fbpx

النظام المصري: اقبضوا على الجميع!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أصبح طقس إفراغ الهاتف المحمول من البيانات طقساً يومياً. فنسيان حذف محادثات “فيسبوك” قد يؤدي إلى اعتقال غير معلوم المدة ولا المكان، حتى أن المرور على سجل الأغنيات داخل هاتف محمول أصبح يثير ذعراً ممزوجاً بالسخرية

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ما الذي يمكن أن يفعله القمع السياسي في البلاد وفضائها العام؟ سؤال يلح بإصرار على الأذهان، ونحن نرصد مشهداً كابوسياً شبيهاً بالأفلام، التي جسدت مرحلة القمع في روسيا الستالينية. نرى في الفترة الأخيرة النظام المصري وهو يبذل همة منقطعة النظير كي ينتزع ما يسمى بالفضاء العام. هذه المساحة الشاسعة غير المرئية، التي تتوالد فيها الرغبات والأفكار والمشاعر والحريات والإرادة والثقة بالذات والدافع لامتلاك العالم وتغييره، ويطمح النظام المصري لأبعد من سحب آخر موطئ في هذا الفضاء، وإنتاج فضاء آخر مخاتل ومسموم لا يسمح حتى بالتنفس.

للمرة الأولى نشعر بثقل الفضاء العام إلى هذا الحد في مصر، فالأجواء العامة غير مؤاتية لأي مناخ إنساني طبيعي. لم يعد الجو مرحباً بالتجول الحر والكلام العفوي والنظرة الواثقة والشعر المرسل والرداء الفاقع، فهذه الثقة وتلك العفوية تحفزان جاهزية كمائن الأمن المنتشرة في معظم شوارع المدينة للتنمر، وكأن هناك تهمة ضمنية وهي المشي بحرية بلا خوف ولا رعب بعد هذه المبالغات الأمنية كلها.

بعد انتفاضة المصريين في 20 أيلول/ سبتمبر وما لحقها من محاولات خروج غير منظمة، زادت معدلات الاعتقالات العشوائية والخطف من الشوارع والاختفاء القسري، ووصل الأمر إلى اعتقال محامين مدافعين عن المعتقلين. لكن ما يدور في الكواليس اليومية جدير أيضاً بالوقوف أمامه، بخاصة تلك التجارب لمن كانوا على شفا الاعتقال ولم يعتقلوا لكنهم خرجوا من تجربة تفتيش أو ترهيب جديرة بالتوثيق والتحليل.

هنا شهادات لأشخاص تعرضوا للخوف ورهاب الاعتقال بسبب أفكارهم أو بسبب هواتفهم وحتى ملابسهم. شهادات وثقها “درج” لكن من دون الإعلان عن هوية الأشخاص حفاظاً على أمنهم…

 

“حيز انتهاك خصوصية المواطنين تخطى السياسة وبات يشمل التلصص على تفاصيل حياتهم وأدق أسرارهم ولا أعلم ما أهمية أن تتم تعريتنا إلى هذا الحد”

 

“أحسست بقهر لا يوصف”

م.ج. خرج يوم 27 أيلول الماضي للمشاركة في تظاهرات الجمعة الاحتجاجية. استقل “الأوتوبيس” العمومي كي يتابع من النافذة أي تجمع شبابي معارض يستعد لمسيرة، كان يرى أن هذه أنسب طريقة كي يهبط من الحافلة وينضم إلى الشباب المعارضين. كان يتوقع أن يرى الكمائن وسيارات الأمن المركزي في كل زاوية، لكن لم يتوقع أن ينتشر ضباط المباحث داخل حافلات النقل العام أيضاً.

يقول لـ”درج”: “كل 100 متر كان يتم إيقاف الحافلة ليصعد ضباط مباحث أمن الدولة ليفتشوا هويات الركاب، وتفتيش الثياب وأجساد الشباب، والهويات والهواتف المحمولة. أخذوا هاتفي ودخلوا إلى حسابي على فيسبوك وماسنجر وواتساب، للتأكد من أنني وغيري من الركاب لا نعارض الرئيس الحالي ولا نظامه. كنت حذفت المحادثات والمنشورات وتاريخ تصفحي المواقع. بعد هذا الانتهاك الواضح لخصوصيتي أحسست بقهر لا يوصف، وعجز عن فعل أي شيء سوى كبت الغضب، لدرجة أنني أحسست أننا محتلون وهناك نظام استيطاني يُنشئ حواجز أمنية ليسيطر علينا. إنه شيء شبيه بما تفعله إسرائيل في القدس ورام الله، وفي النهاية يخرج قومجي ليحدثنا عن المؤامرة الأميركية على الدولة الوطنية”.

