fbpx

خرزة زرقاء إلى جبين لبنان… من عيوننا!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كلّما لاح على الشاشات بوادر حراك شعبي، انتفضت قلوب السوريين وطارت شعاعاً، وأملاً باستعادة الطريق التي تسربت من بين أيديهم واختُطِفت علانية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ليست سوريا وحدها بالطبع من تشمله التعاويذ، بل يُضاف إليها ليبيا واليمن على الأقل. هنالك لعنة أصابت ثورات تلك البلدان، بقدرة حكام الخليج أولاً، ثم باقي القوى الإقليمية والدولية، وبضعف حصانة البنى الاجتماعية في ذاتها، وبفعل الاستبداد المديد.

“سلامٌ قولاً من ربٍ رحيم”، كانت تردّد والدتي عندما ترى ظلال الأرواح الشريرة تجوس المكان. ونحن السوريين، نتحاشى المساس أو القرب من الثورة اللبنانية المجيدة الراهنة، حتى لا تصيبها لعنتنا. “سلامٌ قولاً من ربٍ رحيم”، وحصنتها بياسين، وبمريم العدرة أمِّ القدرة، وكلّ الأولياء والقديسين وأصحاب الخطوة، المعروفين منهم والمجهولين، حتى تستكمل دربها المجيد إلى الحرية والمواطنة والحداثة.

وكلّما لاح على الشاشات بوادر حراك شعبي، انتفضت قلوب السوريين وطارت شعاعاً، وأملاً باستعادة الطريق التي تسربت من بين أيديهم واختُطِفت علانية. عاشوا أياماً كأنها أيامهم أيام الخرطوم، وما زالوا يعيشونها في الجزائر، ولديهم في لبنان حصة ليست كغيرها. ربّما ابتدأت ثورتهم في التفاعل الداخلي منذ تظاهرات آذار ٢٠٠٥ في بيروت، واختزنت طاقتها حتى انفجرت في وجه الطغاة في آذار ٢٠١١َ. لا مثيل لمنزلة لبنان لدى السوريين. حريته المنقوصة والمشوهة قديماً كانت مناط عقولهم وقلوبهم يوم لم يكن لهم من مناطٍ أبداً. منذ ذلك الآذار القديم، لم يتسمّر السوريون أمام الشاشات إلا يوم خرج حسني مبارك من قصره، وبعد ذلك. الآن، هم أمامها من جديد، يغزلون وينقضون، حتى يصلوا إلى خيوط رايتهم في معركتهم القادمة.

هل هنالك من دليل على أن هذه الثورة قد كانت تتجمع منذ زمن طويل في المجتمع اللبناني، أكثر من موضوع شرارتها المباشرة؟! تلك التي وصلت بها السلطة السائدة إلى ذروة انحطاطها حين ظهر قرار الضريبة الجديدة العجائبية على اتصالات “الواتس أب”، وقد كان من تصميم وزير الاتصالات عضو تيار المستقبل، ما غيرُه!

تحوم لواقط الاستشعار المختلفة للقوى الخارجية المعروفة الآن، تحاول التقاط يدٍ تمتدّ إليها أو تكون ضائعة أو ملولةً تريد عوناً سريعاً، على “عونِها” و”جبرانِها” و”سعدِها” و”وليدها” و”سميرها” و”سليمانها” و”نبيهِها” وأولاً “حسنهِا” ووليّها الفقيه هناك- هنا. “كلّن يعني كلّن”. الخاصة الأولى للثورة اللبنانية في كونها هكذا، وجدت فرصة ممتازة لتشمل الجميع، تلك السلطات والمعارضات التي شاء حظها أن تلتقي في الحكومة الحالية، حكومة الوحدة الوطنية المزعومة.

هنالك بعضٌ أفضل من بعض، ولكن شمول غضب الشارع للجميع ضروري وخلاق، ضرورة ألا تتولّد حالة جديدة من رحم الأولى لاحقاً. فليَستقِل الجميع: رئيساً وحكومة ومجلساً نيابياً وقيادات أحزاب، ولتحلّ القوى الأكثر جرأة نفسها كلياً، حتى تتخلص من إرث “الإقطاع السياسي” وعائلاته وطائفيته ونمط إنتاجه وإعادة إنتاجه.

لقد كانت “طائفيتنا” أقلّ ظهوراً، لكنها استطاعت أن تفتك بجسم الثورة السورية وعقلها. كما كانت معارضتنا الرسمية أقلّ تداخلاً مع النظام وأكثر تضحيات بكثير، لكنها استطاعت أن تسلّم مؤسسات الثورة وقراراتها للغريب رأياً ومنطقاً، وتترك السوريين في العراء، عراةً جياعاً مشردين يندبون موتاهم وخراب بيوتهم.

لذلك ربما يكون من حظ الثورة اللبنانية أن تتفسخ القوى السياسية الطائفية ويعاف الناس الطائفية أخيراً، حين وحدّهم الفقر والجوع والإقصاء وامتهان كراماتهم وحريتهم، وحين جاءت اللحظة المناسبة، التي لم تتأخر عن موعدها، ولم تبكّر فيه.

