fbpx

الأب والابن والعائلة مقومات السياسة في كُردستان العراق

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!
"درج"

شكلت الأحداث الأخيرة في محافظة كركوك، في أحد أبعادها، دلالةً على مدى دور “العائلة” في الحياة السياسية الكُردية. فقوات البيشمركة، التابعة لحزب الاتحاد الوطني الكُردستاني، انسحبت من مواقعها في مختلف مناطق المُحافظة، لصالح قوات الحكومة المركزية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

شكلت الأحداث الأخيرة في محافظة كركوك، في أحد أبعادها، دلالةً على مدى دور “العائلة” في الحياة السياسية الكُردية. فقوات البيشمركة، التابعة لحزب الاتحاد الوطني الكُردستاني، انسحبت من مواقعها في مختلف مناطق المُحافظة، لصالح قوات الحكومة المركزية. بالرُغم من أن قيادة الحزب، وعلى رأسهم نائب الأمين العام كوسرت رسول علي، وغالبية المكتب السياسي في الحزب، كانوا قد أعلنوا مراراً رفضهم لدخول القوات العراقية إلى المُحافظة، إلا أنه، بعدما جرى هذا التسليم والاستلام، فإن أوساطٍ سياسية وإعلامية واسعة، ضمن الإقليم وخارجه، ذهبت إلى أن اتفاقاً جانبياً كان قد جرى بين بافل طالباني، نجل الرئيس العراقي والأمين العام السابق للحزب جلال طالباني، وبين الحكومة المركزية في بغداد، وبرعاية قائد فيلق القُدس قاسم سُليماني، أدى لحدوث تلك العملية.
بافل طالباني، الذي قيل إنه أجرى الاتفاق، لا يملك أي منصبٍ رسمي في قيادة حزب الاتحاد الوطني الكُردستاني، ولا حتى في حكومة إقليم كُردستان العراق. لكن الظاهر أن السُلطة الفعلية ضمن الحزب ليست لذوي المراكز والمواقع الحزبية العلنية، بل لمراكز قوة حزبية/عائلية بذاتها. لا يتعلق الأمر ببافل طالباني فحسب، بل بالعديد من أبناء عائلة مؤسس الاتحاد الوطني الكُردستاني جلال طالباني، الذين يحتلون مواقع قوية وحساسة ضمن الحزب والحكومة الإقليمية. فزوجته هيرو إبراهيم أحمد، عضوة بارزة في المكتب السياسي للحزب، وهي ابنة إبراهيم أحمد، القيادي السابق في الحركة القومية الكُردية، ونجله قوباد طالباني، نائب رئيس حكومة الإقليم، ونجل أخيه لاهور شيخ جنكي، يترأس “جهاز الحماية والمعلومات” في إقليم كردستان، والذي يُعتبر الجهاز الأمني الأقوى ضمن المناطق الخاضعة لحزب الاتحاد الوطني الكُردستاني، كذلك، أخاه آراس شيخ جنكي، هو قيادي بارز ضمن هذا الجهاز. كما أن رئيسة كُتلة حزب الاتحاد الوطني في البرلمان العراقي آلا طالباني، هي ابنة أخت الرئيس جلال طالباني، ورئيسة كُتلة الحزب في البرلمان الإقليمي هي بيكرد طالباني عضو اللجنة المركزية للحزب ..الخ.
وثمة العديد من علاقات القرابة المُتداخلة بين أبناء قياديي الحزب، الذين تحول الكثير مُنهم إلى قياديين من الجيل الثاني من الحزب.