تفتيش هواتف المارة المحمولة في الشوارع وفي الحافلات أصبح واقعاً مراً، وميثاقاً عاماً فرضه الأمن المصري على مواطنين لا يجرأون على الاعتراض، فإن اعترضوا ربما يكون مصيرهم الاعتقال الفوري، مثلما حصل لسناء سيف لأنها رفضت تفتيش هاتفها، وكأننا أمام تبديل لكل البديهيات، الخاص فيها صار مشاعاً. المواطنون وهواتفهم المحمولة وحيواتهم العامة والخاصة ملك للدولة وأجهزتها الأمنية، التي لن ترى شخصية المواطن بقدر ما ترى سطوتها، والمواطنون في نظرها أدوات لتكريس هذه السطوة الجامحة.

م.س. شاب ثلاثيني، فنان ومصور، له شعر طويل ومرسل على كتفيه يرتدي دائماً سراويل القماش الواسعة التي تشبه سراويل الهنود مع سترات بلا أكمام، ينوع دائماً رداءه بين سترات بتطريز سيناوي أو فلسطيني أو تونسي. كان آتياً يوم 1 تشرين الأول/ أكتوبر من البحيرة لبيع بعض المقتنيات الأرشيفية في الفوتوغرافيا. استقل سيارة أجرة، ومر في ميدان التحرير، ولم يكن ينوي المشي على قدميه في المكان الملغوم بقوات الأمن على أطراف الكعكة الحجرية وبالقرب من ميدان عبد المنعم رياض. رأى أن سيارة الأجرة ستكون أكثر أماناً له، فقد لا يتعرض للتفتيش، لكن عند إشارة التحرير لمح من خلف نافذته سيارات الأمن وهي تفتش حواسيب بعض الموظفين المحمولة، وفي الوقت ذاته لمحه ضابط أمن.

يقول م.س. لـ”درج”: “لمحني الضابط وعلمت أنني مقبوض علي لا محالة ولن يدري أحد بمصيري، فلم أخبر أصدقائي في القاهرة أنني هنا، وقتها تجمدت في مكاني، ولم أستطع التحرك بعدما أمرني الضابط بالنزول فوراً. علمت أن شكل شعري وردائي سيجعلانه يعتقد أنني بالطبع من شباب الثورة، لكن السائق فاجأني وفاجأ الضابط بالانطلاق بأقصى سرعة، فأحسست أنني في فيلم أكشن. كان السائق يرتجف وفي الوقت ذاته يشتم الأمن والرئيس والبلد. استطاع أن يتجاوز ميدان التحرير باتجاه رمسيس بسرعة مهولة، سألته لماذا هربت، قال “حسيت إنك زي ابني لو قبضوا عليك مستقبلك هيضيع، عندي ولاد في سنك ومرعوب من أن يعتقلهم ولاد الـ…”.

يضيف م.س. “كان هذا أعظم موقف تضامني عشته بعد سنوات الثورة، شخص لا تعرفه يغامر من أجلك إلى هذا الحد، ويشعر نحوك بمسؤولية وكأننا على أرضية واحدة، على رغم محاولات النظام كي يسحب من تحتنا هذه الأرضية التضامنية ببث الخوف والرعب”.

غير التوتر الذي أصبح يعانيه المصريون في الشوارع، امتد الشعور باللا أمان إلى المواطنين داخل بيوتهم، فالأمن المصري يقتحم المنازل بوتيرة متصاعدة، ونذكر هنا مشهد اعتقال الناشط محمد سعيد من منزله وهو يقوم ببث مباشر على فيسبوك لاقتحام قوات الأمن منزله”.

ش.ع. تسكن في منطقة وسط البلد، تقول إن قوات الأمن اقتحمت شقتها في غيابها، وكذا فعلت بمعظم الشقق في المنطقة للبحث عن نشطاء يدبرون التظاهرات، “الأمن لم يقصر في اقتحام المقاهي والشقق وبث الرعب في نفوسنا، ما اضطرني إلى مغادرة سكني والإقامة في منطقة التجمع الخامس البعيدة جداً من وسط القاهرة. حياتي كلها انقلبت رأساً على عقب، تركت أغراضي وابتعدت من عملي وسكني في انتظار أن ترحل قوات الأمن بثكناتها من وسط البلد، ولا أعلم متى سيأتي قرار الرحيل هذا”.

لا يعلم أحد متى تنتهي هذه الإجراءات الأمنية المشددة، على رغم خفوت دعوات الخروج إلى التظاهر وأعداد المعتقلين التي تخطت الـ800 معتقل إضافة إلى المختفين قسراً، ما جعل الحياة السياسية مأممة والحياة الاجتماعية أيضاً.

