: لقد نزع شيئاً من السحر عن السياسة، إذ كشف لنا، وعلى مستوى كونيّ وبإيقاعٍ يوميّ، أن السياسيّ “العظيم” يمكن أن يكون حماراً. لا بل برهن لنا ترامب بأن التفوّق في الحمرنة قابلٌ – في ظروفٍ معيّنةٍ – أن يُصرف نجاحاً في السياسة، أي إقامةً هانئةً في البيت الأبيض.
ولأعترفْ اعترافاً آخر، هو أنّني استخدمت تعبيري “حمار” و”حمرنة” غير اللائقين لأنّني مكبوت وممنوع، على مدى عشرات السنوات، من استخدام تعابير كهذه في الصحافة التقليديّة، التي تراعي الأعراف الخشبيّة الموصوفة بالرصانة. وبما أنّ القيّمين على موقع “درج” أعطوني ضماناتٍ بأنّهم ينوون مكافحة الحمرنة بلا هوادة، فإنّني أقدمت على ارتكاب هذه الأوصاف.
لكنْ، ولغرض معالجة يأسنا المتزايد من السياسة، اسمحوا لي أن أذكّركم بأنّ ما يسمّيه البعض “علم السياسة”، يرقى بأصوله إلى أوائل القرن السادس عشر. وهو ما يُعزى تأسيسه إلى الفلورنسيّ نيكولو ماكيافيللي الذي استقلّ به عن الدين والأخلاقيّات، قبل أن يتعهّده الفرنسيّ جون بودان بنظريّته في “السيادة”. وعلى مدى القرون عرفت السياسة بعض أذكى الناس وأوفرهم عقلاً ممّن لا يمتّون بصلة إلى تلك اللائحة المذكورة أعلاه.
وعلى مدى هذه القرون، لم يظهر سياسيّون كبار فحسب، بل ظهرت نظريّات وأفكار سياسيّة كبيرة أيضاً، كلّ واحدةٍ منها تذكّرنا، على نحو ضديّ، بأحد “عباقرة” زمننا الراهن. فترامب، مثلاً، يذكّر عكسيّاً باسم لا بدّ تعرفونه، هو: جورج كينان، الذي كان موظّفاً في السفارة الأميركيّة في موسكو في الأربعينات. قناعته كانت أنّ الاتحاد السوفياتي، الفاشل كنموذج في مواجهة الولايات المتّحدة، يعمد إلى تخريب النماذج الديمقراطيّة التي لا يستطيع أن ينافسها: يخرّبها بالدسّ. بالدعاية الكاذبة. باختلاق الأخبار وتضخيمها…
عام 1946، وفي برقيّةٍ طويلةٍ باتت شهيرة، جادل كينان بأنّ الاتحاد السوفياتي لن يهاجم الولايات المتّحدة عسكريّاً، لكنّه سيبذل كلّ جهده لتحطيم قدرات البلدان الغربيّة، وضرب معنويّاتها، ومفاقمة توتّراتها الاجتماعيّة، وإثارة التناقضات بين شعوبها ودولها. وبالفعل كان الكي جي بي يومها يملك دائرةً خاصّةً اسمها “إجراءات نشطة” (active measures)، هدفها إضعاف الغرب الديمقراطيّ. وقد تبيّن أنّ هذه الدائرة وزّعت رسائل مزيّفة نسبتها إلى عنصريّي الكو كلاكس كلان، ونشرت قصصاً مؤدّاها أنّ الولايات المتّحدة اخترعت مرض الإيدز كسلاح بيولوجيّ، وأنّ السي أي آي هي التي اغتالت جون كينيدي…
لكنّ كينان استنتج في برقيّته إيّاها، التي وقّعها بـ X، أنّ قدرة أميركا على تعطيل هذه المحاولات السوفياتية لا تكمن في العسكر والقوّة، ولا حتى في الديبلوماسية، بل في الأفكار التي تمنح المجتمع صحّته ومتانته: “فكلّ قرار شجاع وحادّ التأثير في حلّ المشاكل الداخليّة لمجتمعنا، ولتحسين ثقتنا بالنفس (…) هو انتصار ديبلوماسيّ على موسكو… فينبغي أن نتمتّع بالشجاعة والثقة بالنفس كي نتمسّك بمناهجنا وتصوّراتنا عن المجتمع الإنسانيّ. وفي النهاية، سيكون الخطر الأكبر علينا، في تعاملنا مع مشكلة الشيوعيّة السوفياتية، أن نسمح لأنفسنا بأن نصبح مثل أولئك الذين نتعامل معهم”.
ومثلما عاشت فبركة الأخبار السوفياتية طويلاً، وبعضها لا يزال على قيد الحياة، استأنف السيّد فلاديمير بوتين ذاك التقليد السوفياتي، وعزّزه باستخدام التقنيّات الإعلاميّة الحديثة. واليوم، هناك الكثير الذي نقرأه ببراءة عن “أمراض الغرب” و”مؤامراته” (وهو يعاني فعلاً بعض الأمراض وينسج بعض المؤامرات) ممّا تسلّل إلينا، مباشرةً أو مداورةً، من ذاك المخزون الروسيّ – السوفياتي العريق.
على أن كينان، الذي خالف تأويلَ نظرته إلى “الاحتواء” بوصفها تصعيداً للحرب الباردة، استمرّ طويلاً في تعويله على الأفكار وفعاليّتها في السياسة. فحين سمح العهد الخروتشيفيّ بنشر رواية سولجنتسين “أرخبيل الغولاغ” مُسلسلَةً في الصحافة، اعتبر تلك الخطوة “الإدانة الأقوى التي يمكن إنزالها بحقّ نظام سياسيّ في الأزمنة الحديثة”.
فهل نضع عقل جورج كينان وعقول السادة المذكورين أعلاه في سلّةٍ واحدة نسمّيها السياسة؟ وهل نطالب هؤلاء السادة إيّاهم أن يعوّلوا على الأفكار، أي على السلعة التي لا يملكونها، مثلما عوّل كينان؟
الجواب عن السؤالين هو طبعاً: لا. فنحن محكومون، بمعزلٍ عنهم، بأن نمضي في التعويل على السياسة. إنّها وحدها ما سيعيد الاعتبار، يوماً ما، إلى العقل والأفكار.[video_player link=””][/video_player]