fbpx

الـ”توك توك” : الملاك الحارس في تظاهرات العراق

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“عندما يسقط متظاهر في الشارع، أحاول الوصول إليه قبل غيري من أصحاب التوك توك،”خطية” الشباب…”

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

إلى زمن قريب؛ وقبل اندلاع تظاهرات تشرين الأول/أكتوبر 2019، كان سائقو عربات التوك توك مثار سخرية وتذمّر في الشارع العراقي، فهم فقراء ويشوهون شوارع بغداد بمركباتهم الرديئة، ويزاحمون المركبات الفخمة في الطرقات، ويتسببون بازدحام السير وحوادث مرورية. لكن، هذه الصورة النمطية تغيرت تماماً بعد الأول من تشرين الأول/أكتوبر، عندما عجزت سيارات الإسعاف عن إنقاذ الجرحى الذين يسقطون واحداً تلو الآخر في شوارع بغداد، فبات أصحاب التوك توك يتسابقون لحملهم إلى المستشفيات، معرضّين أنفسهم ومركباتهم الصغيرة إلى الخطر، خطر الموت بالرصاص الحي وقنابل الغاز المسيل للدموع التي تخترق رؤوس المتظاهرين وأجسادهم العارية إلا من العلم العراقي، ورصاص القناصة المنتشرين على أسطح البنايات العالية. أصبح سائقو التوك توك مسعفين ومتظاهرين في الوقت نفسه، وصار التوك توك بمثابة ملاك حارس للمتظاهرين، ووجوده مبعث للطمأنينة والعزيمة في الحشود.

المگاريد أبناء المگاريد

غالبيتهم العظمى –أصحاب التوك توك- من الطبقات الفقيرة في المجتمع البغدادي، بلا تعليم أو وظائف، عاطلون عن العمل، صغار في السن والخبرة، متهورون في قيادة مركباتهم الصغيرة ورخيصة الثمن، يكسرون قواعد السير في الشوارع، ليس عندهم ما يخسرونه كما يقول قحطان ابن الخامسة عشر ربيعاً، وابن الفقر والويل والحزن، وابن مدينة الثورة أيضاً.

قحطان الذي ولد في بلد يُحتَضَر، ترك دراسته الابتدائية ليعيل أسرته المكونة من والده وأمه وشقيقاته الخمسة، يسكن في شبه بيت، يُسمى في العراق “مشتمل” بمدينة الثورة أو مدينة الصدر أو مدينة صدام. يحكي قحطان الصغير معاناته الطويلة: “أبي أصيب في انفجار سيارة مفخخة، كان يعمل حمالاً في الأسواق، وعندما لم يعد قادراً على العمل، تركت المدرسة وأخذت عربته وبدأت العمل حمالاً لعدة سنوات، لكن قبل سنة اشتريت التوك توك بالتقسيط، العمل به أفضل من العربة، وأقل تعباً”.

تك تك تك يا ام سليمان

تكتكنا بنص النيران

تكتكنا حامل غِيرة

تسوه أمريكا وإيران

يبلغ سعر التوك توك في بغداد حوالى مليون دينار عراقي (800 دولار أمريكي) وصار لافتاً في السنوات الأخيرة انتشاره في مناطق بغداد مع انتشار الفقر والبطالة، إذ وبحسب آخر إحصائية لوزارة التخطيط العراقية فإنَّ مجموع السكان تحت مستوى خط الفقر يبلغ 22.5% من إجمالي الشعب العراقي البالغ 38 مليون نسمة.

قحطان واحد من أولئك الذين يتأرجحون على ذلك الخط الطويل، لكنه فخورٌ بنفسه الآن: “لقد أنقذت عشرات المتظاهرين في التظاهرات الأولى (يقصد تظاهرات الأول من أكتوبر) وأكثر من ذلك في هذه التظاهرات، عندما يسقط متظاهر في الشارع، أحاول الوصول إليه قبل غيري من أصحاب التوك توك، “خطية” الشباب خرجوا يبحثون عن فرص عمل وتعيينات، لا يريدون شيئاً آخر”.

يتسائل قحطان عن السبب الذي يجعل الحكومة تضرب المتظاهرين بالرصاص الحي وبقنابل الغاز المسيل للدموع، وقتلهم بالقنص: “والله ما شايلين غير الأعلام، ليش يرموهم؟ بعيني شفت شباب صغار ضربهم القناص، وطشَّر روسهم، وغيرهم نقتلوا بقنابل الغاز المسيل للدموع، آني من أشوف واحد يوكع أتوجهله مباشرة، بس ما اقدر إلا أبكي، الي يصير بالمتظاهرين جريمة”.

قحطان واحد من عشرات أصحاب التوك توك الذين يرافقون المتظاهرين في الشوارع والساحات، إنَّهم بمثابة إسعاف فورية، يقول عنهم عميد كلية الاقتصاد في جامعة النهرين ببغداد الدكتور عماد عبد اللطيف بأسلوب شعري: “تمّ طردهم من “العشوائيّات” ومن “البسطيّات” ومن عرباتِ الجَرِّ، كأنّهم أحصنةُ الألفيّة الثالثة، فحَمَلوا راية العراقِ المُتاحة، وركبوا سيّارات”التكتك” وجاءوا إليكم. أنتم لا تُجيدونَ سوى بيعِ الوهمِ، وإطلاق الرصاص على الرأسِ الغاضبِ، والصدر العاري، والبطنِ الخاويةِ، والقلبِ المكسور. لا عشوائيّة تأويهم، ولا “بسطيّة” تُطعمِهُم، ولا بندقيّة تحميهم، ويتوسّدون عرباتِ الجَرِّ في آخرِ الليل، وليسَ لديهم سوى الراية و”التكتك” وأنتم تبيعونَ لهم الوهم، وتقولونَ لهم: أمّا نحنُ، أو الفوضى؛ يا أبنائنا الأعزّاء! تُرى ما هو الوضع الأكثرُ فوضى ممّا هُم فيه؟”

