fbpx

وثائق سرية تُظهر كيف تتحكم طهران بالسلطة وتفرض نفوذها في العراق

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

مئات الوثائق الإيرانية المُسربة تكشف صورة تفصيلية عن كيفية سعي طهران الدؤوب لترسيخ نفسها كأحد الأطراف الفاعلة في الشؤون العراقيّة، وعن الدور الفريد الذي اضطلع به اللواء قاسم سليماني

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]


في منتصف شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ومع احتدام الاضطرابات في بغداد، تسلل زائر غير رسمي بهدوء إلى العاصمة العراقيّة. فقد تعرضت المدينة للحصار منذ أسابيع، مع خروج المتظاهرين إلى الشّوارع مطالبين بإنهاء الفساد وداعين إلى إسقاط رئيس الوزراء عادل عبد المهدي.  ومما ركزّ عليه المتظاهرون أيضاً، الدعوة للحدّ من التأثير الهائل لجارتهم إيران، على السياسة العراقيّة، وكان لافتاً حرق المتظاهرين للأعلام الإيرانية ومهاجمة قنصليتها.

ذهب هذا الزائر إلى هناك عازماً على إعادة استتباب النظام، غير أن حضوره ألقى مزيداً من الضوء على أكبر مطالب المتظاهرين. جاء اللواء قاسم سليماني، قائد “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري الإيراني، لإقناع أحد حلفاء إيران في البرلمان العراقي بمساعدة رئيس الوزراء للبقاء في منصبه.

لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يُوفَد فيها اللواء سليماني إلى بغداد لإنقاذ الموقف والحد من الأضرار. إذ تُشكل الجهود التي تبذلها طهران لمساندة عبد المهدي جزءاً من حملتها الطويلة لإبقاء العراق خاضعاً لسيطرتها ليسهل عليها التحكم به والتأثير فيه.

قاسم سليماني

والآن ظهرت وثائق إيرانية مُسربة تُقدم لنا صورة تفصيلية عن كيفية سعي طهران الدؤوب لترسيخ نفسها كأحد الأطراف الفاعلة في الشؤون العراقيّة، وعن الدور الفريد الذي اضطلع به اللواء سليماني. وردَت تلك الوثائق في سجلات برقيات وتقارير استخباراتية إيرانية سرية، حصل عليها موقع “ذا إنترسيبت” الأميركي، واطلعت عليها صحيفة “نيويورك تايمز” من أجل إعداد هذا المقال الذي تنشره المؤسّستان الإخباريّتان بالتزامن.

تكشف هذه الوثائق المسربة غير المسبوقة عن نفوذ طهران الواسع في العراق، وتشرح بالتفصيل الجهود المضنية التي بذلها الجواسيس الإيرانيون على مدى سنوات بهدف المشاركة في اختيار قادة البلاد، ودفع أموال للعملاء العراقيين الذين يعملون لصالح الأميركيين من أجل تغيير مواقفهم، وبهدف اختراق جميع نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والدينية في العراق.

تصف العديد من البرقيات مغامرات تجسس واقعية، قد تشعر عند قراءتها بأنها مقتبسة من صفحات فيلم تجسس مثير. فقد نُظمت لقاءات في الأزقة المظلمة وفي مراكز التسوق، أو تحت ذريعة الذهاب في رحلة صيد أو حضور حفل عيد ميلاد. بينما تربص الجواسيس في مطار بغداد، يلتقطون صوراً للجنود الأميركيّين، ويراقبون الرّحلات العسكريّة لقوات التحالف. فضلاً عن سير العملاء إلى الاجتماعات عبر الطرق المتعرّجة، للتهرب من المراقبة. أما مصادر المعلومات فقد أُمطِروا بوابلٍ من الهدايا الثمينة، من قبيل الفستق والعطور والزعفران. وفي بعض الأحيان، قُدِّمت رشاوى للمسؤولين العراقيين إذا لزم الأمر. تضمنت هذه السجلات أيضاً تقارير النفقات التي قدمها ضباط من “وزارة الاستخبارات” الإيرانية في العراق، ومن بينها تقرير يُشير إلى إنفاق مبلغ 87.5 يورو، مقابل هدايا قُدمت لأحد القادة الأكراد.

ذكرت إحدى البرقيات الاستخباراتية الإيرانية المُسربة أن عبد المهدي -الذي عمل على نحو وثيق مع إيران خلال تواجده بالمنفى في عهد صدّام حسين- قد جمعته “علاقة خاصة مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية” حين كان وزيراً للنفط في الحكومة العراقية عام 2014. بيد أن الطابع الدقيق الذي اتسمت به تلك العلاقة ليس مُفصلاً في البرقية. وكما نبه أحد كبار المسؤولين الأميركيين السابقين، فإن “العلاقة الخاصة قد تعني كثيراً من الأشياء، لكنها لا تعني بالضرورة أنه عميل للحكومة الإيرانية”. بيد أنه لا يُمكن لأي سياسي عراقي أن يصبح رئيساً للوزراء دون مباركة إيران؛ وحين تولى عبد المهدي منصب رئيس الوزراء، عام 2018، كان يُنظر إليه باعتباره مرشحاً توافقياً يحظى بقبول لدى كل من إيران والولايات المتحدة.

تعرض البرقيات المُسربة لمحةً غيرَ عادية داخل النظام الإيراني السري، وتكشف بالتفصيل إلى أي مدىً وقع العراق تحت النفوذ الإيراني منذ الغزو الأميركي عام 2003 الذي حول العراق إلى بوابة للقوة الإيرانية، عبر ربط الهيمنة الجغرافية للجمهورية الإسلامية من شواطئ الخليج الفارسي إلى البحر الأبيض المتوسط.

تؤكد المعلومات الدفينة التي تضمنتها التقارير الاستخباراتية الإيرانية المُسربة إلى حدٍّ كبير، ما كان معروفاً بالفعل بشأن قبضة إيران المُحكَمة على السياسة العراقية. غير أن التقارير تكشف -بعمق أكثر مما كان مفهوماً من قبل- عن مدى استخدام إيران والولايات المتحدة، العراقَ باعتباره مسرحَ الأحداث لألاعيبِ وأعمال التجسس. إضافةً إلى ذلك، سلطت تلك التقارير الضوءَ على السياسة الداخلية المعقدة التي تنتهجها الحكومة الإيرانية؛ حيث تتصارع الفصائل المتنافسة مع عدد من التحديات التي تتشابه إلى حد كبير مع تلك التي تواجهها قوات الاحتلال الأميركيّة، بينما تكافح من أجل تحقيق الاستقرار في العراق بعد الغزو الأميركي.

