fbpx

ثوار العراق: المولوتوف وسرّ بناية المطعم التركي بحوزة آل باتشينو

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“من مثلي ميّتٌ في كل الأحوال، لذلك قررت أن يكون هذا موقعي مع انطلاق التظاهرات. على الأقل سأكون طيلة الأيام تحت سقف هذه البناية، أضمن حصولي على سجائر وطعام، وحين يموت جسدي سيموت بشرف”…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لم تكُن عينا أركان الشاخصتان تنظران إلى الزحام على سطح المطعم التركي، كان يقف هو وشخص آخر على قبةٍ مُربعة تعلو سطح الطبقة الأخيرة من المطعم، ويتوسطهما العلم العراقي. كان أركان ينظر بتجاه جسر الجمهورية وكأنه يحاول رصد الفريسة. هذا الثلاثيني الأعزل الذي تبدو عليه ملامح اليأس ينظر كصيادٍ إلى فريسةٍ مُلغمةٍ بالعتاد والأسلحة، أشرت إليه بالنزول، فنظر إلي ولم يتجاوب معي، حتى ناداه الشاب الذي اصطحبني إلى قمة المطعم التركي، فلبى أركان نداءه ونزل إلينا. جلس على حافة السطح المُطل على ساحة التحرير وحدّثني عن أسباب مُرابطته عند قمة “جبل أُحد” كما سمّاه، وكان يقصد المطعم بذلك. قال “تخيلي أنني بلا عائلة، ولا شهادة، ولا سقف آوي إليه، ولا حتى عمل. أفترش الأرصفة كل يوم، وإن حالفني الحظ أجد رصيفاً غير رطب، وفرشةً مرمية هنا أو هناك ونفايات تحوي أطعمةً دسمة. من مثلي ميّتٌ في كل الأحوال، لذلك قررت أن يكون هذا موقعي مع انطلاق تظاهرات تشرين الأول/ أكتوبر. على الأقل سأكون طيلة الأيام تحت سقف هذه البناية، أضمن حصولي على سجائر وطعام، وحين يموت جسدي سيموت بشرف الشهادة”.

بناية المطعم التركي تحتضنُ مئات الذين يشاطرون أركان حكايته، بأسماء وألوانٍ مختلفة، حتى علي الطفل الذي لم يتجاوز الثامنة من عمره والذي أخبرني أنه يصنع الشاي لسكان البناية من المتظاهرين في الغرف الداخلية من الطبقة الأخيرة لتلك البناية.

“سيدتي منذ ساعة وأنتِ تجوبين البناية، هل رأيتِ قنبلة مولوتوف واحدة مثلاً؟.”

دخول المطعم التركي

من الجانب الأيسر للطريق المؤدي إلى جسر الجمهورية، اقتادني محمد أحد المتظاهرين المُلتزمين البقاء في بناية المطعم التركي، إلى الجانب الأيمن من الشارع، نحو باب ضيق يقف كل من يريد الدخول إليه في طابور. دخلت الطبقة الأرضية، وهي عبارة عن باحة كبيرة مزدحمة. كانت رائحة النشادر تملأ المكان، حتى أنها تفوقت على رائحة الغاز مسيل الدموع، على رغم أنني كنت أضع كمامة ومن ثم قناعاً واقياً. المشهد مخيف في تلك البناية التي لم يتبقَّ منها سوى هيكل بعدما تم قصفها في تسعينات القرن الماضي، ومن ثم قُصفت عام 2003 خلال الحرب العراقية الأميركية بعدما استخدمها الجيش العراقي آنذاك مقراً له.

النفايات تنتشر في الطبقة الأرضية بشكل غريب، إضافة إلى الروائح الكريهة، فيما كثيرون يحاولون إزالة النفايات إلا أن المسألة تحتاج إلى حملة متكاملة وكبيرة لتنظيف البناية بالكامل.

أغنياتٌ حماسية 

لم يكُن سهلاً على من يدخل إلى بناية المطعم التركي، خصوصاً أولئك المقيمين فيها، الصعود والنزول من الطبقة الرابعة عشرة وإليها، حيث “غرفة المراقبة”، من دون حافز، فكانت أهزوجة، “واحد صاعد واحد نازل” التي وضع لها المقيمون في البناية لحناً خاصاً لصعود السلالم وصولاً إلى الطبقة الأخيرة، وذلك بشكل مُنتظم، في طابورٍ من الصاعدين، يقابله طابور آخر من النازلين، فيما فقد السُلم أسواره الواقية، ما زاد المشهد ريبةً.

