fbpx

الثورة التي أعادتنا شعباً واحداً

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

هذه المرة شعوب لبنان كلها، غاضبة على قياداته كلها. من أقصى الشمال إلى اقصى الجنوب، الكل غاضب على زعيمه وتياره وحزبه. هذه المرة الوضع مختلف.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

هذه المرة الوضع مختلف. هذه المرة شعوب لبنان كلها، غاضبة على قياداته كلها. من أقصى الشمال إلى اقصى الجنوب، الكل غاضب على زعيمه وتياره وحزبه. 

هذه المرة الوضع مختلف. 

إذ أتجول في ساحة رياض الصلح، تعيدني العبارة إلى شريط التظاهرات التي قمت بتغطيتها على مدى سنوات في المكان ذاته…

مشاهد تظاهرة الرابع عشر من آذار تفرض نفسها بقوة. 

يومها أيضاً قلنا إن الوضع مختلف. 

كانت المرة الأولى منذ نهاية الحرب الأهلية التي يشارك فيها لبنانيون من طوائف ومناطق مختلفة بهذا الحجم.  تظاهرنا يومها للمطالبة بخروج الجيش السوري من لبنان. حصل ذلك بعد أيام قليلة من تظاهرة حاشدة أخرى دعا إليها “حزب الله” تحت شعار الوفاء لسوريا. 

لم يخطر في بالنا يومها أن الاحتكام إلى الشارع والفرز الشعبي اللذين نتجا عن التظاهرات 

لم يكونا إلا مقدمة لتقاسم السلطة لأكثر من 14 عاماً بين ما صار يعرف من وقتها بقوى الثامن وقوى الرابع عشر من اذار. 

أنظر من حولي وأرى وجوهاً شابة فرحة أقدر أن أصاحبها، تشارك في تظاهرة للمرة الأولى. ثورة، ثورة، ثورة… يصرخون. كم هي جميلة أصواتهم. أغلق عيني. يبدأ النشيد الوطني. للمرة الأولى منذ زمن يساورني شعور ما. 

كم هي محقة مطالبنا. كم هو جميل وطننا!      

تحت تمثال رياض الصلح، تقف شادن ممسكة بمكبر الصوت. تكرر أسماء الزعماء اللبنانيين واحداً واحداً. لا تستثني أحداً. هي تقول الاسم ليصرخ المتظاهرون من بعدها: حرامي: حريري، بري، جعجع، جنبلاط، عون، باسيل…تصل إلى حسن نصر الله. 

يطالبها بعض الشبان بالتراجع. ترفض. يتراجعون هم، تتابع هي وأبتسم أنا. 

حماستي لتحرك الشارع لا تخلو من حذر. لا املك إلا أن أسأل نفسي، كم من الوقت قبل أن نقمع. متى ينتصر الفرز الطائفي واللعب على الغرائز. تعود الصور إلى رأسي. 

اعتصام “حزب الله” الذي استمر أكثر من سنة في ساحة رياض الصلح لأسقاط حكومة فؤاد السنيورة. كان ذلك عام 2006، بعد أشهر قليلة من حرب تموز…كنا نترقب هجوم المتظاهرين على السراي الحكومي ثم في لحظة واحدة ظهرت الخيم وبدأت المعركة على السلطة. 

حكومة السنة نقيض عمل المقاومة ولا بد أن ترحل. 

الثنائية الشيعية تريد أن تستأثر برئاسة الحكومة السنية ولا بد من المواجهة. التضامن الشعبي الذي شهدته المناطق اللبنانية خلال حرب تموز قبل ذلك بأشهر قليلة سقط أمام امتحان الصراع السني – الشيعي على السلطة.

معضلة سلاح “حزب الله” وفساد المنظومة السياسية صارت قضايا هامشية في ضوء الفرز الطائفي.

اما السلم الأهلي، فأهم إنجازاته نزع الصبغة الشيعية عن قوى الثامن من آذار وتغطية “التيار الوطني الحر”، لاحتلال وسط العاصمة لبنانياً تحت شعار الوقوف مع القوى والعودة إلى الحكم لأنهاء الإحباط المسيحي.  

الإحباط المسيحي، لم يكن هناك من طريقة لتجاوزه إلا عبر مزيد من الارتهان والفساد والتحريض.

 

ما أجمل ثورتنا…اضحك وأغالب دموعاً اخفيها بسرعة…

هل هو خوف؟ ربما، ولمَ لا؟ الخوف من الانهيار المالي، والخوف من الفراغ والخوف من الفوضى والخوف من استخدام “حزب الله” سلاحه لقمعنا…

ولكن الخوف لا يعني ألا أرقص في الثورة التي أعادتنا شعباً واحداً. 

