fbpx

قصص مآسي الكرد من عفرين إلى القامشلي

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يتحسر جوان (39 سنة) على الوضع الكردي، قائلاً: “أعتقد أننا خسرنا القضية الكردية، مناطقنا تُفرغ، ولم يحصل في تاريخنا أن هُجر الأكراد بهذه البشاعة

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كُنت أعمل في معمل صناعة “البلوك المستخدم في البناء”، وسيارة الإسمنت تتحضر لسكب الخليط في حوض البناء، فجأة سمعت صوتاً أرعب الجميع، علمت أنه الصوت ذاته الذي سمعته حين كُنت في عفرين قبل عام ونصف العام.

عادت ذاكرة محمود (37 سنة) إلى لحظة غادر عفرين خلال العملية العسكرية التركية عام 2018، فيقول لـ”درج”: “في يوم النزوح كُنا في أعمالنا الاعتيادية، مع تحليق الطيران عادت بي الذاكرة إلى الوراء، سمعت هذا الصوت سابقاً. كُنت مع كثيرين نختبئ منه في الملاجئ وأقبية المنازل”. نزح محمود منذ قرابة 7 أشهر إلى سري كانيه، بعدما أمضى الحرب في عفرين، ثم ما أن سنحت له الفرصة حتى خرج وبقي في الشهباء أكثر من عام، واستقر في طرف المدينة. “كُنت سعيداً جداً هنا، الناس لا يهتمون بالمشكلات، بل يولون الأهمية للعمل وحسب، الكل في الصباح يخرجون إلى العمل، الوظائف، فتح المحلات، الصناعة والأسواق، ما يهمهم هو تطوير أعمالهم، ظننت أن رحلة النزوح انتهت، لكن الواضح أن طعم الاستقرار علقمٌ لنا”.

مأساة الخوف والنزوح التي عاشها في عفرين عادت وتكررت مجدداً وهذا المرة أيضاً في ظل العملية العسكرية التركية الأخيرة في شمال سوريا. يقول محمود عن اللحظات التي عاشها قبل الخروج من سري كانيه- رأس العين حين أغارت طائرة تابعة لسلاح الجو التركي على المدينة قبل أيام: “كنا في أعمالنا الاعتيادية مع تحليق الطائرة عصراً، شاهدت الناس يهربون والفزع بادياً عليهم. لم يدر في خلدي سوى أبنائي الثلاثة وزوجتي ووالدتي المُسنة وابني آلان الضرير، ولم نتمكن من أخذ ما يلزمنا، ولشدة الازدحام لم أتمكن حتى من أخذ شاحنتي معي”. يتشارك محمود مع بعض أهالي المدينة العمل والجيرة: “خرجنا نحن العائلات الـ8 معاً، غاب عنا البعض لأنه لم يكن موجوداً لا في المنزل ولا في مكان العمل. نشكر الله أن شبكة الهاتف لم تكن مقطوعة، ولم نكن ندري إلى أين نذهب، كنا بلا مرشد وبلا دليل سوى رحمة الله، وبعد مسيرة 15 كلم وصلنا إلى قرية دويرات، ووصل بعض أفراد أسرنا إلى هناك عبر المركبات التي خرجت من المدينة، بعدما أرسلنا لهم العنوان عبر الهاتف. أمضينا ليلتنا هناك، التحفنا السماء، لم نشأ أن ندخل إلى بيت أحدهم، فالقرية كانت شبه خالية من سكانها الذين نزحوا أيضاً”. 

لم يستطع محمود والأسر الأخرى النوم طيلة تلك الليلة. في صبيحة اليوم التالي، هدأ القصف على المدينة، قرر محمود وبقية الرجال المغامرة والعودة إلى المدينة، فانقسموا إلى مجموعتين بقيت إحداها مع النساء والأطفال والأخرى عادت إلى سري كانيه، “أخذت شاحنتي وهممت بالعودة لأخذ عائلات بقيت في المدنية وبعض الحاجيات التي طلبتها النسوة، لكن عودة القصف مُجدداً منعتني من ذلك ولم نتمكن حتى من أخذ بضع زجاجاتً من الماء”. يتحدث محمود عما شاهده بعد قصف ليلة واحدة وتجدد النزوح: “الفوضى وعدم الانتظام، كانا العنوان الأبرز للمشهد، عجت الشوارع بالفارين، صعد من استطاع إلى الشاحنة، وسرنا بهم إلى حيث تمكث عائلاتنا، لم تمضِ لحظات حتى وصل الرجال الآخرون ومعهم مركبتان”.

