fbpx

لبنان اليوم: ذاك الغريب الذي أجهل

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لا نعرف إلى أين سيسير الحراك الحالي، ولا ما سينجح في تحقيقه من تغييرات جذرية في المدى القصير أو يعجز عنه، لكنه يبقى لحظة ثورية بامتياز.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لبنان اليوم ليس البلد الذي أعرف. زرتُ بيروت أول مرة ربيع عام 2000. أذكر جيداً نزولي من شارع جان دارك بمنطقة الحمرا، حيث كان الفندق، إلى شارع بليس بمحاذاة الجامعة الأمريكية، أتجول في مدينةٍ غريبة وإن نطقت لغتي. نزلت ما عرفت لاحقاً أنه سلالم عين المريسة إلى الواجهة البحرية. عدا بهاء الثلج فوق الجبل في الأفق وراء البحر والمدينة، أبهرني مشهد الناس على الكورنيش، الذي بدا شديد التنوع زياً وعمراً وطبقاتٍ اقتصادية (كما دلت أزياء المتريضين وسياراتهم المصفوفة). عدت إلى المدينة بعد عامين، لكن هذه المرة كباحثٍ ميداني، كان موضوع أطروحتي للدكتوراة “مراسم محرم عند شيعة لبنان (الاثنا-عشرية)”. كسنيٍ يدرس الشيعة، وجدت نفسي بين المشكوك فيهم والمتهم عند كثٌرٍ من فرقتي الإسلام الأكبر، لا في لبنان فقط، لكن في بلدي مصر أيضاً. كما عرفتُ عبر عشرات المرات التي زرتُه ومكثت فيه عبر السبعة عشر عاماً الماضية، يختصر لبنان في جسده الصغير أمراض هذا الجزء المنكوب من العالم مجتمعةً، من ثم أهمية ما يجري فيه اليوم، من حيث لا يعلمون، يواجه اللبنانيون أوجاع منطقةٍ بأسرها، لذلك سيذهب أثر نجاحهم أبعد بكثير من حدودهم.

أذكر جيداً حديثي مع صديق لبناني عام 2003 (كنت وقتها قد تعرفت إليه للتو) عن بحثي عن مكانٍ للسكن، نصحني ببيروت الشرقية. سألته أليست هذه منطقة مسيحية، أنى لي السكنى فيها؟ رد: “هيدا حكي تركناه ورانا”. ربما تركه البعض، في بيروت الشرقية وغيرها، لكن سرعان ما اكتشفت أن الحرب الأهلية توقفت، لكنها، بتحالفاتها وانقساماتها المتبدلة، بين الطوائف وداخلها على حدٍ سواء، لم تنتهِ.

سكنت بمنطقة الحمرا قريباً من الجامعة الأمريكية، المنطقة الوحيدة التي، حسب المؤرخ اللبناني الراحل كمال صليبي، تتوارى فيها طائفية باقي لبنان. ضاحية بيروت الجنوبية بدت عالماً آخر، مثلما اختلفت بعض مناطق الأشرفية في عيني بشدة عن الاثنين. عدا التفاوتات الطبقية التي لا تخطئها العين في أي مدينة، تتفاوت مستويات استخدام العربية والإنجليزية والفرنسية من حيٍ لآخر في بيروت، كما طبيعة البناء وأسماء الشوارع ودور العبادة (من الدين نفسه). مؤشرةً لتصورات متباينة، إن لم تكن متنافرة، للتاريخ والهوية. أما تناقضات الولائات السياسية، الملتزمة حدود لبنان والعابرة خارجها، فحدِث ولا حرج.

كل هذا قفز في وجهي في صورة شديدة الدرامية مع مقتل رفيق الحريري عام 2005، الحدث الذي بدا لوهلةٍ قصيرة أزمة بلدٍ بكامله سرعان ما أنقلب أزمةً طائفية، أو هكذا أريد له. المضحك-المبكي أن لبنان كان لا يمر بأزمة تعيد قلب الموازين، إلا ليدخل أخرى تعيدُ خلط الأوراق، من اغتيال رفيق الحريري (2005) مروراً بحرب حزب الله-إسرائيل (2006) ثم حرب 2008 الأهلية “المصغرة”، ثم “اختطاف” سعد الحريري في السعودية 2017، وصولاً إلى الأزمة الحالية.