 

في الساحة كما في تظاهرات المناطق يبدو الإجماع وطنياً حول اعتبار جبران باسيل الشخصية الأكثر استفزازية. لا أتمالك أن أسأل نفسي كيف تمكن من الحصول على المرتبة الأولى مع ان على اللائحة امراء حرب لهم باع طويل على مستوى الفساد واستغلال السلطة. قد يكون السبب قلة خبرة باسيل وشخصيته الركيكة ولكن الأغلب أن الغضب على العهد القوي سببه الأصلي أن التحالف بين التيار والحزب الذي أوصل ميشال عون إلى قصر بعبدا لم يكن يوماً مقنعاً لأي مواطن يرغب في العيش في دولة قانون قوية وعادلة. 

تعود الصور إلى رأسي… أحداث السابع من أيار، الاغتيالات، المحكمة الدولية، النأي بالنفس، الحرب في سوريا، انتصارات “حزب الله”…

اللبنانيون الخائفون من بعضهم على حصصهم يبررون لقياداتهم كل شيء من العجز والفساد إلى العنف واستباحة سيادة الدولة. 

اللبنانيون الخائفون على حاضرهم يرهنون مستقبلهم ومستقبل أولادهم.

اللبنانيون الخائفون على لقمة عيشهم يعيدون انتخاب سارقيهم.

الأجواء الحماسية تعيدني إلى اللحظة…بصوت واحد يصرخ المتظاهرون: حيو بيروت، حيينا، حييو جونية حيينا، حيو النبطية حيينا…أجد نفسي أصرخ وأغني… الشعور العارم ذاته يجتاحني. 

هذه المرة الوضع مختلف. 

أعيدها في ذهني عشرات المرات في محاولة لتجاوز الصور التي تتسارع في رأسي. 

مشاهد حراك 2015 يوم أعادت النفايات المتراكمة اللبنانيين إلى الطرقات ويوم أطلق شعار “كلن يعني كلن” للمرة الأولى في وجه الطبقة السياسية الحاكمة بأكملها. 

التحرك دام بضعة أسابيع حملت بعض الأمل ولكن ما لبث أن همش بعدما خضع لتهديد اركان السلطة وابتزازهم ومكائدهم.  

المتظاهرون، تم تخويفهم عبر أعمال شغب قيل يومها إن المشاركين فيها مناصرون لـ”حركة أمل” من الخندق الغميق، لتعود اللغة الطائفية وتنهي التحرك عملياً بعد إنهائه معنوياً عند رضوخ المنظمين للتهديد والقبول باستثناء “حزب الله” ورئيسه من تهمة الفساد عند إطلاق شعار “كلن يعني كلن”. 

الوضع مختلف هذه المرة. 

نعم الوضع مختلف. 

لهذا الأمر تماماً الوضع مختلف.  

ليس لأن بإمكان شادن ان تحقق انتصاراً صغيراً على شبان متحمسين كانوا ولا بد أثاروا أعمال شغب لو أحسوا ان بإمكانهم فعل ذلك. 

وليس لأن بين المتظاهرين في الساحة ممثلون عن الطوائف كافة، وقفوا بعمائمهم وأياديهم المتشابكة يلتقطون الصور. 

حتى ليس لأن في جونية من يتظاهر ضد ميشال عون ويسب جبران باسيل. 

الوضع مختلف وبشكل جوهري لأنه وعلى رغم الخطر، هناك في النبطية من حطم مكتباً لنائب “حزب الله” محمد رعد ولأن تظاهرة خرجت في صور أطلق المشاركون فيها شعار “نبيه بري حرامي”، وأنه على الأوتوستراد الدولي المؤدي إلى الزاهراني، تحت صورة حسن نصر الله ونبيه بري، راح شبان يتقاذفون كرة قدم، يتمازحون امام الدواليب المحترقة. 

الوضع مختلف لأن الفزاعة الطائفية سقطت. 

اسقطها الجوع الذي لم يرحم مسلماً ولا مسيحياً ولم يفرق بين سني وشيعي.

لن يكون بعد اليوم بإمكان ثنائية “حزب الله” – “حركة امل”، أن تصادر صوت أهل المدن والقرى الشيعية، وأن تمون على دماء أبنائهم. 