هـ.ك. يقول لـ”درج”: “يوم الثلاثاء 24 أيلول قررت أن أتجول مشياً على قدميّ، بجوار مول طلعت حرب، وقتها كانت الأجواء هادئة حتى حدث موقف فجائي ألقاني أنا وكل المارة في هوة من الرعب. سمعنا عساكر أمن يصيحون (كلٌّ يقف مكانه محدش يتحرك)، ومر موكب طويل من الدراجات البخارية الضخمة التابعة للجيش، وفوق كل دراجة ضخمة كان يجلس اثنان من الملثمين والمسلحين بالرشاشات، على جانبي سيارات الأمن المركزي حيث وجوه مغطاة باللثام الأسود ورشاشات مرعبة. فجأة أحسست أن داعش احتلّنا، لكن العربات تابعة للأمن المركزي والجيش، ومرّ الموكب ببطء، كأنهم يرغبون في أن يتمهلوا كي يثبت هذا المشهد في أذهاننا. أكثر من 30 سيارة ودراجة بخارية تحمل ملثمين، لم يكن الموكب يحمي رئيس الدولة أو أي مسؤول، كأن مروره في حد ذاته جاء خصيصاً لإرعابنا. لا أعلم كيف توقف الدم في عروقي وكيف عاد ينساب حاراً مرة أخرى في أوردتي، بعدما اختفوا عن الأنظار”.

 

 لم يعد الجو مرحباً بالتجول الحر والكلام العفوي والنظرة الواثقة والشعر المرسل والرداء الفاقع، فهذه الثقة وتلك العفوية تحفزان جاهزية كمائن الأمن المنتشرة في معظم شوارع المدينة للتنمر، وكأن هناك تهمة ضمنية وهي المشي بحرية بلا خوف ولا رعب بعد هذه المبالغات الأمنية كلها.

 

التضييق على المواطنين لا يشمل المعارضين فقط، بل يشمل المؤيدين للنظام الحالي أيضاً، إذ إن ع.ج. مؤيد لحكم العسكر ويعتبر وجودهم في السلطة الضمانة الوحيدة لعدم عودة الإسلاميين إلى الحكم. لم يتخيل ع.ج. أنه يخضع لمعاملة وتفتيش مهينين، على رغم أنه مؤيد بشكل مطلق للنظام الحالي. يروي لـ”درج”: “خرجت من بيتي يوم 5 تشرين الأول، وتم إيقافي في منطقة وسط البلد من قبل كمين شرطة، كان حسابي على فيسبوك يعج بمنشورات تؤيد النظام الحالي، وعلى رغم ذلك أصر الضابط على قراءة محادثات واتساب بيني وبين احدى الفتيات، كانت محادثة شديدة الخصوصية، وحينما اعترضت لأن المحادثة لن تزعج الأمن رد الضابط، استنى هشوف باعتالك فيديو سكس ليها ولا لأ عشان أشوفوه”.

ويضيف: “حيز انتهاك خصوصية المواطنين تخطى السياسة وبات يشمل التلصص على تفاصيل حياتهم وأدق أسرارهم ولا أعلم ما أهمية أن تتم تعريتنا إلى هذا الحد”.

وسط كل هذه المشاهدات أصبح طقس إفراغ الهاتف المحمول من البيانات طقساً يومياً. فنسيان حذف محادثات “فيسبوك” قد يؤدي إلى اعتقال غير معلوم المدة ولا المكان، حتى أن المرور على سجل الأغنيات داخل هاتف محمول أصبح يثير ذعراً ممزوجاً بالسخرية، بخاصة إذا كنت من محبي أغنية “يا مستني السمنة من ورك النملة” لياسر المناوهلي، وتود أن تسمعها وسط ضجيج الشارع على سماعات “الهاند فري”: “الرجل مخالفشي القانون الرجل بقى هو القانون، يسأل؟ ولا يسأل. وسلملي ع المستقبل، دكتاتورية ولا فاشية ولا سادية، تطلع إيه ديه؟ يمكن إجراءات تمكينية، سمعته قال إننا فقرة ننزل دحديرة نلاقي حفرة، الشعب بكلمة بقى نكرة، حوالية الخير على مدد الشوف، نفسي أصرخ واللى منعني الخوف، أنا بخ كلمة تلبشني كدة كخ أوعى ليهبشني، ولا يحبسني ولا يدبسني ولا يهرسني، مع إني دافعلو علشان يحرسني”.

سياسة “الردع والتخويف”: خطف واعتقال 2000 مواطن مصري