***
يبدو ذلك مُتناقضاً للغاية مع سيرة وأيدلوجية حزب الاتحاد الوطني الكُردستاني، الذي تأسس في أوساط السبعينات من القرن المُنصرم، كتيارٍ جامع للقوى والأحزاب القومية اليسارية “الثورية” الكُردية وقتئذ. لكنه في الأساس، برز كحزب مُناهض سياسياً وأيدلوجياً للحزب الديموقراطي الكُردستاني. مُنذ أواسط الستينات، كانت الخلافات ضمن قيادة الحزب قد وصلت لذروتها. فالعديد من أعضاء المكتب السياسي بقيادة إبراهيم أحمد وجلال طالباني، كانوا قد اعترضوا على زعامة مُصطفى البارزاني للحزب الديموقراطي الكُردستاني، وفي مراحل أكثر تقدماً، بداية السبعينات، اتهموا العائلة البارزانية بقيادة الحزب والحركة القومية الكُردية بأسلوب عائلي وعشائري. وحشدوا ضد العشائرية، التي اتهموها أنها أكبر مُسببٍ لفشل الحركة القومية الكُردية في تحقيق مراميها. إذ يرى الكثير من الباحثين الأكراد، أن حزب الاتحاد الوطني الكُردستاني تشكل عام 1975، بعد إعلان الفشل الذريع للحركة القومية الكُردية في العراق وقتئذ، وتم تحميل أنماط العمل السياسي العائلي والعشائري، سبب ذلك الفشل من قِبل جميع التيارات اليسارية “الثورية”، التي اجتمعت في تنظيم الاتحاد الوطني الكُردستاني.
اعتباراً من ذلك التاريخ، فإن الحركة القومية الكُردية في العراق، كانت تُقسم إلى حيزين مُتباينين: التيار المُحافظ، المُتمثل بالحزب الديمقراطي الكُردستاني بقيادة العائلة البارزانية، التي كان إرثها السياسي/العائلي يمتد لأجيال عدة، اعتباراً من الشيخ عبد السلام البرزاني، الزعيم الديني والعشائري في منطقة بارزان، عند مُثلث الحدود العراقي الإيراني التُركي. فكان الشيخ عبد السلام قد رفض دفع الضرائب، وإرسال اتباعه إلى الجُندية العُثمانية، اعتباراً من أوائل القرن المنصرم، وفي مرحلة لاحقة، تمرد على الدولة العُثمانية، الأمر الذي أدى إلى اعتقاله وتنفيذ حُكم الإعدام به في مدينة الموصل عام 1916.
تولى الشيخ أحمد البرزاني الزعامة السياسية بعد أخيه الشيخ عبد السلام، وقاد الانتفاضة الكُردية المُسلحة الأولى ضد الدولة العراقية الحديثة، في خريف عام 1932، حين حاولت الحكومة العراقية نشر مخافر للشرطة في منطقة بارزان. استمرت العائلة البارزانية في قيادة الحركة القومية طوال العقود التالية. فبعد الشيخ أحمد، تولى الملا مُصطفى البارزاني الزعامة السياسية لعقود طويلة، مُنذ مشاركته في تأسيس جمهورية كُردستان في مدينة مهاباد عام 1946، وحتى قيادته لعدد من الانتفاضات والثورات الكُردية الشهيرة ضد الحكومة المركزية العراقية، بالإضافة إلى ترأسه الحزب الديمقراطي الكُردستاني. بعد وفاته عام 1979، تولى نجلاه إدريس البارزاني ومن ثم مسعود البارزاني الزعامة السياسية من بعده.
راهناً، تعتبر العائلة البارزانية مركز القوة الرئيسي، ورُبما الوحيد، ضمن الحزب الديمقراطي الكُردستاني. فالعشرات من أفرادها يتولون مُجمل المواقع الرئيسية والحساسة ضمن الحزب والحكومة وأجهزة الأمن والبيشمركة في كُردستان، بالإضافة إلى شغل العائلة مكانةً رمزيةً استثنائيةً في قلوب مؤيدي الحزب.
التيار الثاني، هو الذي كان يعتبر نفسه ثورياً مدنياً غير تقليدي، كان حزب الاتحاد الوطني الكُردستاني والحزب الشيوعي العراقي، الذي كان له انتشاراً واسعاً في المناطق الكُردية، كذلك الحزب الاشتراكي الكُردستاني وحزب الشعب الكردستاني، أبرز المُمثلين السياسيين لذلك التيار.
