fbpx

دوائر الخوف وهواجس القلق السورية بين الماضي والحاضر

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

بالتأكيد هناك مخاوف يشترك بها سكان الأرض كلّهم أينما ولدوا، إلّا أنّ السوريّين، استطاع النظام أن يوسّع دوائر مخاوفهم لتنطلق مما هو منطقيّ وما هو متخيّل وما هو غير مبرّر”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تدخل رواية “الخائفون”، دار الآداب، للقاصة والروائية ديمة ونوس، دوائر الخوف التي تقبع فيها البلاد السورية، وما يصاحبها من مشاعر وأفكار وانفعالات وهواجس وكوابيس ويوميات ومعاناة. تحاول تفتيت الخوف إلى كلمات والذعر إلى فصول، تشبه كثيراً فصول الحياة السورية منذ سنوات وإلى اليوم.

الاستعارة من الذات

في كتابة رواية عن الخوف، مهما كان الروائي معتاداً على الإعداد والقراءة والبحث في موضوعته أي روايته، فهو لا بد أن يستمد من خوفه الذاتي، هذه القدرة على توظيف المخاوف الداخلية، القلق الذاتي، الذكريات الشخصية، والمشاعر البسيكولوجية، هي ما يميز الرواية: “أنا المشغولة غالباً بتأنيب نفسي وجلدها وعقابها على خطايا قد أكون ارتكبتها وقد لا أكون. كل ما يحصل في العالم من أشياء سيئة، ألوم نفسي عليها، وكأنني أتحمل جزءاً من المسؤولية”.

رواية كثيفة العبارات الدالة على العوالم النفسية والشعورية والذهنية لشخوصها، وعلى رغم ذلك فإن المؤلفة لا تقع في فخ السيرة الذاتية لتخرج رواية تخييلية بامتياز، فتعير المؤلفة هواجسها، قلقها، تفاصيل أفعالها اليومية، وحتى ذكرياتها وعلاقاتها مع عائلتها إلى راوية، إلى شخصية متخيلة تبتكرها، ما يدلل على عناية ونوس في الحرص على الصنعة الأدبية التي يلمسها القارئ، من خلال التقينات السردية المستخدمة.

رواية داخل الرواية

تتكون رواية “الخائفون” من نصين سرديين متوازيين، كتب عنهما الناقد محمد برادة: “عمدت الكاتبة إلى صوغ نصين متوازيين ومتعاقبين يكمل أحدهما الآخر ويحققان معاً التفاعل بين الذاتي والجمعي”. النص الأول تكتبه سليمى بصوت السارد الأنوي، والنص الثاني تقرأه سليمى، بينما كاتبه هو (نسيم)، وهو الروائي الذي يرسل إلى سليمى مخطوطة روايته الرابعة لتقرأها. فيصبح القارئ أمام روايتين، رواية تسرد له آنياً، ورواية أخرى يقرأها مع سليمى. 

لعبة مرايا الهوية التي رغبتها الكاتبة في “الخائفون”، جعلتها تذهب أبعد في تركيب الحكاية. فراوية الحكاية الأولى تشبه بطلة الحكاية الثانية، سلمى تشبه سليمى، حتى إن اسم الأولى مضمر في الثانية، واسم الثانية تصغير لاسم الأولى. هكذا تقرأ الراوية سليمى رواية عن سلمى، فيصبح سؤال الهوية، التشابه والتعارض، بينها وبين من تقرأ عنها، سؤالاً حتمياً.

سؤال الهوية

سليمى رسامة من حماه، أمها سنية شهدت مقتل أبيها وأخيها في أحداث حماه 1982، المجزرة التي قرر والدها الطبيب على إثرها الانتقال إلى دمشق، محاولاً أن يعلن للسلطة في كل مرة أنه تخلى عن تلك المدينة أي (حماه). يصاب الأب بالسرطان لاحقاً ويفارق الحياة. أما سلمى، فهي ابنة كاتب معارض، عاشت في عائلة متعارضة الآراء السياسية بين المعارضة والموالاة، ومع بداية الثورة استطاعت أن تتغلب على خوفها، وتحسم أمرها باتجاه الحراك الشعبي، وتنتقل إلى بيروت، وتبدأ حياتها بالعمل في دار للنشر.