 

” قبل عقود كان الأكراد يُهجرون من مناطقهم، اليوم أصبحت مناطقهم تُسكن بغية تبديد الهوية والصبغة الكردية عنها”.

 

يتذكر محمود قريته راجو التي يسكنها اليوم عربٌ من ريف حلب “استوطنوا بيتي، أخذو كل شيء، أخاف على ما تبقى من قرانا وبلداتنا الكردية هنا أيضاً”.

كان صوت القذائف كافياً لمنعهم من البقاء في القرية “من بعيد كُنا نشاهد الأضواء المصاحبة للقصف، بكاء الأطفال وحسرة النساء، “دفعنا النزوح من القرية إلى بلدة تل تمر، واصطحبنا من أخرجناهم معنا”. في تل تمر بدأت قصة جديدة، إذ لجأت العائلات الـ8 إلى مدرسة تحولت مركزاً للإيواء. “بقينا ثلاثة أيام هناك، صحيح أن الأهالي ساعدونا بما يستطيعون، وجاءت بعض المنظمات للمساعدة، لكنها لن تكون كافية لضخامة العدد، التقينا بعض أقاربنا وأصدقائنا وجيراننا هناك، وعلمنا أننا فقدنا بعض جيراننا الذين بقوا تحت الأنقاض أو استشهدوا في اليومين الماضيين”.

اعتقد أفراد الأسر كغيرهم، أنهم استقروا في تل تمر لثلاثة أيام إلى حين انتهاء المعارك، لكن اقتراب القصف إلى قرية “المناجير 18 كلم غرب تل تمر”، والخوف الذي عاشه كل من كان في المركز، دفعا بقسم منهم إلى التفكير بالنزوح مجدداً هرباً من هناك أيضاً إلى القامشلي، وصلنا بعد منتصف ليلة الإثنين- الثلاثاء إلى منزل شقيقة أحد النازحين معنا”.

ونظراً إلى صعوبة تحديد عدد النازحين، فإن الإحصاءات تتضارب بدورها. ففيما أعلنت منظمة الأمم المتحدة نزوح ما يقارب الـ145 ألفاً من أهالي رأس العين والقرى المجاورة لها، إضافة إلى بقية المناطق التي شهدت قصفاً متفرقاً ومتقطعاً طيلة يومين متتالين، فإن الإدارة الذاتية أعلنت نزوح قرابة 240 ألفاً، فيما أعلن المرصد السوري لحقوق الإنسان أن ربع مليون نازح، حصيلة الــ144 ساعة من بدء عملية نبع السلام. إضافة إلى أن نازحين كثيرين يسكنون في بيوت أقاربهم، وبعض الأهالي والسكان نزحوا ضمن مدينتهم نفسها، كحال سكان بعض الأحياء الحدودية في القامشلي الذين نزحوا إلى أحياء بعيدة من القصف التركي.

كانت عدولة سيدي (65 سنة) تركن في إحدى زوايا منزل في القامشلي، عيناها غارقتان بالحمرة من قلّة النوم. تقول كلمات قليلة قبل أن تعود إلى حزنها الذي يخيم على من حولها أيضاً. تتأمل عدولة وجوه من حولها وتكتفي بالقول: “أين أبنائي؟ ترملت باكراً فهل سأُثكلُ أيضاً، أنا مريضة، أشعر بتعب شديد، منزلنا تهدم”.

بكت عدولة بحرقة، وأبكتنا جميعاً، وحين حاول “درج” سؤالها عن سبب الدموع، رفعت رأسها ويديها إلى السماء وصاحت “يا الله اخي وابني لا أعرف عنهما شيئاً فتلطف بهما”. لم تتوقف دموع عدولة “أبكي على عائلتي، على حالنا، على الأكراد الذين يموتون دوماً، وكأن على الأكراد أن يموتوا بأبشع الأساليب، سيأخذون بيتي، ومدينتي سيسكنها الغرباء”.