باستثناء الأسبوعين الماضيين، مع كل اضطرابٍ جديد كان يثبت لي ما كره أصدقاء لبنانيون سماعه مني: ليس من لبنان، هذا الـ”لبنان” لا وجود له. هناك طوائف وزعامات وولاءات متباينة، لكن لا أغلبية متفقة فاعلة، ناهيك عن إجماعٍ على مشروعٍ قومي. جلّ المنتفعين من منطق التقسيم الطائفي الذي بني عليه هذا الكيان الهش منذ ميلاده، إن لم يكونوا كلهم، واصلوا العمل بدأب لإعادة إنتاجه والحفاظ على مصالحهم، ومن ثم دافعوا بقوة عن ضعفه، ووقفوا بحزم ضد ولادة وطنية لبنانية جامعة.

باستثناء الأسبوعين الماضيين، مع كل اضطرابٍ جديد كان يثبت لي ما كره أصدقاء لبنانيون سماعه مني: ليس من لبنان، هذا الـ”لبنان” لا وجود له.

لافتٌ كيف استعانت بعض القيادات، خاصة من الطوائف الكبيرة، بقوىٍ أجنبية في مراحل مختلفة من تاريخ هذا البلد، في صورة أبدتها ذات ولاء لدول أخرى قبل لبنان، سواء للحفاظ على الوضع القائم لمصلحةٍ فيه، أو العمل سعياً لذوبانه في كيانٍ إقليمي أكبر، أو على الأقل خضوعه لها. حتى السابع عشر من أكتوبر الماضي، المشهد المعتاد أن لكل لبناني لبنانه، من ثم لا لبنان ولا لبنانيين. من وجهة نظري لم تبدُ “اللبنانية” أكثر من صدفةٍ جغرافية.

اليوم الصورة مناقضة لما سبق.

لا نعرف إلى أين سيسير الحراك الحالي، ولا ما سينجح في تحقيقه من تغييرات جذرية في المدى القصير أو يعجز عنه، لكنه يبقى لحظة ثورية بامتياز. فساد الطبقة السياسية أسطوري، يعرف هذا كل لبناني كما يعرفه العالم، لكن من كان يظن أن يخرج ناس هاتفين بالاسم وصفة اللصوصية ضد زعماء طوائفهم ومناطقهم؟ الطائفية عرّفت لبنان وخنقته في آنٍ معاً، هناك شعارات اليوم، أكثر من أي وقتٍ مضى تطالب دون مواربة بإسقاط النظام الطائفي، أي فعلياً بتغيير النظام السياسي برمته ومع ذلك بالطبع الثقافة التي خلقت البلد الذي نرى اليوم. من نزلوا إلى الساحات لفظوا الطائفية فعلاً، إن لم يلعنوها قولاً، وتحركوا كـ”لبنانيين”، كأبناء وطن واحد جامع اكتووا جميعاً بنفس الأزمة، يحاربون النظام والنخبة اللذين أنتجا أزمتهم، النخبة التي اعتبر أفرادها ولائهم الطائفي والمناطقي عادةً، من المسلمات. لكن المسلمات اليوم تداس بالأقدام. ربما دون قصد، ما يجري الآن هو ولادة لبنان، لبنان مواطنين تُعرّفهم سياسياً لبنانيتهم ولا شيء آخر، يحاسبون ساستهم ومسئوليهم بدلاً من تقديس “زعمائهم”. لا مخاض خلوٌ من الآلام، لا طريق ممهد ولا حلول سريعة، لكن ما بدأ تامٌ حتماً، أياً كانت العثرات، وهي كبيرة بلا شك. حراك ينتج أمة ويسعى للإطاحة بنظامٍ سياسي بكل رموزه؛ إن لم تكن هذه هي الثورة فما الثورة؟

مهمة حماية الانتفاضة اللبنانية من الحريري وجعجع وجنبلاط