تتردد كل من سلمى وسليمى إلى عيادة الدكتور كمال، عيادة نفسية تختصر فيها الراوية حال المحيط الاجتماعي من حولها، فالكل في هذه الرواية في حاجة إلى زيارة الطبيب النفسي، حالات الهلع، والخوف، والقلق الوجودي والاجتماعي، هي عوالم حاضرة بقوة في الرواية التي تقترب أحياناً إلى الرواية البسيكولوجية: “الروح، تدافع عن نفسها أمام الفقدان، فتحاول ملء الفراغ بكل ما يمكن تصوره. تروح تلهث وراء التفاصيل، أدق التفاصيل، وفي كثير من الأحيان أتفهها، تمسك بكل ما تصادفه في طريقها، وتحشو الفراغ به في سعي إلى ملئه”. وتقترب أحياناً أخرى من الرواية الوجودية: “إن محاولات الانتحار تفشل عندما يكون الجسد غير مستعد بعد للرحيل، الجسد هو من يقرر أن يبقى أو يرحل. هو من يقرر أن يقاوم إن امتلك الأمل، أو الخضوع إلى اليأس”.

في عيادة الدكتور كمال، تقابل سليمى رجلاً غامضاً، قليل الكلام، بارز نتوءات العظام، يتقاربان المرة تلو الأخرى، لنكتشف أن نسيماً طبيب، وهو يكتب الروايات باسم مستعار: “عرفت لاحقاً أنه ينشر كتبه باسم مستعار. “خوفاً من الملاحقة” سألته. رفع رأسه بالنفي. “بل خوفاً من الخوف”. نقطة. ولم يقل المزيد”. يعتقل نسيم ومن ثم ينتقل إلى ألمانيا، ويترك لسليمى مفاتيح منزله، ويرسل لها من ألمانيا مخطوطة روايته الرابعة التي هي السيرة الذاتية لامرأة تدعى سلمى، مصنوعة من الخوف مثلها، وتشبهها إلى حد بعيد: “ها هو نسيم يسرق كل تفصيل رويته له. لا أعرف إن كان سرقني أو أننا تماهينا إلى درجة بات يصعب علي أن أميز حياتي عن حياته وعن حيوات شخوصه”، لكن نسيماً لا ينهي روايته، كأنه يطلب من قارئته التي تشبه بطلته، أن تنهيها بنفسها، ومن ثم تكشف لنا الفقرات الأخيرة من الرواية، أن نسيماً ليس سوى عشيق مبتكر من ذهن قارئته: “أنا التي عشقت شخصاً اخترعته، ولم أعد قادرة على العثور عليه. كيف نخترع أحلامنا وكيف نفقدها في غمضة عين، دون أن ننتبه؟ أيكون الواقع أشد قساوة من الخيال؟ نسيم هزم خيالي عنه”.

حين تقرأ سليمى في أوراق نسيم تتداخل عليها حكايتها مع حكاية سلمى بطلة روايته: “أيعقل أنني أضعت نفسي في حكاية تلك الصبية مجهولة الاسم؟ لم أعد أميز بين ما أعرفه وما تعرفه هي. اختلطت حكاياتنا. وكما أراني أحمل ذاكرتها بين راحتي، حمّلتها ذاكرتي”.

سوريا والخوف المتجوّل

كان توصيف د. جمال شحيد للرواية بأنها معجم في الخوف، دقيقاً. هناك تعاريف، استطرادات، تأملات، وفلسفات في موضوعة “الخوف”، تقول ونوس) في لقاء معها: “ليست الرواية عن عوالم السوريّين بعد الثورة، بل قبلها. ذلك الخوف القاتم واللعين الذي تورّطوا به قبل قيام الثورة بأربعين سنة أو أكثر بقليل. أردت دائماً كتابة رواية عن الخوف. أو عن فكرة الخوف من الخوف. والخوف إذ يبدأ من النظام والأجهزة الأمنيّة والسجن والتعذيب والأحكام العرفية، ينتهي بالخوف من الطقس مثلاً، من البرد والشتاء، من المرض، من الموت، من الأماكن المغلقة أو تلك المرتفعة. وأنا لا أبالغ هنا. بالتأكيد هناك مخاوف يشترك بها سكان الأرض كلّهم أينما ولدوا، إلّا أنّ السوريّين، استطاع النظام أن يوسّع دوائر مخاوفهم لتنطلق مما هو منطقيّ وما هو متخيّل وما هو غير مبرّر”.

في الرواية نستمع إلى مونولوغات الشخصية التي تعيش تحت سلطة الخوف، كيف يصبح الخوف فاعلاً في رسم مصير أتباعه: “الخوف من الخوف، تحت وقع هذه العبارة، كنت أعيش بالضبط. ليس للخوف صورة واحدة أو معنى واحد، إلا أن ذلك الخوف من الخوف يتشارك أصحابه الطريق ذاته”. 