ركض طفل إلينا وسأل: “أين أبي وأخي؟”. لم يتجاوز عمر فيردي وليد 11 سنة، وهو هرب مع والدته وأعمامه. قال: “كنت أشاهد أفلام الكرتون، فصاحت والدتي كي أخرج، وها أنا هنا في القامشلي، لكن أبي وأخي بقيا في المدينة يحاربان، لا أعرف متى يعودان”.

كانت خديجة (47 سنة) تتأمل ابنها الذي يتحدث إلى “درج”، وهي تحاول تضميد جرح في قدم شقيقته، تلتفت حولها بعين المترقب المنتظر، تقول “لو تحدثت إليكم هل سيصل صوتي إلى زوجي في رأس العين”، حالها كحال كثيرين لم يصدقوا أن تركيا ستنفذ تهديداتها بالاجتياح، لكنهم كانوا متوترين. تتذكر خديجة سلسلة الصور التي عايشتها قبل الوصول إلى القامشلي، وبخاصة الليلة التي سبقت القصف، “بعد منتصف الليل قيل لنا إن تركيا أزالت الجدار الفاصل بيننا، والجيش دخل المدينة، هربنا إلى قرية مجاورة لنا”. في صبيحة اليوم الثاني، عادت خديجة برفقة من هربوا معها إلى بيتها بعدما أخبروها جيرانها أن الجدار ما زال في مكانه، “تأخر إعداد الغداء بسبب تأخر وصولنا إلى البيت، لم يكن زوجي وابني قد عادا بعد. في الساعة الرابعة كانت وجبة الطعام جاهزة وننتظر وصول الغائبين، لكن الطائرة لم تسمح لنا بتذوق وجبتنا”. خرجت خديجة برفقة ولديها لا تعلم إلى أين تذهب، فقط كانت تتبع خطوات من يسبقونها، استقلت حافلة عجت بالنازحين: “كُنا 40 أو 50 شخصاً، أو أكثر أو ربما مئة لا أعرف”. ترجلت الأم ممسكة بأيدي أبنائها، توجهت برفقة بعض جيرانها صوب مدرسة في تل تمر والتقت هناك معارفها الذين وصلوا قبلها، وبقيت هناك قرابة 3 أيام وبدأ النزوح مجدداً: “كُنا بالعشرات في كل غرفة، الخدمات ضعيفة وقليلة، وأصوات المدافع والطيران تصدح في أذني، كُنت أسمع الرجال يقولون إن الوضع في القامشلي أفضل وسنرحل غداً صباحاً”. انطلقت قافلة النازحين مجددا،ً شاحنة ومركبة صغيرة ضمت 8 عائلات، بينهم 31 طفلاً.

وتتوحد مخاوف جميع الأطراف السياسية والشعبية والمدنية الكوردية حول إمكان إيواء اللاجئين السوريين المقيمين في تركيا، عوضاً عن النازحين والفارين من الحرب الدائرة في تلك المناطق. وسبق أن أعلنت تركيا نيتها تنفيذ المنطقة الآمنة التي تحدثت عنها عبر استخدام العنف والحرب، ويتوقع أن يتم إسكان حوالى 3 ملايين لاجئ سوري في المنطقة الممتدة من رأس العين إلى تل أبيض، وإنهاء الوجود الكردي في المنطقة، عدا عن القرى الكردية البالغ عددها قرابة 30 قرية كردية.

يتحسر جوان (39 سنة) على الوضع الكردي، قائلاً: “أعتقد أننا خسرنا القضية الكردية، مناطقنا تُفرغ، ولم يحصل في تاريخنا أن هُجر الأكراد بهذه البشاعة، هو (ترانسفير)، ويهدف إلى توطين العرب الذين تم تهجيرهم من مختلف المناطق السورية إلى تركيا، عوضاً عنا. قبل عقود كان الأكراد يُهجرون من مناطقهم، اليوم أصبحت مناطقهم تُسكن بغية تبديد الهوية والصبغة الكردية عنها”.

مئة عام من النضال الكردي في سبيل الأرض والهوية