إضافةً إلى ذلك، تُظهِر الوثائق كيف نجحت إيران، على جميع الأصعدة تقريباً، في التفوق على الولايات المتحدة خلال تناحرهما على فرض النفوذ.

تتألف تلك السجلات من مئات التقارير والبرقيات التي كتبها أساساً ضباط من “وزارة الاستخبارات والأمن الوطني” الإيرانية في عامي 2014 و2015، الذين كانوا يعملون في الميدان في العراق. ذاع صيت “وزارة الاستخبارات” -وهي النسخة الإيرانية من “وكالة الاستخبارات المركزية” الأميركية (CIA)- بوصفها وكالةً تعتمد على التحليل والمهنية، ولكن غالباً ما تخضع وتطغى عليها نظيرتها الأكثر أيديولوجية، “منظمة مخابرات حرس الثورة الإسلامية”، التي تأسست رسمياً ككيان مستقل عام 2009 بأمر من المرشد الأعلى للثورة الإسلامية، آية الله علي خامنئي.

يتولى الحرسُ الثوري -وخاصةً صفوة قواته في “فيلق القدس” تحت قيادة اللواء سليماني- مهمةَ تحديد السياسات الإيرانية في كلٍّ من العراق ولبنان وسوريا، التي تعتبرها إيران ذات أهمية حاسمة بالنسبة لأمنها القومي. إضافةً إلى هذا، يُعيَّن السفراء الإيرانيون لدى هذه الدول من بين كبار الضباط في الحرس الثوري، وليس من وزارة الخارجية التي تُشرِف على “وزارة الاستخبارات”، وَفقَ ما أفاد به عدد من المستشارين في الإدارات الإيرانية الحالية والسابقة. وقالت هذه المصادر إن ضباطاً من “وزارة الاستخبارات” ومن الحرس الثوري في العراق عملوا جنباً إلى جنب. وقدموا التقارير حول النتائج التي توصلوا لها إلى مقر كلٍّ منهم في طهران، التي بدورها أعادت تنظيمها وتقديمها في تقارير إلى “المجلس الأعلى للأمن القومي”.

شكل دعم ورعاية المسؤولين العراقيّين جزءاً أساسيّاً من عمل العملاء، وقد سهّل هذا الأمر التحالفاتُ التي أقامها العديد من القادة العراقيّين مع إيران عندما كانوا ينتمون إلى جماعات المعارضة التي تُقاتل صدّام حسين. فالعديد من كبار المسؤولين السياسيين والعسكريين والأمنيين في العراق أقاموا علاقات سرية مع طهران، وَفقَ ما جاء في الوثائق. وفي نفس البرقية من عام 2014، التي وصفت “العلاقة الخاصة” مع عبد المهدي، ذكرت أيضاً أن العديد من الأعضاء البارزين الآخَرين في حكومة رئيس الوزراء السابق حيدر العَبّادي أقاموا علاقات وثيقة مع إيران.

أكد غيس غوريشي، المحلل السياسي ومستشار الحكومة الإيرانية في شؤون العراق، أن إيران ركزت على رعاية كبار المسؤولين في العراق. وقال، “لدينا عدد كبير من الحلفاء بين القادة العراقيين الذين نستطيع أن نثق بهم تمام الثقة وأعيننا مغلقة”.

عندما طلبنا من ثلاثة مسؤولين إيرانيين التعليق على ما ورد في هذه المقالة والرد على التساؤلات التي تتحدث عن وجود البرقيات والتقارير المسربة، قال علي رضا مير يوسفي، المتحدث باسم ممثلية إيران لدى الأمم المتحدة، إنه كان خارج البلاد حتى أول هذا الشهر. بينما لم يرد ماجد تخت رافانشي، السفير الإيراني في الأمم المتحدة، على طلبٍ خطيٍ سُلم باليد إلى محل إقامته الرسمي، ولم يرد محمد جواد ظريف، وزير الشؤون الخارجية الإيرانية، على طلبٍ أُرسل عبر البريد الإلكتروني.

وخلال مكالمة هاتفية مع حسن ضنايفار، سفير إيران لدى العراق من عام 2010 إلى 2017، والذي شغل سابقاً منصب نائب قائد القوات البحرية للحرس الثوري، رفض التحدث صراحة عن وجود البرقيات أو تسريبها، لكنه أشار إلى أن إيران كان لديها اليد العليا في جمع المعلومات الخاصة بالعراق، قائلاً، “نعم، لدينا الكثير من المعلومات حول الشأن العراقي والتي تتناول العديد من القضايا، خصوصاً ما كانت تفعله أميركا هناك. إذ توجد فجوة شاسعة بين الواقع والتصورات فيما يتعلق بتصرفات وأفعال الولايات المتحدة في العراق. لدي قصص كثيرة لأخبركم بها”. لكنه رفض الإدلاء بمزيدٍ من التفاصيل.

وَفقَ ما جاء في التقارير المسربة، فإن إيران سارعت، بعد انسحاب القوات الأميركية من العراق عام 2011، إلى تجنيد المخبرين السابقين لدى “وكالة الاستخبارات المركزية”. ويظهر جزء غير مؤرخ من برقية تابعة لـ”وزارة الاستخبارات والأمن الوطني” أن إيران بدأت في عملية زرع جاسوس داخل وزارة الخارجية الأميركية. وما تزال نتائج جهود عملية التجنيد غير واضحة، لكن إيران، وفقاً للوثائق، بدأت في الاجتماع بذاك المصدر المحتمل، وعرضت عليه مكافأته براتب ثابت وعملات ذهبية وهدايا أخرى. لم يرد اسم مسؤول وزارة الخارجية في البرقية، لكن المتحدث يصفه بأنه شخصٌ قادرٌ على تقديم “رؤى استخباراتية حول مخططات الحكومة الأميركية في العراق، سواء فيما يتعلق بالتعامل مع ’داعش‘ أو أيّة عمليات سرية أخرى”.

