fbpx

حول الجامعة اللبنانية والانتفاضة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يس هناك جامعة في العالم تسمى أو توصف بـ”الوطنية”. يقتصر الأمر على لبنان. ربما تعود هذه الصفة إلى إرث يساري أو حنين إلى صفة أطلقت في الستينات.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ليس هناك جامعة في العالم تسمى أو توصف بـ”الوطنية”. يقتصر الأمر على لبنان. ربما تعود هذه الصفة إلى إرث يساري أو حنين إلى صفة أطلقت في الستينات. عندما تقول “الجامعة الوطنية” كأنك تقول الجيش الوطني أو النشيد الوطني، فتحملها طابعاً عاطفياً شبه مقدس لا يحتمل النقد. أو كأنك تقول “وحدة وطنية” (كالحكومات) وأنت تعرف أنه شعار للتغطية على ما تحته من تفكك. أو كأنك تقول الجامعات الخاصة غير وطنية.

“الجامعة اللبنانية” هو اسم العلم، أما الصفة بحسب قانونها (75/67) فهي أنها “عامة” (public)، تمييزاً لها عن الجامعات الخاصة. وهذا هو التعبير الشائع عالمياً أيضاً. ومعنى الجامعة العامة أنها تعمل بموجب إنفاق مصدره الخزينة العامة للدولة، وأنها تقدم خدماتها للعموم، من دون تمييز، وأنها لا تخص أحداً بعينه، لا كلياً ولا جزئياً. وأنها تخضع للمحاسبة العامة، من الحكومة، والشعب، والطلاب والأساتذة ووسائل الإعلام. وبالتالي فإن نقد ما يحصل فيها هو حق عام أيضاً.

تقدم الجامعة اللبنانية والجامعات العربية (العامة) نموذجاً في الحكامة (الحوكمة) لا يشبه ذلك السائد في أوروبا وأميركا. يوجد في العالم ثلاث نماذج في حكامة الجامعات العامة: الأكاديمي، النابوليوني، والتسييري (managerial). وما يجمع هذه النماذج أنها مستقلة أكاديمياً، أي تسير بحسب معايير وأصول مصاغة ومطورة ويجري ضبط تطبيقها ضمن الهياكل والممارسات والتقاليد الأكاديمية. النموذج النابوليوني، الذي مركزه الدولة (مثل فرنسا)، هو الذي قامت على أساسه الجامعة اللبنانية وسائر الجامعات العربية العامة. لكن حكامة هذه الجامعات تطورت مع الوقت تحت ضغوط سياسية متتالية وانضمت إلى نموذج رابع هو النموذج السياسي، وتشترك فيه مع الدول الشيوعية والتوتاليتارية عموماً والدول التي ينهكها النزاع السياسي.

يحق لكل رئيس أميركي جديد أن يغير عدداً يصل إلى 3 آلاف من قياديي الإدارات والوكالات العامة، مقابل ما بين 200 و300 في دول أوروبا. لكن لا يجرؤ رئيس أميركي أو أوروبي، ولا أي من وزرائه، أن يغير أي رئيس أو عميد أو حتى رئيس قسم في الجامعة أو يعين أستاذاً أو يقول لأي من هؤلاء ماذا يجب أن يفعل. ولا تتدخل الحكومة وأي من أعضائها في تعيين الأساتذة وفي ترقيتهم ولا في قبول طلاب الدكتوراه، ولا في مضمون التعليم ولا في مواضيع البحث في العلوم الاجتماعية، الخ. الثقافة الأكاديمية والمهنية تمنع دخول رجل السياسة ومحسوبيته إلى الوظائف الإدارية العامة، والى الجامعات والمؤسسات التربوية العامة. وأهل الجامعة هم أول من يتصدى لأي تدخل، ويتعاملون معه مهما كان صغيراً بأنه فضيحة. وهناك أساليب محاسبة داخل الجامعة. بل إن نقابات الأساتذة تكون في طليعة من يحقق في ذنب أخلاقي أو مهني يتهم أستاذٌ جامعيٌ بأنه اقترفه، وهي بدورها تشارك في إصدار الحكم عليه، تبرئة أو إدانة، تماماً كأي نقابة مهنية في العالم.