بالتقادم، غدت العائلية ديناميكية رئيسية، لتشكل ملامحاً مركزيةً للحياة السياسية، سواء ضمن الأحزاب نفسها، أو في السُلطة الحكومية والبرلمانية. فغالبية قادة الأحزاب السياسية، تولى أبناؤهم مناصب حزبية وحكومة، ومُختلف أقربائهم يتولون مراكز حساسة ورئيسية في تنظيماتهم الحزبية، وحصصهم الحكومية والسُلطوية، بغض النظر عن أيدلوجية ونزعات هذه الأحزاب.
راهناً، وفي مستوى أكثر تقادماً، فإن شكلين من العلاقات السياسية والحزبية تتكون بين أبناء الجيل الثاني والثالث من العائلات السياسية الكُردستانية: صار التنافس بين مُختلف أبناء الجيل الثاني والثالث ضمن الحزب الواحد غالباً على أي ملمح آخر للحياة الحزبية، الأيديولوجية والسياسية والتنظيمية. من جهة أخرى، باتت العلاقات والتحالفات بين أبناء العائلات السياسية، من مُختلف الأحزاب، تُحدد أشكال الحياة العامة والحكومية والاقتصادية في الإقليم.
***
هناك العديد من العوامل التي ساهمت في تحول العشائر، ثُم العائلات، إلى أهم أسس الأحزاب والسُلطة في إقليم كُردستان.
من جهة، يتعلق بالتاريخ الاجتماعي للكُرد في المنطقة. فالمُدن والأرياف الجبلية الكُردية كانت قصية عن سواحل البحر المتوسط، لذا تأخرت تأثيرات الحداثة الثقافية والاجتماعية في الوصول إليها حتى أواسط القرن المنصرم، متأخرةً قرابة قرنِ عن أقاليم ومجتمعات المنطقة. كان ذلك عاملاً، ساهم في تأخر تشكل الطبقات الوسطى والأكثر تعليماً ومدينية. وأفسح المجال أمام البُنى الاجتماعية التقليدية العشائرية والمناطقية، للمحافظة على مراكزها وسُلطاتها الاجتماعية، التي تحولت في مراحل مُتقدمة، إلى سُلطات ومراكز سياسية، وإن بخطابات وأجهزة تبدو أكثر حداثة، كالأحزاب ومنظمات المجتمع المدني.
كذلك ساعدت الأحوال الكُردية في القرن العشرين على ذلك، فالتهميش والتهشيم السياسي الذي مارسته مُختلف دول المنطقة بحق الكُرد، أدى إلى اندلاع الحركات القومية الكُردية المُسلحة، ما خلق حالةً من “القسوة” المُجتمعية/العسكرية، لم تسمح بأن تكون المجتمعات الكُردية أكثر استرخاء، بل أشد جاهزية وميلاً لروح التنظيم والتراتبية. فشلت جميع الأحزاب الكُردية في أن تكون أحزاب مدينية تقليدية، بل أُجبرت على أن تتماثل مع التنظيمات الريفية المُسلحة التقليدية، التي لا تُنتج إلا تراتبيات أكثر بدائية، كالعلاقات العائلية والعشائرية.
أخيراً، لأن الحياة الاقتصادية في المناطق الكُردية عموماً بقيت ريفية إلى حدٍ كبير. فعدا عن حالات قليلة ومناطقية جداً، لم تعش المُجتمعات الكُردية تجارب الاقتصاديات الصِناعية والخدماتية والسياحية، لذا لم تتفكك أواصر العلاقات الأولية. كان للدولة دور بارزٌ في ذلك الاتجاه، فتأخر التنمية وسوء التعليم والخدمات، حافظ على تلك البنية المجتمعية/السياسية.   [video_player link=””][/video_player]