وجاء في التقرير أن “الحافز الذي سيدفع المصدر للتعاون معنا سيكون مالياً”.

رفضت وزارة الخارجية الأميركية التعليق على هذه المسألة.

أقرّ مسؤولون إيرانيون، خلال مقابلات أُجريت معهم، أن إيران تنظر إلى مراقبة الأنشطة الأميركية في العراق بعد الغزو باعتبارها مسألة في غاية الأهمية، تتعلق ببقائها وأمنها القومي. فعندما أطاحت القوات الأميركية بصدّام حسين، نقلت إيران على وجه السرعة عدداً من أفضل ضباطها في “وزارة الاستخبارات والأمن الوطني” و”منظمة مخابرات حرس الثورة الإسلامية” إلى العراق، وذلك وَفقَ ما جاء على لسان مستشاري الحكومة الإيرانية، وشخصٍ ينتمي للحرس الثوري. سبق وأن وصف الرئيس جورج دبليو بوش إيران بأنها جزء من “محور الشر”، لذا يعتقد الزعماء الإيرانيون أن طهران ستكون هي التالية على قائمة واشنطن الخاصة بتغيير أنظمة بعض البلدان بعد كابول وبغداد.

700 صفحة من الوثائق

كان على الحكومات في جميع أنحاء العالم -من حينٍ لآخر- التعامل مع تسريب بعض البيانات السرية أو رسائل البريد الإلكتروني الشخصية كأحد نتائج حياتنا المعاصرة المسلم بها. لكن الوضع كان مختلفاً في إيران، حيث تخضع المعلومات للرقابة الشديدة ويخشى الناس من الأجهزة الأمنية إلى حدٍ كبير.

أُرسلت التقارير المُسربة المكونة من حوالي 700 صفحة إلى موقع إنترسبت من مجهول، وترجمها الموقع من الفارسية إلى الإنجليزية وشاركها مع صحيفة ذا نيويورك تايمز. تحققت ذا نيويورك تايمز وموقع إنترسبت من صحة الوثائق لكن لم يتسنّ لهما التعرف على هوية مُسربها. وقد تواصل موقع إنترسبت عبر قنوات مشفرة مع المصدر، الذي رفض بدوره مقابلة أحد مراسلينا. وقال المصدر في رسائل مجهولة المصدر، إنه يريد أن “يعرف العالم ما تفعله إيران في بلدي العراق”.

مثل المراسلات الداخلية لأي وكالة استخبارات، تحتوي بعض التقارير على بعض المعلومات الاستخباراتية الأولية التي يمكن التشكيك في دقتها، بينما يُعبر بعضها على ما يبدو عن وجهات نظر ضباط المخابرات والمصادر حسب أهدافهم الخاصة.

تحتوي بعض البرقيات على حماقات هزلية وخرقاء، مثل تلك البرقية التي تتحدث عن الجواسيس الإيرانيين الذين اقتحموا “المعهد الثقافي الألماني” في العراق لِيكتشوا أن بحوزتهم الرموز الخاطئة ولن يستطيعوا فتح الخزائن. ووُبخ ضباط آخرون من قبل رؤسائهم في طهران بسبب كسلهم وإرسالهم تقارير إلى مقر القيادة معتمدين على روايات وكالات الأنباء فحسب. 

لكن بصفة عامة، يبدو عملاء “وزارة الاستخبارات” المذكورين في الوثائق صبورين ومحترفين وواقعيين، ومهمتهم الرئيسية هي حماية العراق من الانهيار، ومنع تكاثر الميليشيات السنية على الحدود الإيرانية، وتجنب الانزلاق في حرب طائفية من شأنها استهداف المسلمين الشيعة بأعمال عنف، والحيلولة دون انفصال إقليم كردستاني مستقل قد يهدد الاستقرار الإقليمي ووحدة الأراضي الإيرانية. عمل الحرس الثوري واللواء سليماني أيضاً على استئصال تنظيم “الدولة الإسلامية”، لكن مع زيادة التركيز على إبقاء العراق دولة تابعة لإيران والتأكد من بقاء الفصائل السياسية الموالية لطهران في السلطة.

تبعث هذه الصورة على مزيد من الإثارة في وقت تتصاعد خلاله التوترات بين الولايات المتحدة وإيران. فمنذ عام 2018 -عندما انسحب الرئيس ترامب من الاتفاق النووي الإيراني، وفرض عقوبات جديدة على طهران- والبيت الأبيض يرسل سفناً حربية إلى الخليج العربي، مع استعراض خطط عسكرية للحرب مع إيران. وفي أكتوبر/تشرين الأول، وعدت إدارة ترامب بإرسال قوات أميركية إلى المملكة العربية السعودية عقب هجمات على منشآت نفطية هناك، اُتهمت إيران على نطاق واسع بتنفيذها.

“أخبرهم أننا في خدمتهم”

مع عقيدة واحدة وتشارك الانتماءات القَبَلية التي تمتد عبر الحدود المليئة بالثغرات، لطالما تواجدت إيران بشكل واسع في جنوب العراق. فقد فتحت مكاتب دينية في المدن العراقية المقدسة، ونشرت في شوارعها صوراً لقائد الثورة الإسلامية، آية الله روح الله الخميني. وتدعم أيضاً بعض أقوى الأحزاب السياسية في الجنوب، وأوفدت طلاباً إيرانيين للدراسة في المدارس الدينية بالعراق، وأرسلت عمال بناء إيرانيين لتشييد الفنادق وترميم المزارات العراقية المقدسة.

لكن ومع أن إيران ربما تغلبت على الولايات المتحدة في سباق بسط النفوذ على حكومة بغداد، فإنها تعاني لكسب التأييد الشعبي في جنوب العراق. والآن، كما أظهرت أسابيع الاحتجاجات الست الأخيرة، تواجه إيران مقاومة قوية غير متوقعة. ففي جميع أنحاء الجنوب، تُحرق المقار الرئيسية للأحزاب العراقية المدعومة إيرانياً ويتم اغتيال نشطائهم البارزين، وهو ما يدل على أن إيران ربما استخفت برغبة العراق في الاستقلال ليس فقط عن الولايات المتحدة بل وعن جارتها أيضاً.