المحسوبية (أو الزبائنية، أو الرعاية والحماية) هي الكلمة المستعملة عالمياً للدلالة على تدخل السياسة في المؤسسات العامة. لكن التدخل هو بُعدٌ واحدٌ من بُعدي الحِكامة السياسية. أما البعد الثاني فهو الأيديولوجيا.

المحسوبية (أو الزبائنية، أو الرعاية والحماية) هي الكلمة المستعملة عالمياً للدلالة على تدخل السياسة في المؤسسات العامة. لكن التدخل هو بُعدٌ واحدٌ من بُعدي الحِكامة السياسية. أما البعد الثاني فهو الأيديولوجيا. في الصين مثلاً، 10 في المئة من أرصدة المقررات التي يأخذها الطلاب يجب أن تكون من مقررات التربية السياسية، التي يكتبها تربويو الحزب الشيوعي. وعلى الأساتذة أن يكونوا حذرين في كلامهم، فهناك عيون وآذان داخل الصف وخارجه. ونعرف جيداً ماذا حصل في الجامعات العامة في تركيا بعد محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016. وعلى المنوال نفسه بإمكاننا أن نتخيل تقاليد التعليم الجامعي في إيران والسعودية.

تبرز الجامعة اللبنانية بين جميع الجامعات في العالم في قوة السيل السياسي الذي يسيل في عروق حِكامتها: لا يعين أحد في أي منصب فيها إلا ويكون محسوباً على جهة سياسية. ولا يعين الأساتذة إلا بناء على لوائح تضعها المكاتب السياسية للأحزاب. ولا يعيَّن الموظفون، منذ “لائحة بطرس حرب” الشهيرة (هكذا كانت تسمى في سجلات الجامعة)، إلا ضمن توزيع للحصص بين أهل الحكم.  والطلاب يشكلون مجالس الفروع ضمن تحالفات للأحزاب السياسية، وعندما لا تجرى انتخابات يتجدد المجلس من طريق الوراثة السياسية (تسليم وتسلم ضمن كل حزب على حدة). ورابطة الأساتذة هي صورة طبق الأصل عن مجلس الجامعة الذي هو صورة طبق الأصل عن حكومات “الوحدة الوطنية”.

ليست الأحزاب السياسية عشائر فقط، بل لديها خطاب وأيديولوجيا. لذلك نفهم تماماً كيف أن القيادات الإدارية والتعليمية والطلابية الحاكمة في الجامعة أخذت موقفاً صامتاً من انتفاضة الشباب منذ 17 تشرين الأول/ أكتوبر. ولكي تعرف ما وراء الصمت عليك أن تتتبع استنكار شرائح واسعة من الطلاب والأساتذة في الصحف وعلى مواقع التواصل الاجتماعي ضد هذه الانتفاضة. هذه الأصوات تصدر من أوساط الجهات الحزبية نفسها، بل أصبح بعض أصحابها يتكلم مثلما يتكلم جماعة “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” في السعودية، وكأن الشبابَ، هم كفار سياسيون.

لكن شرائح واسعة أيضاً من طلاب الجامعة اللبنانية وأساتذتها خرجوا من أسوار هذه الأيديولوجيات، لسبب بسيط أنهم يرون ويسمعون ويعانون من جهة ويفكرون من جهة أخرى. الأساتذة الجامعيون هم نخب تقع على عاتقهم صياغة الأفكار وخاصة أفكار التغير الاجتماعي، بحجج تخضع لمنطق العقل وقيم العدالة الاجتماعية والحرية الأكاديمية. لعلهم رأوا في انتفاضة الشباب بصيص نور وأفقاً للتغيير، فذهبوا إلى الساحات للمشاركة في الحدث، ولبناء حضور خاص بهم، أو لبناء أجندة تتقاطع مع الانتفاضة العامة وتحمل في الوقت نفسه شؤون الجامعة وشجونها.