في الحالة اللبنانية التي طالما كانت مستعصية، هنالك سدّان أمام مصلحة الشعب وتقدمه: أولاهما تلك البنية التقليدية التي قام عليها لبنان أساساً، من حيث الزعامات التقليدية للطوائف والمناطق، وتكريسها العائلي الذي يتجدد كل مرحلة بإضافة عائلات جديدة إلى تلك القديمة، ولكن بعد أن تنغمس في التقليد ذاته. وثانيهما ذلك الجدار الذي شكّله حزب الله كشكل تنظيمي للطائفة الشيعية، إلى جانب حركة أمل التي تكمله من دون أن تكون في رأس الحربة الفاعلة.

كان حزب الله مركز تعلّق المسلمين والعرب في موقفهم من إسرائيل، فأصبح اسمه الحركي: “المقاومة”، من دون الالتفات إلى طبيعته وبنيته الطائفية المرتبطة بإيران خامنئي، تلك التي ظهرت مباشرة بعد الانسحاب الإسرائيلي من لبنان في أيار ٢٠٠٠، في استعراض أصفر وأسود للقوة وإمكانية العنف الذي أخذ شرعيته من موقفه من العدو الخارجي حتى يتفرغ لعدوه الداخلي. أصبح حزب الله دولة ضمن الدولة يتلبّسها، فيسمح لها حيث يريد ويمنعها حيث يريد، وصار كل من يقف في وجه ذلك عدواً للمقاومة وشريكاً لإسرائيل، مع تحوّل لقواته المسلحة إلى قوة معترف بها، موازية لقوة سياسية تتوسع داخل المجلس النيابي انطلاقاً من الطائفة المحتكرة ثم الحلفاء الذي يخضعون بأنفسهم لمعادلة القوة أو يساعد على إخضاعهم النظام السوري. تحوّل حزب الله بعدها إلى خطر إقليمي بيد حكام إيران، يقوم بوظائف كبيرة في سوريا والعراق وحتى اليمن.

مهما حدث بعد ذلك، لن ينسى خصومهم هذه الأيام المجيدة، وسيرتعشون رعباً في لياليهم القادمة، ولن يستطيعوا حراكاً ولا استمراراً بعد ذلك.

في حين تطور التيار الوطني الحر من شبابٍ آمنوا بمشروع ميشيل عون يوم كان منفياً في باريس، واعتبروا أن ذلك المشروع هو ما سينقذهم من استعصاء مشكلتهم مع القوى التقليدية المذكورة، وسيبني دولة معاصرة وحكماً للقانون والمواطنة. اشتغل شباب التيار مع القوى الشعبية الأخرى- ومنها اليسارية- بين الطلاب والنساء، وكنت معجباً آنذاك بتركيبة أولئك الشبان وطريقة عملهم، حدث ذلك في واقع الأمر، بحيث كان الوضع جاهزاً لعودة عون من باريس، التي أتاحها له اغتيال رفيق الحريري وارتخاء قبضة النظام السوري.

واستسهل عون طريقه فيما بعد إلى الرئاسة، بتيسير أموره مع دمشق، والتحالف الوطيد مع حزب الله. وربما كان يحسب أن إنهاء النظام القديم القائم عرفاً منذ الانتداب الفرنسي، يمكن إنجازه بتحويل شراكة الحكم من مارونية- سنية، إلى مارونية- شيعية، بآليات الوعي المحدودة والمستعجلة قبل فوات العمر والفرصة.

في ذلك بدت الحالة اللبنانية أكثر استعصاءً على الحلّ والتفكيك، وصار التغيير أكثر بعداً وابتعاداً. فارتاح حزب الله وتفرّغ لمهامه الأممية، واطمأن الرئيس عون فأخذ يبني ركائز الاستمرار التي اختار لها الطريقة القديمة التي كان قد ثار عليها، ودخل في مخروط الاستبداد والفساد بقوة وقدرة عالية على المنافسة. في الوقت نفسه، تفسّخت البنية التقليدية عند اضطرارها إلى التعامل مع تلك الحالة، تعاوناً أو تنافساً، بعد مرور الوقت أيضاً على انتفاضة آذار 2005، واضطرار أهلها الأقربين إلى الخضوع لتحالفات غير منطقية، مثل ذلك الذي جمع الحريري مع التيار الوطني وحزب الله، فيما سمي بالتسوية.

فكيف بهذا الشعب، وأولئك الشباب يثورون على كل هذا، ويواجهون كل تلك الجدران، “كلن… كلن”، ولا يسلبون قلوب جيرانهم والعالم ويحيون آمالهم بتغيير وجه هذه المنطقة القبيح ووجه العالم؟!

مهما حدث بعد ذلك، لن ينسى خصومهم هذه الأيام المجيدة، وسيرتعشون رعباً في لياليهم القادمة، ولن يستطيعوا حراكاً ولا استمراراً بعد ذلك.

لبنان… ثورة الفرح واستعادة الساحات