لم يحصل هذا في ساحة رياض الصلح…حصل على طريق جنوبية حرق فيها شبان شيعة الدواليب وخاطبوا من يفترض أنهم ممثلوهم بالاسم، قالوا لهم كفى! 

اللبنانيون اليوم، كل اللبنانيين، والشيعة معهم، والشيعة في مقدمتهم يتظاهرون للمرة الأولى من اجل أنفسهم. من أجل لقمة عيشهم ومستقبل أولادهم ومن أجل كرامتهم الشخصية.  وهنا كل الفرق. 

هم لا يحتاجون باصات تنقلهم إلى ساحات التظاهر.

لا ينتظرون من يعطيهم 100 دولار بدل أعابهم للمشاركة في تظاهرة حاشدة تستثمر سياسياً من قبل سلطة فاسدة ومفسدة.  

اللبنانيون اليوم يسمعون بعضهم، يرقصون مع بعضهم، يتناقلون فيديوات بعضهم، يدعمون بعضهم، يتغزلون ببعضهم، يضحكون على نكت بعضهم. يخافون على بعضهم.

نعم! يخافون على بعضهم وليس من بعضهم. 

شريط الصور يعيدني إلى تظاهرة 8 آذار. في ذلك اليوم نجح “حزب الله” بمصادرة الصوت الشيعي. 

صور الحشود الداعمة لـ”حزب الله” أنظر إليها من الطبقة العلوية في بناية شاكر وعويني…بدءاً من ساحة رياض الصلح وعلى مد النظر على الطريق المؤدية من نفق سليم سلام إلى المطار. 

كم أخافني هذا المشهد!    

الآن انتهى هذا الخوف. في الساحة يغني المتظاهرون على الملأ…كلهن يعني كلهن…ونصر الله واحد منهن… وعبر وسائل التواصل الاجتماعي يتداولون الفيديوات الآتية من كل مكان، من دون استثناء. لهذا السبب ربما يجب اعتبارها انتفاضة الواتس آب. 

 لولا “الواتساب”، الشعب اللبناني ما “أب” (أو لم يستيقظ بالعامية اللبنانية) واحدة من مئات النكات التي تناقلها اللبنانيون خلال الساعات الفاصلة بين انتشار خبر ضريبة الستة دولارات ولحظة النزول إلى الشارع.  

القضية ليست 6 دولارات تضاف إلى فاتورة هاتف هي أصلاً من الأغلى في العالم، إنما كفر تام بدولة مفلسة، فاسدة وعاجزة وسلطة لا يتفوق على وقاحتها سوى غبائها، لم تترك للبنانيين، كل اللبنانيين مكاناً الا وحاصرتهم فيه. 

خلال أقل من أسبوع، أبلغت الحكومة اللبنانية على لسان وزراء فيها عن نيتها سرقتهم وبشكل مباشر من اجل تمويل فسادها.

مطلع الأسبوع أتحفنا وزير البيئة بتصريح يقول فيه بالفم الملان إن علينا دفع الضرائب حتى لو كنا نعرف إنها ستُسرق. تمر أيام قليلة ليأتينا وزير الاتصالات بضرائب جديدة يفرضها هذه المرة على خدمة مجانية لا تكلف الدولة اللبنانية فلساً.  

بين التصريحين غابات لبنان تحترق، فيما يستقبل رئيس الجمهورية ملكة السويد وتروج وزيرة الداخلية للطائرات القبرصية. يحصل كل هذا فيما يعيش اللبنانيون على اخبار اقتصادهم المهدد بالانهيار في كل لحظة. عقوبات على “حزب الله” يدفع ثمنها الاقتصاد المحلي، عبر الضغط على العملة وإغلاق مؤسسات وصرف موظفين وهجرة أبناء وقمع الحريات، إضافة إلى فضائح مالية وتحريض طائفي وتهديد ووعيد وإفلاس وفقر وفوق كل هذا وقاحة في الفساد!

هيلا هيلا هيلا هو… أسمع المتظاهرين من حولي يتفننون بسب الزعماء وأضحك كما لم أضحك منذ زمن… ما أجمل ثورتنا…اضحك وأغالب دموعاً اخفيها بسرعة…

هل هو خوف؟ ربما، ولمَ لا؟ الخوف من الانهيار المالي، والخوف من الفراغ والخوف من الفوضى والخوف من استخدام “حزب الله” سلاحه لقمعنا…

ولكن الخوف لا يعني ألا أرقص في الثورة التي أعادتنا شعباً واحداً.  

انتفاضة الشيعة: ركيزة احتجاجات لبنان