fbpx

انتفاضة لبنان… أصلها وفصلها

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“عملاء السفارة”، عبارة ولدت لتغطي وجوهاً ومرحلة وجيلاً مختلفاً، ولهذا استدعت حين وُوجه بها طالب جامعي اليوم ابتسامة العاجز عن فهمها. “عملاء السفارة!” أي سفارة؟ ماذا تعني؟ هل هذا شيء سيئ أم جيد؟

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تفترض الانتفاضة اللبنانية من خصومها نوعاً مختلفاً من الخصومة. فهؤلاء الخصوم اعتادوا واختبروا خط انقسامٍ مختلفاً، ولهذا جاءت ردودهم عليها مضحكة. “عملاء السفارة”، عبارة ولدت لتغطي وجوهاً ومرحلة وجيلاً مختلفاً، ولهذا استدعت حين وُوجه بها طالب جامعي اليوم ابتسامة العاجز عن فهمها. “عملاء السفارة!” أي سفارة؟ ماذا تعني؟ هل هذا شيء سيئ أم جيد؟ وهذا التلميذ إذ أبدى عدم اكتراث بدلالاتها، ترك متهميه أسرى حيرتهم بما تقتضيه مواجهته. أمين عام “حزب الله” حسن نصرالله ورئيس الجمهورية ميشال عون لا يملكان لغة لمخاطبة هذا المتظاهر الجديد. أما نحن “ركاب” التظاهرات المعتادة فلم نكن أكثر من هامش ومن زوار لتظاهرات غيرنا.

لعل الارتباك الأكبر الذي أصاب خطاب السلطة بارتجاج هو عدم امتلاكها لغة لمواجهة المتظاهر الجديد. المتظاهر “غير المهذب” وغير المنضبط الموصوم بتهمة السفارة، لا تعني له الأخيرة أكثر من تأشيرة هجرة لم يتمكن من الحصول عليها. فلنتخيل طالباً جامعياً في التاسعة عشرة من عمره وقد اتهمه أمين عام “حزب الله” أو تلفزيون “أو تي في” بأنه عميل للسفارة. الاتهام لن يصيب به منظومة الخوف التي تأسست فينا نحن أجيال “تظاهرات السفارات”. أو أن تقول له إنك “قليل التهذيب” وهو الذي لطالما استيقظ في الصباح ليجد رسالة واتس آب من زميلته تقول له فيها “fuck you “.

لم يفلح خطاب الردع التقليدي في رد المتظاهر الجديد إلى منزله، إذ إن هذا الخطاب تم بناؤه لمتظاهر آخر، ليس أقل شجاعة، إنما متظاهر صادر عن نمط مختلف من الخوف ومن الحذر. “السفارة” لا تردع المتظاهر الجديد، ولا يردعه أيضاً وصفه بـ”قلة التهذيب”. والأهم هو مستوى القطيعة بين المتظاهر الجديد وبين سبابة السيد وبينه وبين وجه الرئيس الهرم.

ما جرى للراهبة التي هددت طلابها بفصلهم من المدرسة في حال شاركوا في التظاهرة كانت نموذجاً كاشفاً للهوة بين الأجيال. فالراهبة استدرجت عشرات الحكايات التي كتبها على “فايسبوك” من سبق أن تعرضوا لقسوة راهبات المدارس في ما مضى، وهؤلاء قالوا أن راهبات ذلك الزمن لطالما انتصروا على تلامذتهم. الأمر بالنسبة لتلامذة اليوم لم يكلف أكثر من نشر رسالتها على “واتس آب”، لتعتذر الراهبة ولتتراجع عن تهديدها.

لعل الارتباك الأكبر الذي أصاب خطاب السلطة بارتجاج هو عدم امتلاكها لغة لمواجهة المتظاهر الجديد.

الحكمة كانت تقتضي أن تُواجه التظاهرات بالاختفاء الكامل، فالأحزاب لم تعد نفسها للأجيال الجديدة. كانت منشغلة بغنائم السلطة، وكان فتية كثيرون ينشأون في غفلة منها. السلطة وأحزابها لم تعد نفسها لأنواع من المعارف يصعب صدها، ولهذا شرعت تتهم السرعة التي أبداها المتظاهرون في إنتاج محتوى الثورة البصري بأنه “مؤامرة” معدة مسبقاً، وأن ثمة من كان يُنتج كل هذه الفيديوات والعبارات والشتائم قبل بدء الاحتجاجات. السلطة وأحزابها والأهل والمدارس لا يعرفون أن الهاتف صار بإمكانه أن يتحول إلى جهاز إنتاج. ومن يعرف هذه الحقيقة لم يسعفه خياله بأنها ستوظف للإطاحة به. السرعة هي جزء من ثقافة شرعت تنشأ بتأثير من تكنولوجيا ومن ثقافة مختلفة.

ما يحصل هو نوع من السبق في سياق خصومة من نوع جديد. وفي هذا السبق، بدت أسلحة السلطة صدئة. سلاح “حزب الله” لم يتمكن من أن يتحول إلى فكرة رادعة على ما دأب يفعل في السنوات السابقة. خطب الأمين العام المتتالية تحولت إلى خسارات متتالية. ومساعي “التيار الوطني الحر” إلى تصوير ما يحصل بصفته “شارعاً في مقابل شارع” باءت بالفشل، ذاك أن خلطاً هائلاً للشوارع أحدثته التظاهرة وصار من الصعب رده إلى زمن ما قبل الانتفاضة.

لطالما شعرنا ونحن نشارك في التظاهرة بأننا ضيوف، وبأن من يقودنا فيها هم جيل ما بعد تظاهرة عام 2015. كان هذا شرطاً لكي تنسجم مشاركتنا مع وجه التظاهرة ومع لغتها. وهي، أي التظاهرة، كانت من الذكاء بحيث أدركت أين يجب أن نصطف فيها، ومتى عليها أن تنظر إلى وجوهنا. كثيرون منا لم يشعروا بانسجام معها. هذا تماماً ما حصل لنصر الله بصفته خصمها أيضاً. فمثلما لم يجد واحدنا وجهه فيها، لم ينجح نصر الله في تحديد وجه خصمه فيها. شرع يقول إنه معها بشرط أن تكون “مهذبة” وبشرط ألا تشمله شعاراتها. وهل يعقل أن يضع أحد شروطاً على تظاهرة! كثيرون منا حاولوا المشاركة ولم يستسلموا لحقيقة صدورها من حساسية مختلفة ومن هم مختلف.

الانتفاضة ليست امتداداً لانقساماتنا. متنها جاء من مكان آخر تماماً، وفي هوامشها التقى آلافاً من طرفي الانقسام. السلطة لم تجد في مواجهتها سوى لغة لا تصلح لمخاطبتها ولمواجهتها، ولهذا بدت هزيلة، وشرعت الخطب تتهاوى خطاباً بعد آخر. وجه الرئيس اهتز في المحاولة الأولى، فيما بدل الأمين العام صورته في الخطاب الثاني وزرع علماً لبنانياً خلفه. لم تجدِ هذه المحاولات، ذاك أنها كشفت عن مزيد من الارتباك، واستدرجت مزيداً من الابتسامات.

الأرجح أن الحل لمن لا يستطيع الاندراج بصمت في التظاهرة، أن يختفي تماماً، وأن يتركها بحالها، وأن يشرع بتفكير متأخر بحقيقة أنها سبقته، وأنه لم يعد مؤهلاً لهذه المواجهة.

انتفاضة لبنان: ضرورة البقاء خارج الحكومة …