fbpx

حُراس مرمى محترفون يحمون الاعتصامات العراقية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

التظاهرات التي انطلقت في الأول من تشرين الأول/ أكتوبر 2019، والتي شهدت على مدى أسبوعٍ كامل عمليات اغتيال وحملات اعتقالات مرعبة، أعادتنا إلى أزمانٍ يُقال إنها ولّت وانتهت.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“سأقاطع أي تظاهراتٍ جديدة”، كنت اتخذت قراري، فقد سئمت تسييس التظاهرات، وتجييرها لجهاتٍ دينية أو سياسية، ولطالما انقاد قادتُها خلف مصالحهم، وتخلّوا عنها، فلم تكُن الاعتصامات في وطني سوى صور تُلتقط مساءً، وتُنشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي ليتفاخر بها أصحابها. كان الشعب أبرز من دفعني إلى مقاطعة أي احتجاج. إنه شعب مقسّم إلى ميليشيات وأحزاب، وتوجهات وانتماءات، وشخصيات وأوطان. شعب كهذا كيف يسير إلى إنجاح اعتصامه؟

التظاهرات التي انطلقت في الأول من تشرين الأول/ أكتوبر 2019، والتي شهدت على مدى أسبوعٍ كامل عمليات اغتيال وحملات اعتقالات مرعبة، أعادتنا إلى أزمانٍ يُقال إنها ولّت وانتهت. كُنت أيقنت أن أرواح هؤلاء الشباب ودماءهم ذهبت هباءً، بخاصة مع النتائج المُخزية التي أعلنت عنها لجان التحقيق التي شكلّتها الحكومة العراقية…

انطلقت تظاهرات 25 تشرين الأول، راويةً حكايات الأبطال والثائرين في العراق التي لم تنتهِ بعد، وما أن فرض الليل سُلطته على نهار ذلك اليوم، حتى أيقن كل عراقي أن هذه الثورة لا تشبه سابقاتها، وحتى ذلك الحين كُنت تلك الصحافية الحبيسة بين جدران بيتي، تماشياً مع مخاوف عائلتي عليّ، إذ يتعرّض في الآونة الأخيرة الصحافيون والمدونون في العراق لأبشع أنواع القمع، والترهيب في سبيل مصادرة آرائهم الحرة، ومنعهم من توثيق ما يواجهه أبناء هذا الوطن من أسرٍ أو إقامةٍ جبرية أو اعتقال من قِبل الجهات الحاكمة، التي وضعتهم بين خيارين، إما الارتضاء بالفساد ونظام السرقة والتجويع أو الموت…

طيلة يوم ونصف اليوم، كُنت قررت الهرب من عائلتي تحت ذريعة العمل، من دون أن اخبرهم أنني سألتحق بساحات الاعتصام، في منطقة الباب الشرقي حيث ساحة التحرير، لم أكُن أنا الوحيدة التي قامت بفعلة كهذه. نساءٌ كُثيرات، أثبتن أن للمرأة قوة أكبر لمواجهة الموت، بل كنّ يراقصنه، ويبادلنه الغزل والابتسام، أنا ومن معي أطلقنا حملة عبر مواقع التواصل الاجتماعي لجمع التبرعات وتوفير الوقود لسائقي “التُوك التُوك” التي كانت تُساعد على إقالة المصابين من المتظاهرين إلى المستشفيات، بينما عملت أخريات على تقديم الدعم اللوجستي من المواد الغذائية، ونقلها إلى ساحات الاعتصام، فضلاً عن التبرع لنقل زجاجات “البيبسي” التي كانت تُستخدم للتقليل من تأثير الغازات المُسيلة للدموع، إضافة إلى دور المُسعفات المتطوعات اللاتي نصبن خيمة للمساعدة في إنقاذ المصابين. حتى أن كثيرات كُنّ يبتن مُتخذات من حديقة الأمة في الباب الشرقي مأوى لهنّ، وبعضهن تحدين إخوتهن وأزواجهن من أجل الخروج والاعتصام.

24 ساعة بين يومي السادس والعشرين والسابع والعشرين من تظاهرات تشرين الأول، هي التي أدركنا فيها أن هُناك شعباً جديداً ولد، وهو شعب رفض أن يُخبئ رأسه تحت التراب كما فعل أباؤنا وأجدادنا حين بكوا طُغيان أنظمة دكتاتورية، مُتناسين أنهم صنعوها بعجينة من صمت.

التظاهرات التي انطلقت في الأول من تشرين الأول/ أكتوبر 2019، والتي شهدت على مدى أسبوعٍ كامل عمليات اغتيال وحملات اعتقالات مرعبة، أعادتنا إلى أزمانٍ يُقال إنها ولّت وانتهت.

