fbpx

عن جنة وأخواتها: وقائع من تعذيب الأطفال في مصر

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

قصص جنة وجنى وسارة وإلهام ونورا لاقت فرصة الخروج إلى النور، لتصبح قضايا اجتماعية وقانونية، وإن عبر الموت أو الألم، فيما تعيش كثيرات قصصاً فظيعة مع الصمت والخوف.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في غرفة العناية المشددة في مستشفى شربين، رقدت جنة محمد سمير حافظ (4 سنوات و4 أشهر) قبل أن تفارق الحياة، بالكاد يستحوذ جسدها على ثلث السرير، ترقد وبجوارها دمية شقراء برداء أحمر، تشبه مخيلة جنة وبنات جيلها. يشبه المشهد حكايات السندريلا وسنووايت المشغولتين بعوالم مسحورة. لكن جنة بعيدة جداً من سندريلا والطفولة السعيدة. جسدها الصغير مجرد من الملابس، لولا ملاءة ناعمة كانت تغطي جزءه الأسفل، وللمصادفة كانت عليها فراشات وقبلات ولونها وردي.

تزاحم هذه الإشارات الحالمة حول جنة، إشارات أخرى مؤلمة، فالأميرة الغارقة في غيبوبتها معلقة بوصلات من المحاليل، فمها وأنفها متصلان بجهاز التنفس الصناعي، جسدها تملأه الحروق النارية، حروق من الدرجة الثالثة في ظهرها و”منطقة عفتها”، وكدمات لافتة حول كاحلها الأيمن ورسغيها، نتيجة تقييدها بقوة. تعرضت جنة (أو جنى كما ذكرت وسائل إعلامية بسبب توارد في الأسماء مع قصة طفلة أخرى سنشير إليها في سياق التحقيق)، لعملية تعذيب ممنهج من جدتها، وبحسب تقرير الطب الشرعي: “الإصابات في جسدها تمت بشكل اعتيادي ومتكرر بقصد التعذيب وتلك الإصابات ومضاعفاتها أدت إلى فشل في وظائف جسدها الحيوية، وانتهى بهبوط حاد في الدورة الدموية والتنفسية، ما أدى إلى وفاتها”.

جنة الصغيرة كانت تعيش وشقيقتها أماني (6 سنوات) مع جدتها وخالها، لأن والديهما مطلقان، وقد تركا أمر رعاية الطفلتين لجدتهما، وفق ما ينص قانون الحضانة في مصر، وهو القانون الذي يحمي -من المفترض- أبناء المطلقين من التشرد أو سوء الرعاية من جانب زوج الأم أو زوجة الأب. لكن جنة وشقيقتها لم تتعرضا لسوء رعاية وحسب، بل لتعذيب ممنهج وحرق أفضى في النهاية إلى موت الطفلة نتيجة التعذيب.

في ظلّ غياب الأم والأب والتعنيف الشديد من قبل الجدة كانت جنة وشقيقتها أماني تعانيان من التبول اللاإرادي، وكانت الجدة تعالج الأمر بكثرة الضرب دون أن تدرك أن التحكم في البول يعود إلى عوامل نفسيه بشكل كبير. تمادت الجدة في التعذيب إلى حد أنها أقدمت على تسخين آلة حادة وحرق الطفلتين بشكل متكرر في الظهر والبطن والأطراف و”منطقة العفة”. لم يتحمل جسد جنة هذه الحروق التي تسببت لها بغرغرينا وتعفن في إحدى ساقيها، ونُقلت إلى مستشفى شربين، لتخضع هناك لعملية بتر للساق، وبعدها فارقت الحياة لأن جسدها لم يتحمل قيح الحروق ومضاعفات البتر.

لاقت مأساة جنة تضامناً لافتاً كون الفتاة عجزت عن البوح بما تتعرض له فوجدت من تعاطف مع عذاباتها فتم تصوير جسدها المنهك والمنهار داخل المستشفى ونقلها إلى الإعلام. تحولت قضيتها إلى قضية رأي عام بحيث أن آلافاً شاركوا في جنازتها.