تقدّم لنا البرقيات الإيرانية المسربة تقريراً نهائياً نوعاً ما عن الغزو الأميركي للعراق. ففكرة أن الأميركيين قد سلّموا العراق ليكون تحت السيطرة الإيرانية حين قاموا بهذا الغزو تحظى اليوم بدعم واسع النطاق، حتى في أوساط الجيش الأميركي. يتناول كتاب جديد من مجلّدين نشره الجيش الأميركي حول تاريخ حرب العراق تفاصيلَ الزلّات الكثيرة للغزو، و”تكاليفها المذهلة” في الأرواح والأموال؛ فقد قُتِل حوالي 4500 جندي أميركي ومئات الآلاف من العراقيين، وإضافةً إلى ذلك أنفق دافعو الضرائب الأميركيون حوالي 2 تريليون دولار على هذه الحرب. وتخلُص الدراسة المكوّنة من مئات الصفحات وتعتمد على وثائق سريّة إلى أنّ “إيران الجريئة والتوسعيّة تبدو المنتصرَ الوحيد”.

كان صعودُ إيران كلاعب قوي في العراق، من عدّة أوجه، نتيجةً مباشرة لافتقار واشنطن إلى أيّ خطة للأوضاع التي ستعقب الحرب. كانت السنوات الأولى بُعَيد سقوط صدّام حسين تعجّ بالفوضى، من الناحية الأمنية ومن ناحية الخدمات الأساسيّة كالمياه والكهرباء. وقد بدا لأكثر المراقبين الميدانيّين كما لو أنّ الولايات المتحدة كانت ترتجل سياساتِها وتصوغها في الظلام والغُرَف المغلقة.

من بين أكثر السياسات الأميركية كارثيةً كان قرار حل القوات المسلحة العراقية وقرار تطهير الخدمات الحكومية وأي قوات مسلحة جديدة من أي عراقي كان عضواً في حزب ’البعث‘ الحاكم في عهد صدام حسين. أدّت هذه العملية المعروفة باسم ’ اجتثاث البعث‘ آليّاً إلى تهميش معظم السكّان السنّة، الذين شكّلوا -بعد أن أصبحوا عاطلين عن العمل وشعروا بالاستياء- مقاومةً مسلّحة استهدفت الأميركيين والشيعة الذين اعتبروهم حلفاءَ للولايات المتحدة.

ومع تصاعُد الصراع الطائفي بين السنة والشيعة، تطلّع السكّان الشيعة إلى إيران لتقدّم لهم الحماية والعون. وحين سيطر تنظيم ’داعش‘ على الأراضي والمدن في العراق، مثّل ضعف الشيعة وفشل الولايات المتحدة في حمايتهم فرصةً لدعم جهود الحرس الثوري، وقائده قاسم سليماني، من أجل تجنيد وحشد الميليشيات الشيعية الموالية لإيران.

وَفقاً لوثائق “وزارة الاستخبارات”، واصَلت إيران استغلال الفرص التي أمدّتها بها الولايات المتحدة في العراق. فعلى سبيل المثال، حصلت إيران على مجموعة كبيرة من الأسرار الأميركية مع تراجع الحضور الأميركي بعد سحب القوات في العام 2011. إذ كانت “وكالة الاستخبارات المركزية” قد سرّحَت العديد من عملائها السريين هناك الذين عملوا معها لفترة طويلة، فأصبحوا بلا عمل ويعانون من العوز في بلدٍ ما يزال ممزّقاً من آثار الغزو؛ وتنهشهم المخاوف من أن يتعرّضوا للقتل لارتباطهم بالولايات المتحدة، ربّما من قبل إيران. ولافتقارِهم إلى المال، بدأ كثيرون منهم في عرض خدماتهم على طهران؛ وكانوا على أتم استعداد لإخبارها بكل ما يعرفونه عن عمليات “وكالة الاستخبارات المركزية” في العراق.

في نوفمبر/تشرين الثاني 2014، غيّر أحدهم ولاءاتِه، وهو عراقي تجسس سابقاً لحساب “وكالة الاستخبارات المركزية”؛ وكان تغييره ولاءاته لإفلاسه وخوف من أن تكلّفه صلاته بالأميركيين حياتَه. وَفقاً للبرقية كانت الوكالة تطلِق عليه الاسم المستعار ’دوني براسكو‘، في حين عرفه الإيرانيون ببساطة باسم “المصدر 134992”.

وإثر لجوئه إلى الإيرانيين من أجل الحماية، قال إن كل شيء عرفه عن تجمّعات الاستخبارات الأميركية متاحٌ للبيع: مواقع البيوت الآمنة لأعضاء “وكالة الاستخبارات المركزية”، وأسماء الفنادق التي يجتمع فيها موظّفو الوكالة مع العملاء السريين، وتفاصيل تدريباته على السلاح والمراقبة، وأسماء العراقيين الآخرين العاملين كجواسيس لحساب الأميركيين.

وقال “المصدر 134992” لموظفي المخابرات الإيرانية أنه عمل لحساب “وكالة الاستخبارات المركزية” مدَّةَ 18 شهراً، بدءاً من العام 2008، في برنامج يستهدف تنظيم ’القاعدة‘. وأضاف أنه تلقى أموالاً طائلة مقابل هذا العمل، بمقدار 3000 دولار شهرياً، إضافةً إلى علاوة -لمرة واحدة- قدرها 20 ألف دولار وسيارة.

ولكنه أقسم على المصحف أن أيام التجسس لحساب الولايات المتحدة قد ولّت، ووافق على كتابة تقارير وافية لحساب الإيرانيين عن أي شيء عرفه في تلك الأيام التي عمل فيها مع “وكالة الاستخبارات المركزية”.

وَفقاً لتقرير استخباراتي إيراني صدر في العام 2014، قال الرجل العراقي لمسؤوله الإيراني ”سأسلّمك جميع الوثائق وملفات الفيديو التي لدي من فترة التدريبات، إضافةً إلى الصور وملفات التعريف بزملائي المتدرّبين ومرؤوسيَّ“.

رفضت “وكالة الاستخبارات المركزية” التعليق.

يقول المسؤولون العراقيون إن الجواسيس الإيرانيين منتشرون في كل مكان جنوبي البلاد، وإن المنطقة لَطالما كانت بمثابة خلية نحل في أعمال التجسس. وهناك، في كربلاء أواخر العام 2014، التقى ضابطُ استخبارات عسكرية عراقيٌّ قادمٌ من بغداد مسؤولاً استخباراتياً إيرانياً وعرض عليه التجسس لحساب إيران وأن يخبر الإيرانيين بأي شيء يعرفه عن الأنشطة الأميركية في العراق.