زُرت التحرير في 27 تشرين الأول، مُحملةً بما جمعته من دعم لوجستي للشباب هُناك، وما أن أنزلني الباص الآتي من منطقة الكرادة داخل، متوجهاً الى السعدون عند تمثال عبد المحسن السعدون، حتى اخترقت رائحة حارقة أنفي، فوضعت كمامة الغاز المُسيل للدموع. ما فاجأني ليس أعداد الناس هناك، ولا أعمارهم، ولا القنابل التي حرصت أدوات الحكومة على إطلاقها كل ثلاث دقائق أو أقل، بل فوجئت برغبة هؤلاء في احتضان الموت بشجاعة، وبخطةٍ عسكرية احترافية يواجهون بها حملة القتل التي أعلنتها الحكومة العراقية ضدهم. بعد تمثال السعدون، قرب النفق المؤدي إلى شارع الرشيد يقف رجال ونساء بمختلف الفئات العمرية، يقومون بتوزيع زجاجات المياه وأطباق من أشهى الاطعمة، والعصائر، فتشعر وكأنك ضيف في حفل كبير أو مهرجان. وجوههم المغطاة بكمامات تشي بابتسامة تنبعث من عيونهم التي أغرقها الدمع بسبب الغازات التي أطلقت عليهم. لم تكُن ابتسامة انتصار أو فرح، إنها ابتسامة من اختار الموت، لأنه يحيا على قيده منذ 16 عاماً، وما أن يتجاوز زائر التحرير هذا النفق متجهاً إلى نصب الحرية لمحمد غني حكمت، حتى يخبره من حوله عن خطة عسكرية يجب أن يتبع قواعدها لينجو بحياته في جبهة القتال تلك. على اليمين خيم أُقيمت تحت النصب، وعلى اليسار عمارة كبيرة تُدعى عمارة المطعم التركي والتي تضم أكثر من 2000 شاب، وفي الوسط سائقو “التوك توك” المختصون بنقل الضحايا ممن اختنقوا أو أصيبوا بقنابل الغاز بشكلٍ مباشر، فضلاً عن وقوف عدد من الشباب الذين يحملون أغطية صوفية  مُبتله بالمياه، وزجاجات “البيبسي”، ومهمة هؤلاء إيقاف مفعول القنابل المسيلة للدموع التي تُطلقها قوات يُقال إنها “من مكافحة الشغب”. كان حاملو الأغطية يلقونها على القنبلة ويرمونها تحت جسر الجمهورية، حيث ينتظرها عدد من الشباب الذين يقومون بإخماد تأثيرها. تعليمات هذه الجبهة، أن تنظر دائماً إلى السماء بتجاه جسر الجمهورية حيث تطلق القوات قنابلها من هناك، وأن تبتعد إن شعرت بأن القنبلة تُطلق بتجاهك لكن لا تركض، وأن تسمح للمتربصين بالقنبلة بالتقاطها. حاملو الأغطية كانوا حراساً لمرمى الحياة، وكانوا يصطادون الموت ويبعدونه من الذين يطلبون الحياة، وكلما اصطاد هؤلاء الشباب قنبلة، أطلق من حولهم صيحة انتصار ضاحكة، بينما يقف عند مبنى المطعم التركي شباب هدفهم مُراقبة قوة منع الشغب، يتربصون بهم وما أن تقترب هذه القوى من خيم التحرير، حتى يواجهها الشباب بطرائق خاصة، قد لا يُسرّ البعض بالكشف عنها.

بينما تتسابق عجلات التوك توك وسيارات الإسعاف لنقل المُصابين، أتسابق أنا ومن معي من الصحافيين ومقتنصي الحدث والمستجدين على جبهةٍ كهذه، فالمشهد كان أشبه بلعبة “البوبجي”، لحماية التظاهرة. 

خرجتُ من ساحة التحرير متجهة إلى شارع السعدون لأجد مجموعة من الشباب يلعبون كرة القدم داخل النفق المؤدي إلى شارع الرشيد، وآخرين منغمسين في لعبة فولكلورية عراقية وهي “الدعابل”. كانوا يضحكون، يقهقهون، يصفقون، ويغنون، بينما يُصاب قلبي أنا بانتفاضة المستجد على تنفس الحرية، فغاز التحرير ثقيلٌ على من لا يعرفه كمن يجهل ثمن الحرية، منذ تلك اللحظة أيقنت أن ما يحصل اليوم يختلف عما سبق، فهذا الجيل أسقط الخطوط الحمر لقادة الميليشيات الدمويين، وكشف الوجوه المتخفية تحت قناع الدين. هذا الجيل كان يركل الموت ككرة قدم، ويصطاد القنابل كما يفعل حراس المرمى المحترفون، فما علينا سوى أن نقف بإعجاب مُشجعين إياهم وداعمين، وألا نترك مُدرجات الملعب فارغة حتى نهاية اللعبة.

الـ”توك توك” : الملاك الحارس في تظاهرات العراق