كان مجد يرقص على أغنية من هاتفه النقال، بعنوان “ابو التُوك تُوك”، حين توقف قليلاً وقال لـ”درج”: “الرقص في ممرٍ ضيقٍ كهذا، وعلى سلمٍ مخيف خالٍ من الأسوار، وفي بناية مُتهالكة كتلك التي نحتمي تحتها هو الوحيد الذي يخفف من وقع قلقي وأنا أقف على السلم مُعلقاً بين الطبقة السادسة والرابعة عشرة، مُنتظراً دوري للصعود الى هناك”.

أُغنياتٌ لشتم قادة سياسيين كانت واحدة من أبرز الهتافات الحماسية التي يستخدمها سُكان المطعم التركي، أو جبل أُحد كما يُسمونه، فالأسلوب الذي نُظم به المكان جعله أشبه بالجبال، وتُطبّق فيه قوانين الجبال أيضاً.

في باحة كل طبقة، كان البعض حين يصل يحاول استنشاق هواء نقي، علماً أن روائح البول تملأ السلالم، وكانت الباحات تُساعد على استنشاق كميات من الهواء النقي لأنها بلا أبواب وشبابيك.

إضاءة البناية

“فعل المتظاهرون من سُكان هذه البناية ما عجزت الحكومة العراقية عن فعله منذ 16 عاماً”، يقول حسين أحد المتظاهرين من سُكان جبل أُحد. وحين سألته عما إذا كانت هذه الأضواء متوافرة منذ البداية؟ قال “إن البناية تفتقر للإضاءة منذ عام 2003 وحتى الآن، فهذه البناية المشكوك في أنها آمنة صحياً، بسبب تعرضها للقصف في الحرب العراقية – الأميركية الأخيرة بمواد مشعة، مدّها المتظاهرون بالكهرباء وعمدوا إلى إضاءتها وها هي تنعم بالضوء”.

جميعُ من على قمة جبل أُحد يبتسمون ويضحكون، وكأنهم غير مُدركين أن الموت يقف على بُعد أمتارٍ منهم، أو أنهم يضحكون من الموت، ومن تفوقهم عليه

النرجيلة، الرسم، لعب الورق

في الطبقة الرابعة عشرة، وعلى سطح بناية المطعم التركي، كان جابر مع اثنين من أصدقائه، يعملون على إيقاد الفحم، وقد غطوا وجوههم ما أن لحظوني ألتقط الصور. أخبرني جابر بعدما طمأنته وعرّفته بنفسي أن “لا مكان للموت في المطعم التركي، نحن نمارس الحياة بكل وجوهها، فكما بكينا هنا وحزنّا، نحن نضحك ونرقص، وكما قتل بعضنا هنا، يحيا آخرون. النرجيلة من الطقوس التي لا تفارق الشاب العراقي، ولأنني صرت أسكن في هذا المكان بما يقتضيه الواجب عليّ كمتظاهر يطالب بحقه وهدفه حماية إخوته في ساحة التحرير، أنا ايضاً بحاجة إلى ممارسة هواياتي منها تدخين النرجيلة”.

أشار جابر نحو شباب لا تتجاوز أعمارهم 15 سنة، كانوا يلعبون الورق، وقد صرخ أحدهم “جوكر، ألم أقل لكم أنني متظاهر حقيقي، فقد ظهر الجوكر ضمن الأوراق التي بحوزتي”، وقال جابر: “هؤلاء أيضاً يمارسون ألعابهم”.

على سطح المطعم التركي، الذي يُعدّ “القلعة الحامية لتظاهرات أكتوبر” كما يقول جابر، وعند الجهة التي تطل على جسر الجمهورية وقف ثلاثة شبان، ممسكين بفرشاة رسم وعصارات ألوان زيتية، يقومون برسم العلم العراقي على وجه بعض الأشخاص أو على أيديهم، وفق الطلب.

على بعد مترٍ منهم، يتجمع صبية لتأدية رقصات غربية، على صوت أغنياتٍ عراقية غريبة الألفاظ، جميعُ من على قمة جبل أُحد يبتسمون ويضحكون، وكأنهم غير مُدركين أن الموت يقف على بُعد أمتارٍ منهم، أو أنهم يضحكون من الموت، ومن تفوقهم عليه.