وفقاً لإحدى البرقيات، قال الضابط العراقي لنظيره الإيرانيّ “إيران هي بلدي الثاني وأحبها”. وفي لقاءٍ استمرّ أكثر من ثلاث ساعات، تحدّث العراقي عن إخلاصه وولائه للنهج الإيراني في الحكم، الذي تباشر فيه المرجعيّاتُ الدينية أمورَ الحكم بنفسها، وعن إعجابه بالأفلام الإيرانية.

وقال إنه أتى برسالة شفهية من رئيسه في بغداد، الفريق حاتم المكصوصي، الذي كان حينها قائد الاستخبارات العسكرية في وزارة الدفاع العراقية؛ وفي الرسالة يقول له “أخبرهم أننا في خدمتهم. كلّ ما تحتاجونه سيكون رهن إشارتكم. جميعنا شيعة ولدينا عدو مشترك”.

وتستمر رسالة الفريق المكصوصي في القول “يمكنكم أن تعتبروا كل إمكانات الاستخبارات العسكرية ملكاً لكم”. وقد أخبر ضابط الاستخبارات الإيرانية عن برنامج استهداف سريّ أمدّتهم به الولايات المتحدة، وعرض تسليمهم إلى الإيرانيين، قائلاً “إن كان لديك حاسوب محمول جديد، فأعطني إياه لأقوم بتثبيت البرنامج عليه”.

وقال إن هناك المزيد؛ فقد أمدّت الولايات المتحدة العراقَ بنظام شديد الحساسية للتنصّت على الهواتف المحمولة، وكان قد انتهت صلاحيته من مكتب رئيس الوزراء ومقر الاستخبارات العسكرية العراقية. وقال للإيرانيين “سأضع تحت تصرّفكم أي معلومات استخباراتية تريدونها عنه”.

في مقابلة مع الفريق المكصوصي، المتقاعد حالياً، رفض التصريح بالأمور المنسوبة إليه في البرقية، وأنكر أي تعامل مع إيران. إلّا أنه امتدح إيران لمساعدتها في الحرب ضد تنظيم ’داعش‘، ولكنه قال إنه احتفظ أيضاً بعلاقات وطيدة مع الولايات المتحدة، وأضاف “عملت لمصلحة العراق، ولم أعمل لحساب أي دولة أخرى. لم أكن مدير استخبارات الشيعة، وإنما مدير استخبارات كامل الوطن العراقي”.

وقال مسؤول أميركي سابق، عند سؤاله عن البرقية، إنّ الولايات المتحدة قد أصبحت على علم بصلات مدير الاستخبارات العسكرية العراقية بإيران، وقد قيّدت إمكانية وصوله إلى أي معلومات حساسة.

مرشح الأميركيين

في أواخر عام 2014، أمدت الولايات المتحدة من جديد العراق بالأسلحة والجنود وسط سعيها لبدء معركتها مع تنظيم “الدولة الإسلامية”، وكان لإيران مصلحة أيضاً في هزيمة مقاتلي تنظيم “الدولة الإسلامية”. ومع سيطرة ’داعش‘ على الغرب والشمال، سافر الشباب العراقي عبر الصحراء وأهوار الجنوب بأعداد كبيرة مُتجهين نحو إيران للخضوع للتدريب العسكري.

البعض داخل الحكومة الأميركية والإيرانية اعتقدوا أن على الطرفين المتصارعين أن يُنَسّقوا جهودهم في مواجهة عدوهم المشترك. لكن إيران -كما كشفت تقارير استخباراتية مُسربة- رأت أيضاً أن التواجد الأميركي المتزايد يُشكل تهديداً وغطاءً لجمع المعلومات الاستخباراتية عن إيران.

فقد كتب أحد الضباط الإيرانيين قائلاً، “إن ما يحدث في سماء العراق يوضح المدى الهائل لنشاط قوات التحالف”. وأضاف “الخطر الذي يُهدد مصالح الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والماثل أمامنا في أنشطتهم يجب أن يؤخذ على محمل الجد”.

أدى صعود تنظيم “الدولة الإسلامية” في الوقت ذاته إلى حدوث وقيعة بين إدارة أوباما ومجموعة كبيرة من الطبقة السياسية العراقية. فقد طالب أوباما بإقالة رئيس الوزراء آنذاك، نوري كامل المالكي، كشرط لتجديد الدعم العسكري الأميركي. من منطلق قناعته أن السياسات القاسية التي ينتهجها المالكي وعمليات القمع ضد السُنّة العراقيين، ساهمت في تنامي قوة المقاتلين. 

حظي المالكي، الذي عاش في المنفى بإيران في الثمانينيات، بتفضيل طهران. في حين كان يُنظر إلى بديله، حيدر العبّادي، الذي درس في بريطانيا على أنه أكثر قرباً من الغرب وأقل طائفية. وفي سعيهم لمواجهة الشكوك المصاحبة لتولي رئيس وزراء جديد، دعا سفير إيران في تلك الفترة حسن داناييفر، لعقد اجتماع سري لكبار موظفي السفارة الإيرانية – وهي عبارة عن مبنى هائل مُحصن يقع خارج المنطقة الخضراء في بغداد.

خلال انعقاد الاجتماع، بات من الواضح أن الإيرانيين لم يكن لديهم من الأسباب ما يدعوهم إلى القلق بشأن الحكومة العراقية الجديدة. فعلى الرغم من رفضهم للعبادي بداعي أنه “رجل بريطانيا” و”مرشح أميركا”، فقد كانوا مطمئنين لنفوذهم على عدد كبير من الوزراء.

أخذ داناييفر يُعدد قائمة تضم أعضاء الحكومة الواحد تلو الآخر موضحاً علاقتهم بإيران.

كان إبراهيم الجعفري -الذي شغل سابقاً منصب رئيس وزراء العراق وأصبح مع نهايات عام 2014 وزيراً للخارجية- مثل عبد المهدي يُوصف بأنه يتمتع بـ “علاقة خاصة” مع إيران. وفي لقاء صحفي، لم ينكر الجعفري أنه على علاقة وطيدة بإيران، لكنه أضاف أنه لطالما كان يتعامل مع الدول الأجنبية وفقاً لمصالح العراق.