ومشهد آلاف المعزين والمتضامنين طرح تساؤلاً جدياً: إلى أي مدى ستظلّ قصص الأطفال المعنفين في مصر خلف الجدران حتى تظهر قضية تموت فيها طفلة من شدة التعذيب؟

في ظلّ غياب الأم والأب والتعنيف الشديد من قبل الجدة كانت جنة وشقيقتها أماني تعانيان من التبول اللاإرادي، وكانت الجدة تعالج الأمر بكثرة الضرب

في سياق عملي الصحفي، شاركتُ في مجموعات العلاج النفسي الجماعي، حيث كنتُ أتابع قصصاً لأشخاص يعانون من ندوب نفسية عميقة، نتج معظمها عن اضطرابات في مرحلة الطفولة وتحديداً بسبب التعنيف الشديد الذي ولّد أزمات داخلية ليس أقل مظاهرها عدم تصالح الشخص مع جسده والانعزال عن المجتمع…

أطفال القصص الحزينة

مأساة الطفلة جنة فتحت نقاشاً حقيقياً حول الطفولة في مصر، ومفهوم التربية وأساليبها، والأطفال الضحايا الذين يعانون بصمت بين الجدران وخلف الأبواب.

عام 2013، نشرت الصحافية بسمة مصطفى قصة الطفلة سارة، التي كانت تتعرض للتعنيف على يد عمها الذي لم يكتفِ بتهديدها بالحرق بالسجائر بل كان يغتصبها بشكل متكرر، حتى لاحظت الأم آثار الدماء في ملابس طفلتها الداخلية، وقررت الهروب بها إلى القاهرة، بعدما هددها العم والجد بالقتل هي والطفلة في حال أثارت “فضيحة”.

تقول مصطفى التي تولت وقتها القضية إعلامياً وقادت حملة لجمع التبرعات لسارة ووالدتها لضمان استقلالهما المادي والاجتماعي: “رد الفعل على قضية سارة كان مجتمعياً من الدوائر القريبة مني، ولم يتطور ليصبح رد فعل مؤسسياً، فقضايا العنف ضد الأطفال أو النساء ليست أولوية لدى الدولة”. وتضيف: “لا بد أن تكون هناك قوانين حاسمة في حق كل من يتعدى على طفل جسدياً أو نفسياً، إلى جانب التوعية الاجتماعية الضرورية”.

تشير مصطفى إلى أن “عم سارة حكم بالسجن خمس سنوات فقط، لكن الحكم لم ينفذ، لأن هيئة تنفيذ الأحكام لم تتحرك للقبض عليه، فيما اختفت سارة ووالدتها ولا أعلم اليوم شيئاً عن مصيرها”.

وتردف لـ”درج”: “يبدو أن الأولوية لدى الدولة ليست إعلاء القانون، بقدر حماية مصالحها، لذلك لا نرى الدولة في صدام مع المجتمع في قضايا مثل حقوق المرأة والطفل، لا نجدها تحارب الجلسات العرفية على سبيل المثال في الصعيد، على رغم أن هذه الجلسات ضد القانون. ولا تواجه عمالة الأطفال بشكل جدي، وتعالج جرائم الاغتصاب بالحلول الودية والعرفية بدلاً من ملاحقة المجرم. كل هذا نابع من عدم وجود إرادة حقيقية لإعلاء دولة القانون، والأولوية عند السلطة هي في الواقع حماية أمنها السياسي قبل أي شيء”.

من قصة سارة إلى قصة جنى المعروفة بفتاة “البامبرز”، التي تعرضت للاغتصاب عام 2017، حين كانت عمرها 20 شهراً، على يد جارها. وبفضل الضغط الشعبي وإصرار محامي العائلة، انتُزع حكم الإعدام من القاضي وتم تنفيذه. تطرح هذه القصة، قضية استنسابية الأحكام وتفاوتها في هذا النوع من القضايا، تبعاً للضجة الإعلامية المثارة وقوة المحامي الذي يستلم القضية.