على مستوى المشاركة في الحدث، رأى الأساتذة الجامعيون الوجه المشرق لانتفاضة الشباب. الشباب فاجأوا الجميع بتمردهم على أهل الحكم الذين أمعنوا في الفسادَيْن السياسي والمالي، على حساب حقوق المواطنين وصحتهم وبيئتهم ومستقبل أبنائهم التربوي والمهني والإطاحة بالحد الدنى من نوعية حياتهم في الحصول على الماء والكهرباء، إلخ. من هذه الناحية ليست الانتفاضة محلاً لرفع مطالب الجامعة، ولا مطالب أي فئة معينة. نقل المطالب إلى هناك مثل تسلق بعض الوصوليين السياسيين على انتفاضة الشباب. وعلى العكس من ذلك فان الأكاديميين يُطلب منهم وضع معارفهم في العلوم الاقتصادية والاجتماعية وخبراتهم الفنية والأدبية في خدمة الشباب، فهؤلاء متشوقون لفهم السياق والأفاق. وهذا يفرض على الأساتذة الابتعاد من الخطابية والأجوبة الجاهزة التي استعملت من قبل السياسيين لتمويه فسادهم، بما في ذلك دعوات هؤلاء السياسيين إلى مكافحة الفساد.

على مستوى طرح شؤون الجامعة اللبنانية وشجونها، أكان في اللقاءات بين الأساتذة الجامعيين في الساحات، أو داخل الجامعة نفسها، فإن الأكاديميين مدعوون إلى طي صفحة اللغة التي كانت سائدة في الجامعة طوال ثلاثين سنة، والتي نجدها بسهولة في بيانات رابطة الأساتذة المتفرغين التي يتحكم بها ممثلو أحزاب السلطة. والى إنتاج لغة جديدة. فشعار “استقلال الجامعة” مثلاً هو شعار فارغ بل مضلل، بقدر ما أهمل ذِكر سبب عدم استقلالها الذي يكمن أصلا في وجود ممثلي السلطة والأحزاب السياسية في رئاسة الجامعة ومجلسها ومجالس وحداتها وسيطرتهم على رابطة الأساتذة. إن مناداة هؤلاء باستقلال الجامعة هو مثل مناداة أهل الحكم بمكافحة الفساد. فإذا ما كرر الأساتذة مع الانتفاضة هذه اللغة يكونون قد ساهموا في إفساد الانتفاضة. كذلك فان مناجاتهم الحكومة بتفرغ المتعاقدين، فيها إفساد لأن فيها إقراراً مسبقاً بحق الحكومة في ذلك وهو ليس من حقها. هذه بدعة تعود إلى التسعينات أدخلت الأساتذة في دائرة من الإذلال والمحسوبية. إذا كان لانتفاضة الشباب من مغزى في شأن الجامعة اللبنانية، فالمغزى هو أن يضع الأساتذة حداً للسياسيين وممثليهم في الجامعة وعبثهم بكرامة الأساتذة وبالمعايير الأكاديمية في التعليم وفي نيل الشهادات وفي البحث العلمي، وأول الغيث تغيير الخطاب. الشباب تمردوا على المسؤولين، لكن الأساتذة لا يستطيعون الاكتفاء بـ”التمرد” فقط لأنهم هم أيضاً مسؤولون، فكرياً وعملياً، تجاه مهنتهم وتجاه جامعتهم وطلابهم وبلدهم.

هذه ليست في النهاية سوى أفكار عامة للنقاش، وهي تعني أن يقوم الأساتذة أنفسهم ببناء لغتهم الأكاديمية النقدية لتجربتهم الجامعية، وأن يبلوروا بأنفسهم أفكاراً جديدة ولغة جديدة، خارج الصندوق الذي صنعه السياسيون. وهذا يحتاج إلى لقاءات ومناقشات وصوغ نصوص وبيانات تتقدم فكرياً مع كل تغير في الحجة والمعطيات، وإلى تواصل بين الأساتذة في المناطق لرفد هذه الورشة طويلة الأمد بموارد فكرية متنوعة.

من مريم خيرو إلى حصان كليّة الفنون: كيف أُجبر الموديل العاري على “الاحتشام” في لبنان؟