اعتمدت إيران أيضاً على ولاء العديد من أعضاء الحكومة الأقل شأناً.

فقد أشار التقرير إلى أن وزراء المحليات والاتصالات وحقوق الإنسان “على توافق وتناغم تام معنا، وهم رجالنا”، أما بشأن وزير البيئة، فقد أوضح التقرير أنه “يتعاون معنا على الرغم من أنه سنياً”. وأما وزير النقل الأسبق، باقر جبر -الذي تولى منصب وزير الداخلية العراقية في وقت تعرض فيه المئات من السجناء للتعذيب حتى الموت باستخدام المثاقب الكهربائية والإعدام رمياً بالرصاص على يد فرق القتل الشيعية دون محاكمة- كان يعتبر “مقرب للغاية” من إيران. وفيما يخص وزير التعليم العراقي، ينص التقرير على “أننا لن نواجه معه مشكلة”.

كان الوزراء السابقين للمحليات والاتصالات وحقوق الإنسان جميعهم أعضاء في “فيلق بدر” – وهو حزب سياسي وعسكري أسسته إيران خلال حقبة الثمانينيات لمواجهة صدّام حسين. وقد أنكر وزير المحليات السابق وجود علاقة وطيدة بينه وبين إيران، بينما اعترف وزير حقوق الإنسان بعلاقته المُقربة من إيران وأشاد بدعمها لشيعة العراق خلال فترة حكم صدّام التي اتسمت بالديكتاتورية، ولمساعدتها أيضاً في هزيمة تنظيم “الدولة الإسلامية”. أما وزير الاتصالات السابق، فقد صرح أنه خدم العراق وليس إيران، وأنه حافظ على إقامة علاقات مع دبلوماسيين من دول عدة، في حين قال وزير التعليم السابق إنه لم يحظ بدعم إيران وأنه خدم في منصبه بناءً على طلب رئيس الوزراء العبّادي. وفيما يخص وزير البيئة السابق، فقد تعذر الوصول إليه للتعليق على هذا الأمر.

تظهر هيمنة إيران على السياسة في العراق بوضوح في أحد أهم أحداث خريف عام 2014، حين كانت مدينة بغداد في قلب دوامة متعددة الجنسيات. كانت الحرب الأهلية في سوريا مستعرة في الغرب، وكان مقاتلو ’داعش‘ قد استولوا على ما يقرب من ثلث أراضي العراق، بينما كانت القوات الأميركية في طريقها إلى المنطقة من جديد لمواجهة الكارثة المتفاقمة.


في ظل هذا المشهد الفوضوي، استقبل جبر، وزيرُ المواصلات آنذاك، اللواءَ سليماني، قائدَ “فيلق القدس”، في مكتبه. كان اللواء سليماني قد جاء يطلبُ خدمة: كانت إيران تحتاج إلى استخدام المجال الجوي العراقي لتوصيل أسلحة وإمدادات أخرى جواً إلى نظام بشار الأسد السوري في حربه ضد الثوار المدعومين من أميركا.

وضع هذا الطلب جبر في منتصف صراعِ طويلِ الأمد بين الولايات المتحدة وإيران. كان مسؤولو إدارة أوباما يحاولون جاهِدين أن يدفعوا العراقيين نحو منع انتقال الطائرات الإيرانية خلال المجال الجوي العراقي، لكن الوزير لم يستطع رفض طلب قائد القدس وجهاً لوجه.

وَفقاً لإحدى البرقيات، يقول جبر إن اللواء سليماني جاءه وطلب منه “السماح للطائرات الإيرانية باستخدام المجال الجوي العراقي للوصول إلى سوريا”. لم يتردد وزير المواصلات، وبدا على وجه اللواء سليماني الارتياح. يقول “وضعت يدي على عيني وقلت: ’على عيني! كما تريد!‘ فقام اللواء واقترب مني وقبَّل جبيني”.

أكد جبر أنه التقى اللواءَ سليماني، لكنه قال إن الرحلات الجوية الإيرانية إلى سوريا كانت تحمل مساعداتٍ إنسانية وحجاجاً مسافرين إلى سوريا لزيارة الأماكن المقدسة هناك، وليس أسلحة أو إمدادات عسكرية لمساعدة الأسد كما يظن المسؤولون الأميركيون.

في ذات الوقت، تعرض المسؤولون العراقيون المعروفون بصلاتهم مع الولايات المتحدة للتدقيق الشديد، واتخذت إيران تدابيرها لمواجهة النفوذ الأميركي. 

تظهر العديد من الملفات كيف أن المحادثات التي دارت بين الدبلوماسيين الأميركيين رفيعي المستوى وبين نظرائهم العراقيين كانت تبلّغ باستمرار إلى الإيرانيين.

خلال عامَي 2014 و2015، بينما كانت الحكومة العراقية الجديدة تتسلّم إدارة البلاد، كان السفير الأميركي ستوارت جونز كثيراً ما يلتقي سليم الجبوري، الذي كان رئيسَ البرلمان العراقي حتى العام الماضي. ومع أنه سنّي، تُعرَف عن الجبوري علاقاته الوطيدة مع إيران؛ لكن الملفات تُظهِر الآن أن أحد أهم مستشاريه السياسيين، المعروف باسم “المصدر 134832″، كان عميلاً للمخابرات الإيرانية. قال المصدر لمسؤوله الإيراني “أنا موجود في مكتبه يومياً، وأتابع اتصالاته مع الأميركيين عن كثب”. قال الجبوري في لقاء إنه لا يستطيع تصديق أن أحد معاونيه كان عميلاً لإيران، وإنه يثق في مُعاوِنيه ثقةً عمياء (رفض جونز التعليق على الخبر).

حثّ المصدر الإيرانيين على توطيد العلاقات مع الجبوري، وذلك لإحباط الجهود الأميركية لدعم فئة جديدة من القيادات السنية في العراق، وربما التوصل إلى مصالحة بين السنة والشيعة. وأكد المصدر أن على إيران منع انضمام رئيس البرلمان إلى المعسكر المؤيِّد لأميركا، إذ إن من بين صفات سليم الجبوري السذاجة والتسرع في اتخاذ القرارات”.