في جنازة جنة كان آلاف المشيعين من أهالي قرية بساط كريم يملأون الساحات، إنما وعلى رغم التضامن الواضح، لا مفرّ من السؤال حول إذا ما كان هؤلاء المتعاطفين المتأثرين، لا يستخدمون العنف في تربية أطفالهم، أم أنّ التعاطف أتى بسبب موتها، لا أكثر ولا أقل.

نورا أمجد (اسم مستعار) 29 سنة، تروي لـ”درج”: “قصتي تشبه قصة جنة بحذافيرها حتى أن ظهري وفخذي، يحملان علامات الحرق بالشوكة إلى اليوم. كنت في الثامنة حين طفقت والدتي تعذبني وتلسعني بالشوكة الحامية. لسعتني خمس مرات بمساعدة والدي حينما وجدتني ألعب مع أولاد الجيران الذكور أمام المنزل، وكانت تسألني، في حد منهم لمس جسمك؟ كانت تشير إلى صدري ومنطقة جهازي التناسلي، وتحت الضرب والتهديد قلت لها نعم لمسوني، على رغم أن ذلك لم يحدث لكنني كنت أظن أن الاعتراف سينجيني من التعذيب، لكنها طلبت من والدي تقييدي كي تتمكن من لسعي وتأديبي”.

تضيف نورا: “لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل أخذتني إلى منزل جيراننا لتشكو لهم تحرش ابنهم (8 سنوات) بي، تخيلي أننا في هذا العمر نتهم بالتحرش وممارسة الجنس، وقد عوقب الطفل، إذ لم ينفع بكاؤه وإنكاره التهمة التي أسقطتها أمي عليه”.

وتسهب نورا: “كان لهذا الموقف تأثير كبير على حياتي الاجتماعية فأهل الطفل أخبروا ما حصل للجيران وكان أبناء هؤلاء زملائي في المدرسة، فكانوا ينعتونني بأن “أخلاقي بايظة” والتصقت بي هذه السمعة حتى الصفوف الثانوية. لم يكن لدي أصحاب وثقتي بنفسي أصبحت مهزوزة، كنت منبوذة ووحيدة وهو ما كان يراكم في داخلي إحساساً قوياً بكره نفسي وجسدي، ولم أتصالح مع الجنس حتى بعد زواجي”.

تضيف نورا: “بعد قصة الطفل ابن الجيران، تعرضت في العام ذاته وكان عمري وقتها 8 سنوات، لتحرش من خالي. كان ينام بجواري في السرير ويجعلني أمسك عضوه على اعتبار أنه إحدى أصابعه، تحت رهبة أن هناك من سيأتي ليخطفني أثناء الليل، وإذا أمسكت عضوه فإن عضوه سيحميني. كان يقف أيضاً وراء باب الحمام ويأمرني بأن آتي ليقبلني في فمي، كنت أشعر به وهو يرتجف. وكان يأخدني فوق السطح وينزع عني ملابسي ويأمرني بفتح ساقيّ، وظل يمارس هذه الأفعال معي من عمر 8 حتى 12 سنة. كان يهددني في حال أخبرت أحداً بأنه سيخطفني، كان خوفي من أمي أكثر من خوفي من الاختطاف، لأن أمي حتماً ستعذبني باللسع بالشوكة”.

إلهام حمدي (اسم مستعار، 31 سنة) تقول لـ”درج”، “عانيت من التبول اللاإرادي حتى صار عمري 18 سنة، بسبب صفعة من أمي على وجهي، بعدما قلت لها إن أخي تحرش بي ويتحرش بي كلما وجدني في البيت بمفردي. كنت وقتها في العاشرة من عمري، حين استقبلت الصفعة التي جعلت عيناي تريان الظلام لبرهة، قبل أن يعود نظري إلي، لكنني بقيت عالقة في الظلمة النفسية لسنوات. كان رد فعل أمي بعد الصفعة “أخوكي مؤدب استحالة يعمل كده يا فاجرة”.