الحضور اللافت للتوك توك وأصحابها في التظاهرات العراقية، عززه غياب سيارات الإسعاف، وصعوبة وصولها إلى حشود المتظاهرين بسبب قطع الطرق، والخوف من استهدافها من قبل القناصة وقوات الأمن، خاصة في ساحتي التحرير والطيران بالعاصمة العراقية بغداد، لذا كان التوك توك وسيلة الإنقاذ الوحيدة، وهي بالإضافة إلى مهمتها الإسعافية فهي تقوم بمهمة أخرى، حيث يعتمد عليها المتظاهرين في نقل الطعام والماء وعبوات البيبسي لتقديم الإسعافات العاجلة ضد الغاز المسيل للدموع.

عن أصحاب التوك توك يقول الشاعر العراقي إيهاب شغيدل: “لم أشاهد في حياتي أشجع من هؤلاء، على أيديهم سوف يسقط النظام القاتل الطائفي هذا، إذا مو اليوم غداً، حاولت أن أركز عليهم فحسب، أوثق بطولاتهم وهم ينقلون الجرحى والمختنقين، وراء كل تكتك قصة جوع وفقر وشجاعة وتحرر، كل شاب منهم يمكنه أن يرعب قلب ألف سياسي، لا أعرف كيف أكون مثلهم، أنا الذي ما إن سقطت تحت قدمي قنبلة مسيلة للدموع هربت بحثاً عن ببسي، لذلك أقول: إنَّها ثورة التكتك، التكتك أيقونة الثورة”.

حرب ضد أصحاب التكتك 

في أيار/مايو 2019 اتخذت مديرية المرور في العاصمة بغداد جملة من القرارات التي تمنع سير التوك توك في المدينة، وقال مدير قسم العلاقات والإعلام في المديرية مؤيد خليل إن: “قرار مديرية المرور العامة بمنع استعمال الستوتات والتكتك في الطرق الرئيسية والعامة قرار صائب وله عدة إيجابيات على مستوى تطبيق القانون المروري وكذلك الحفاظ على جمالية العاصمة”.

محمد الربيعي عضو مجلس محافظة بغداد، هو الآخر يرى أنَّ ظاهرة انتشار عجلة التوك تك في العاصمة، تحمل سلبيات كثيرة، ولا فائدة من تلك العجلة، وأنَّ العجلة تسببت بمشاكل كثيرة من الناحية الأمنية حتى أصبحت تخرق الذوق العام للبغداديين، خاصة ذوق سكان الأحياء الراقية في بغداد مثل: الكرادة والمنصور والجادرية وغيرها من المناطق الجيدة”.

مواقع التواصل الاجتماعي العراقية كان لها موقفها الرافض أيضاً من انتشار التوك توك في بغداد، وكانت أصحاب التوك توك عرضة للسخرية والتندر من قبل نشطاء تلك المواقع، حيث لا يفوتون أي مناسبة للحديث عن التوك تك إلا وتنمَّروا عليهم ووصفوهم بأنَّهم “معدان” وهي جمع كلمة “معيدي” وتطلق هذه التسمية باللهجة العراقية على سكان الأهوار في جنوب العراق الذين يعيشون على صيد الأسماك وتربية الجواميس وهاجروا في ستينيات القرن الماضي إلى أطراف بغداد ووطَّنهم عبد الكريم قاسم في أطراف العاصمة بغداد ثم صارت بعد ذلك مدينة الثورة التي تحولت بعد مجيء حزب البعث إلى السلطة إلى “مدينة صدام” وبعد سقوطه عام 2003 تحوَّل اسمها إلى مدينة الصدر.

“تك تك تك يا ام سليمان”

على مواقع التواصل الاجتماعي، وثّق الكثير من النشطاء والمشاركين في التظاهرات بطولات أصحاب التوك توك، وهنالك العشرات من الفيديوهات والصور التي تظهرهم وهم يسيرون بمحاذات الحشود وفي وسطها، تحسباً لأي إصابة تحدث، ولم يفوتوا فرصة الاعتذار لأصحاب التوك توك، وعنهم يقول غيث محمد وهو أحد المشاركين في اعتصام ساحة التحرير: “كل شيء في كفة، وأصحاب التوك توك في كفة، لقد اعتصموا معنا، من أين هؤلاء؟! كيف لنا أن نجازيهم؟ إنَّهم ملاكنا الحارس، فداء لوجوهكم، وتسريحات شعركم، وضحكاتكم البريئة”.

بفضل التوك توك ما يزال آلاف المتظاهرين العراقيين على قيد الحياة، رغم أنَّ 223 قتلوا منهم وأصيب أكثر من 8000 آخرين خلال الاحتجاجات ضد الفساد والطائفية. ويتداول المتظاهرون الآن في شوارع بغداد والمدن المنتفضة أهزوجةً شعبية عن التوك توك تقول: 

تك تك تك يا ام سليمان

تكتكنا بنص النيران

تكتكنا حامل غِيرة

تسوه أمريكا وإيران

عودة الغضب إلى شوارع العراق