يُظهِر تقرير آخر أن نيجيرفان برزاني، رئيس وزراء إقليم كردستان العراق آنذاك، التقى مسؤولين أميركيين وبريطانيين بالإضافة إلى العبّادي، رئيس وزراء العراق، في العاصمة بغداد في ديسمبر/كانون الأول 2014 ثم ذهب مباشرة للقاء مسؤول إيراني لإطْلاعه على المعلومات كلها. من خلال متحدث باسمه، صرَّح برزاني أنه لا يتذكر أنه التقى أي مسؤولين إيرانيين في ذلك الوقت، ووصف البرقيات بأنها ليس لها أساس من الصحة. وأنكر تماماً أنه نقل إلى الإيرانيين تفاصيلَ عن حواره مع الدبلوماسيين الأميركيين والبريطانيين.

كان الإيرانيون أحياناً يرون قيمة تجارية في المعلومات التي يتلقّونها من المصادر العراقية.

كشف تقرير لمستشار الجبوري أن الولايات المتحدة كانت مهتمة بالوصول إلى حقل الغاز الغني في عكاس بالقرب من الحدود العراقية-السورية. وأوضح المصدر أن الأمريكيين ربما يحاولون في النهاية تصدير الغاز إلى أوروبا، التي تعد من أكبر أسواق الغاز الطبيعي الروسي. وكتب ضابط “وزارة الاستخبارات” الإيرانية في برقية إلى طهران وقد انتابه الحماس، “يُوصَى بإبلاغ المعلومات المذكورة إلى روسيا وسوريا”. كُتِبت البرقية بينما كانت روسيا ترفَع من درجة تدخّلها في سوريا، ومع استمرار إيران في رفع تدخلاتها العسكرية في سوريا لمساندة بشار الأسد.

ومع أنّ إيران كانت متشككة في البداية من ولاءات العبّادي، أوضح تقرير كتب بعد عدة أشهر من وصوله لمنصب رئيس الوزراء أنه كان على استعداد تام لإقامة علاقات سرية مع المخابرات الإيرانية. ويذكُر تقرير كُتِب في يناير/كانون الثاني 2015 تفاصيلَ لقاءٍ خاص بين العبّادي وضابط مخابرات يُدعَى بروجردي، عُقد في مكتب رئيس الوزراء “دون وجود سكرتير أو طرف ثالث”.

أثناء اللقاء، تحدث بُروچردي عن الانقسام السُنّي الشيعي في العراق، ساعياً لإدراك خفايا مشاعر العبّادي حول الموضوع الأكثر حساسيةً في السياسة العراقية. ووَفقَ ما جاء في البرقية، فقد أعرب ضابط الاستخبارات عن رأيه قائلاً، “اليوم، يجد السُنّة أنفسهم في أحلك الظروف المُمكنة، فقد فقدوا ثقتهم بأنفسهم… أصبح السُنّة مشردون، ومدنهم مُدمرة، وثمة مستقبل غامض في انتظارهم، في حين يستطيع الشيعة استعادة ثقتهم بأنفسهم”.

تابع بُروچردي حديثه قائلاً، “لقد وصل الشيعة في العراق إلى منعطف تاريخي”، وبوسع الحكومة العراقية وإيران أن “تغتنم الفرصة، وتستفيد من هذا الموقف”.

وفقاً للبرقية، أعرب رئيس الوزراء عن “موافقته الكاملة” لرأي بُروچردي، غير أن العبّادي رفض التعليق على هذا الأمر.

متظاهرون عراقيون يحرقون القنصلية الايرانية

“عذوبة النصر تتحول إلى مرارة”

منذ بداية حرب العراق عام 2003، نصبت إيران نفسها بوصفها الجهة المنوطة بحماية الشيعة في العراق، واستخدم اللواء سليماني، أكثر من أي شخص آخر، فنون التجسس المظلمة والأعمال العسكرية السرية لضمان استمرار القوة الشيعية في فرض هيمنتها. ولكن ذلك جاء على حساب الاستقرار، فقد حُرم السُنّة من حقوقهم على نحو كامل، مما أفضى إلى تطلعهم إلى الجماعات الأخرى، مثل تنظيم “الدولة الإسلامية”، لحمايتهم.

فقد كانت المذبحة التي وقعت عام 2014، والتي راح ضحيتها السُنّة في بلدة جُرف الصخر الريفية، مثالاً حياً على ذلك النوع من الفظائع الطائفية التي ارتكبتها الجماعات المسلحة الموالية لـ”فيلق القدس” التابع للحرس الثوري والتي أثارت جزع الولايات المتحدة طيلة حرب العراق، وقوضت الجهود الرامية إلى المصالحة. وكما أوضحت التقارير الميدانية، فقد شاطرت “وزارة الاستخبارات” الإيرانية بواعث القلق ذاتها التي أعرب عنها الأميركيون. الأمر الذي كان بمثابة إشارة إلى وجود انقسامات داخل إيران بشأن سياساتها في العراق بين العناصر الأكثر اعتدالاً في عهد الرئيس حسن روحاني والفصائل المسلحة مثل الحرس الثوري.

تفيض بلدة جُرف الصخر، التي تقع شرق الفلوجة مباشرةً في وادي نهر الفرات، بالمناطق الخضراء الخصبة، وتكثر فيها زراعة أشجار البرتقال وبساتين النخيل. بيد أنها تعرضت لاجتياح من قبل تنظيم “الدولة الإسلامية” عام 2014، الأمر الذي أعطى المسلحين موطئ قدم يمكنهم من خلاله شن هجمات على مدينتي كربلاء والنجف المقدستين.

فضلاً عن ذلك، تحمل بلدة جُرف الصخر أهمية بالغة بالنسبة لإيران، نظراً إلى أنها تقع على الطريق الذي يسلكه الحجاج الشيعة للسفر إلى كربلاء خلال شهر المُحَرَّم لحضور الاحتفال الذي يستمر على مدار الشهر لإحياء ذكرى وفاة الإمام الحسين، حفيد النبي محمد، الذي يُمثل رمزاً مُبجلاً عند الشيعة.