تعرضت في العام ذاته وكان عمري وقتها 8 سنوات، لتحرش من خالي. كان ينام بجواري في السرير” ويجعلني أمسك عضوه على اعتبار أنه إحدى أصابعه، تحت رهبة أن هناك من سيأتي ليخطفني أثناء “الليل، وإذا أمسكت عضوه فإن عضوه سيحميني.

وتضيف إلهام: “كانت أمي تعاملني من وقتها معاملة قاسية كأنني لست ابنتها، تهدر حصتي في الطعام من أجل أخي، وتضربني بقسوة وترد على أي عبارة أوجهها لها بلوم وقسوة مفرطة. كانت تتحاشى النظر في عيني، كنت أشعر بالكره ينساب منها إلي. وعلمت أنه غير مرحب بي في حياتها، حتى أنني فكرت كثيراً في الهروب من المنزل. كنت ألجأ إلى المسجد المجاور وأجلس وأبكي”. وتردف: “ظلت تعنفني لفظياً وبالضرب لأنني أتبول أثناء نومي، وكان أبي يسعى دوماً إلى عرضي على أطباء، خضعت لعلاج نفسي بالأدوية وليس بالجلسات العلاجية، تجرعت أدوية مخ وأعصاب لسنوات وتدريبات على التبول ببطء لتقوية المثانة”.

تتابع: “أحدهم نصح أبي بأخدي إلى طبيبة نفسية تعتمد على الحكي أكثر من العلاج. مذ دخلت غرفة العيادة، نظرت الطبيبة في عيني وأدركت كم أنا بائسة وسألت أبي أين والدتها؟ وقررت أن تنهي الجلسة فوراً، طالبة ألا آتي إليها مرة أخرى وألا يأتي أبي أيضاً، وعلى أمي أن تأتي هي بمفردها في الجلسة المقبلة. وقتها صُعقت وتَجمدت من الرعب لأن الطبيبة ربما قرأت في عيني القصة كلها، وحتماً ستلوم أمي وحتماً ستأتي أمي لضربي، لكن والدتي عادت من عند الطبيبة ووقفت في مواجهتي وقالت “أنا بحبك أنتي لسا بنتي” وحملتني ودارت بي وهي تعانقني. انسابت دموعي ودموعها وشفيت من وقتها من التبول اللاإرادي”.

قصص جنة وجنى وسارة وإلهام ونورا لاقت فرصة الخروج إلى النور، لتصبح قضايا اجتماعية وقانونية، وإن عبر الموت أو الألم، فيما تعيش كثيرات قصصاً فظيعة مع الصمت والخوف.

في هذه الأثناء تخضع جدة جنة للتحقيق، ومن المفترض أن تواجه الإعدام بحسب المادة 230 من قانون العقوبات، لكن مثل تلك المآسي لا يكون سبيل علاجها الوحيد بالعقوبات المشددة، فالثقافة المجتمعية والأزمات الاقتصادية والسياسية والعنف المتفشي بعض من عوامل تسهم في ترسيخ العنف بصفته وسيلة تربية وتعامل وحتى وسيلة تعبير عن النفس. العنف المجتمعي والقانوني لا يزال طاغياً ويحتاج للكثير من النقاش الجدي.

في الساعات الأخيرة من حياة جنة كانت نائمة على جانبها، ظهرها للدمية فيما كانت دميتها منكفئة على وجهها، محبوسة الأنفاس، محجوبة الرؤية، كأنها تدير ظهرها لحياة برمتها، لم يعد فيها لعوالم سندريلا وسنووايت فرصة للبقاء وسط قصص شديدة التعاسة، لن تحتملها أميرات ديزني المتخيلات.

“المذنبات”: جنى وجنى وأنا

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.