سابقاً، الخوف وحد السوريين في ظل النظام الشمولي، فجعلهم نسخاً عن بعضهم بعضاً: “لقد أصبحنا قصة واحدة. كما كنا نسخاً عن بعضنا بعضاً، في المدرسة وفي البيوت وفي الشوارع وفي صالات السينما القليلة الموجودة في دمشق وفي المسارح وفي الدوائر الحكومية”، ولكن وفي المقابل، لم يحمل الحاضر منذ عام 2011 وحتى الآن أي تغيير. وبقي حضور الخوف بأشكال جديدة: “ألا تكفي السنوات الخمس لإزاحة الخوف من يومي؟ في الواقع، لم تزحه ولم تستبدله بمخاوف أخرى، بل راكمت فوقه مخاوف جديدة، أخاف فأفكر بالخوف، وإذا فكرت بالخوف، أخاف. ربما يكون الخوف هو الشعور الوحيد الذي يصعب توطين الروح عليه. يصعب التعايش أو التصالح معه. إنه خيال بديع، خصب، يتجدد كل لحظة. يتأجج خيالي في إنتاج الخوف والقلق”.

في المقابل، فإن العلاقة مع الموت هي ما يميز مرحلتنا السورية الحالية، تكتب ونوس عن الموت والحدث السياسي السوري الحالي: “كيف لنا أن ننجو بين أخبار الموت والقتل اليومي؟ وهل منّا من يستحق الموت ومن لا يستحقه؟ هل جعلت الثورة منا أشخاصاً يحصون الموت ويقيّمون المرارة، بحسب تاريخ القتلى وأعمالهم؟ هل جعل منا النظام الوحشي وحوشاً، نفضل موت البعض عن الآخر؟”.

أسئلة الأسلوب الأدبي

توضح ونوس في أكثر من حديث أن التوثيق لم يكن إحدى غاياتها في كتابة هذه الرواية، لكن نوع الرواية الواقعية الذي اختارته يجعل من حكايات الشخصيات توثيقاً للحدث الاجتماعي والسياسي المحيط بها، يمكن اعتباره نوعاً من التوثيق عبر حكايات الشخصيات. هناك أحداث حماه 1982، هناك اعتقال نسيم، الإخفاء القسري لأخ الراوية فؤاد، حكايات الضيعة والانتقال إلى دمشق، علاقة السوريين مع المنفى كما مع مدينة بيروت، وهناك حكاية عن امرأة تجول شوارع دمشق، وهي ترتدي نظارة الغوص وفي فمها أنبوبة مخصصة للتنفس تحت الماء، وهي تتوهم أنها في عملية إنقاذ ابنها الذي غرق في البحر، هكذا لا تستثني الرواية هجرة السوريين عبر البحر، من خلال حكايات الشخصيات.

 

الخوف إذ يبدأ من النظام والأجهزة الأمنيّة والسجن والتعذيب والأحكام العرفية، ينتهي بالخوف من الطقس مثلاً، من البرد والشتاء، من المرض، من الموت، من الأماكن المغلقة أو تلك المرتفعة

 

تُسقط ونوس أسئلتها عن الأسلوب الأدبي، على كاتب الرواية داخل الرواية نسيم، تحول أسئلتها الخاصة كروائية والمتعلقة بالأسلوب إلى أسئلة تحلل بها طريقة كتابة نسيم: “لفتتني لغة روايته تلك. لم أعثر فيها إلا على يوميات مكتوبة بلغة صحافية متفاوتة العذوبة. وكأنه في عجزه عن كتابة رواية عن الثورة، اختار اليوميات ليبرر لنفسه تلك الركاكة”، كأن الروائية ونوس تبرر لنفسها خياراتها الروائية بكتابة اليوميات، هي التي أخبرت في أكثر من لقاء عن صعوبة كتابة رواية عن الثورة، فتبدو هنا كنسيم، تحولت من كتابة الثورة إلى كتابة اليوميات. وفي موضع آخر من الرواية تبرر خيار الكتابة الذاتية، فتقول على لسان نسيم: “الكتابة عن الذات ليست سوى دليل على الإفلاس، فالكتابة هي تجربة العيش مع آخرين لا نعرفهم”.

سوريا الأسد لم تعد واقعية… ولكن أين سوريا الأخرى؟







 

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!