عندما طردت الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران المقاتلين من بلدة جُرف الصخر في أواخر عام 2014، وهو أول انتصار كبير على تنظيم “الدولة الإسلامية”، أصبحت البلدة مثل مدينة الأشباح. ولم تعد تُشكل تهديداً للآلاف من الحجاج الشيعة الذين قد يمرون عبرها، بيد أن انتصار إيران تحقق بكلفة عالية تحملها السكان السُنّة في المدينة. فقد شُرد عشرات الآلاف، وعُثر على جثة سياسيّ محلّيّ، وهو العضو السّنّيّ الوحيد في مجلس المقاطعة، وقد أصيب برصاصة في رأسه.

تصف إحدى البرقيات الدمار الذي وقع على البلدة، بعبارات تكاد تكون مقتبسة من الكتاب المُقدس. فقد قال مُرسل البرقية، نتيجة لهذه العمليات “طُهرت المنطقة المحيطة ببلدة ’جُرف الصخر‘ من الإرهابيين، وهُجرت عائلاتهم، ودمرت القوات العسكرية معظم منازلهم، وستُدمر المنازل الباقية. وفي بعض الأماكن اقتلعت بساتين النخيل لحرقها ومنع الإرهابيين من الاختباء بين الأشجار. أما قطعان الماشية (من الأبقار والأغنام) فقد تفرقت وترعى دون أصحابها”.

وَفقَ أحد التقارير، فإن عملية جُرف الصخر وغيرها من الأعمال الدامية التي قادها وكلاء إيران والتي قامت طهران بتوجيهها، زادت من عزلة سكان العراق السُنّة، فقد أشار التقرير إلى أن “تدمير القرى والبيوت ونهب ممتلكات السُنّة ومواشيهم، حولت عذوبة تلك الانتصارات” على تنظيم “الدولة الإسلامية” إلى “مرارة”. وقد وصفت إحدى البرقيات التي تناولت كارثة ’جُرف الصخر‘، وطأة الميليشيات الشيعية بعبارات صارخة بوجه خاص، إذ جاء فيها “في كل المناطق التي تعمل فيها قوات الحَشد الشعبيّ، يهرب السُنّة ويهجرون منازلهم وممتلكاتهم ويفضلون العيش في خيام كلاجئين أو الإقامة في مخيمات”.

خشيَت “وزارة الاستخبارات” من تبديد المكاسب التي حققتها إيران في العراق، بسبب سخط العراقيين على الميليشيات الشيعية و”فيلق القدس” الداعم لها. في بادئ الأمر، وجّه ضباط الاستخبارات اللوم إلى اللواء سليماني الذي اعتبروه مبادراً خطيراً، يوظّف الحملة المناهضة لتنظيم ’داعش‘ كمنصّة لتعزيزِ مساره السياسي في إيران. وانتقد تقريرٌ -يُشار في أعلاه ألّا تتم مشاركته مع “فيلق القدس”- الللواءَ شخصيّاً لإعلانه دوره القيادي في الحملة العسكرية في العراق من خلال “نشر صوره على مختلِف مواقع التواصل الاجتماعي”.

بقيامه بهذا العمل أظهر تماماً أن إيران تسيطر على الميليشيات الشيعية المتوجسة قلقاً؛ وهو الأمر الذي قد يمثّل هدية لخصومها. وقال التقرير “سمحت هذه السياسة الإيرانية في العراق للأميركيين بالعودة إلى العراق مع شرعية أكبر. وصارت الآن المجموعات السنية التي كانت تقاتل ضد الأميركيين، لا تتمنّى دخول الأميركيين فحسب إلى العراق، بل حتّى إسرائيل، لإنقاذ العراق من براثن القبضة الإيرانية”.

في تلك الآونة، سعى الإيرانيون إلى مواجهة النوايا السيئة التي نتجَت عن وجودهم في العراق، وذلك من خلال حملات وظّفت القوة الناعمة بصورةٍ تشبه الجهود الميدانية الأميركية لكسب “القلوب والعقول”. وآملةً في كسب “مزايا دعائية واستعادة صورتها في أوساط الناس”، وضعت إيران خطة لإرسال بعض أطباء الأطفال وأطباء أمراض النساء والتوليد لبعض القرى في شمال العراق من أجل إدارة الخدمات الصحية، وَفقاً لتقرير ميدانيّ. بيد أنه ليس من الواضح إن كانت تلك المبادرة قد تحققت على أرض الواقع.

وتماماً كما هو معتاد، قد تستخدم إيران نفوذها لإنهاء الصفقات التنموية المربحة. ومع اعتماد العراق على إيران من ناحية الدعم العسكري في مواجهة تنظيم ’داعش‘، تعرض إحدى البرقيات كيف حصل “فيلق القدس” على عقود في مجالَي النفط والتنمية من أكراد العراق في مقابل الحصول على الأسلحة وغيرها من أشكال الدعم. ووفقاً لتقرير ميداني آخر، حصلت إيران على عقود في قطاع الصرف الصحي وتنقية المياه في الجنوب بعد دفعها رشوة بقيمة 16 مليون دولار لأحد أعضاء البرلمان العراقي.

واليوم تبذل إيران قصارى جهدها للاحتفاظ بهيمنتها على العراق، تماماً كما فعل الأميركيون بعد الغزو عام 2003. في الوقت ذاتِه، يشعر المسؤولون العراقيون بقلقٍ متزايد من أن تؤدي الاستفزازات في العراق، من أيٍّ من الجانبَين، إلى اندلاع حرب بين القوتين اللتَين تتنافسان للسيطرة على بلادهم. وفي ظلّ تلك الخلفية الجيوسياسية، عرف العراقيون -بمن فيهم السنّة الذين ينظرون إلى إيران باعتبارها عدواً- منذ زمن طويل كيف يتبعون نهجاً براغماتياً في التعامل مع محاولات الجواسيس الإيرانيين.

في أواخر عام 2014، كتب أحد الضابطٌ الإيرانيين المسؤولين عن مجنّد استخبارات عراقيّ وَصفه أنه ’بعثيّ‘ عمل لحساب نظام صدّام ثم لحساب “وكالة الاستخبارات المركزية”، قائلاً “إنه لم يكن فقط لا يثق في إيران، وإنّما أيضاً لم يثق أن لديها نوايا حسنة تجاه العراق. إلّا أنه جاسوس محترف، ويفهم واقع إيران والشيعة في العراق؛ وسيسعى للتعاون لينقذ نفسه”.

هذا المقال مترجم عن nytimes.com ولقراءة الموضوع الأصلي زوروا الرابط التالي.