من هم جنود جبل أُحد؟

قال محمد الذي رافقني إلى المطعم وأخبرني أنه رسام، “هؤلاء الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 10 و30 سنة، والذين يلازمون المكان هنا، هم ممن فقدوا الشعور بالحياة، إنهم حُلفاء الموت، فالعدم والتشرد والظلم وكل ما عاشوه من فقدان الأمل بكل شيء، والخسارات التي صاحبتهم، جعلت من هذه البناية جنةً بالنسبة إليهم، لذلك نحن نراهن عليهم لاستمرار التظاهرة، وحماية ساحة التحرير. من لا يخشى الموت هو الوحيد القادر على الوقوف بوجه قوات مكافحة الشغب الذين يواجهوننا على جسر الجمهورية، وهو الوحيد القادر على حماية من في ساحة التحرير، هؤلاء الشباب العُزّل هم القادرون على الاستمرار في هذه المعركة، وهذا الجبل يوفر لهم مقومات العيش والاستمرار بالحرب”.

المنجنيق 

على رغم إصرار رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي في خطاباته على “وجود أسلحة يستخدمها المتظاهرون”، إلا أنني ومن على قمة المطعم التركي لم أجد سوى آلة ضخمة أطلق عليها “المنجنيق”، وعدد من الأحجار الكبيرة، الآلة عبارة عن عمودين متقابلين ومتوازيين من الخشب الضخم، تربط بينهما قطعة من “اللاستيك أو المطاط المرن”. يقوم عدد من الصبية بجرّ المطاط بواسطة حجارة ضخمة وإطلاق الحجر باتجاه جسر الجمهورية، حيث ينتشر عناصر القوات ذات الرداء الأسود، وتختفي وجوههم تحت أقنعة سود. قال غزوان أحد الذين يقفون عند المنجنيق “لا وسيلة لنا غير هذه الحجارة، فهؤلاء الملثمون يهددوننا بالذبح عبر حركات إيمائية كانوا يستخدمونها كلما حاولوا إطلاق قنبلة مسيلة للدموع باتجاه الخيم في ساحة التحرير”.

“المولوتوف”

جهاتٌ أمنية عراقية، ومنها رئيس الوزراء ومدير الأمن الوطني، أكدت أن بحوزة المتظاهرين قنابل مولوتوف يطلقونها على الجهات الأمنية، إلا ان المتظاهرين نكروا تلك الاتهامات.

وعلى قمة المطعم التركي، كان نشطاء مناصرون للحكومة العراقية يؤكدون وجود هذا النوع من القنابل التي تصنع يدوياً إلا أن سُكان البناية، يردّون بالقهقهات كلما سألهم أحد عن المولوتوف، ويقولون “أثبِتوا لنا أننا نملكها ولو بصورة واحدة أو مقطع فيديو”.

وقال فرقد أحد الشبان الغاضبين حين سألته عن “المولوتوف”: “سيدتي منذ ساعة وأنتِ تجوبين البناية، هل رأيتِ قنبلة مولوتوف واحدة مثلاً؟.”

السرّ عند آل باتشينو

على رغم أن بناية المطعم التركي تشي بالحياة، إلا أنها حياةٌ ولدت من رحم الموت، بالضبط كعود أخضر يُعثر عليه وسط حقل مُحترق. أغنيات، رقص، ضحك، أطعمة، روائح نتنة لا يمكن احتمالها، نظام وضعه ورسم خططه بدقة سُكان هذه البناية، حتى القوانين تجسدت بشخصٍ واحد أو اثنين يقفان عند كل طبقة، لتوجيه الصاعدين والنازلين وتنبيههم وتحذيرهم، في محاولة لحمايتهم ومنعهم من دخول إحدى الغرف في بناية المطعم، والتي لم أعرف ماذا كانت تحتوي تحديداً. فحين اقتربت منها لم ألمح سوى “أغطية صوفية” لم أرَ ما تحتها، فسرّ المطعم لم يكشفه أحد بعد، ولم يوثق حتى الآن لا بصورة ولا حتى بمقطع فيديو، إنهُ سرّ اطلع عليه آل باتشينو وحده، علماً أن صورته كانت تتوسط حائطاً مواجهاً للسلم المؤدي إلى الطبقة الثالثة أو الرابعة، في بناية جبل أحد.

العراق ليلة حماية جبل أُحد في ساحة التحرير…

 

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!