fbpx

يوميات ساحة التحرير : معارك الجسور

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

صيادو القنابل الغازية يتحركون وسط الساحة بحيوية، كل خبرات كرة القدم في الأزقة الضيقة تستخدم هنا لاعادة الكرة بركلة واحدة إلى مرمى الخصم

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]


ندخل من النفق ونخرج منه باتجاه ساحة الخلاني، سبقنا جيشٌ من شبان يركضون الى الساحة. هناك رصاص وقنابل في معركة كرّ و فرّ. المعركة تجذب المشاركين من “سلمية !” الى “حربية”! 

المعركة تحيي داخل الشباب روح المغامرة والانجذاب للخطر. يبدو البقاء في الساحة على ما فيها من مشاهد مملاً إزاء عمليات الكرّ والفر عند مدخل جسر السنك. يذهب الشبان ركضا الى ساحة الخلاني. من رصيف التفرج أراهم جانبياً فيبدون مثل الطيور، تسبقهم أنوف مدببة تشق الهواء وأفواه مفغورة تصرخ. يلوحون بأذرعهم ليختصروا المسافة إلى خط التماس. عكس مسارهم، يأتي شبان على وجوههم تعبير من الفزع والهمّة، يحملون قتيلاً أو جريحاً أو مختنقاً بالغاز. معهم تركض المسعفة الشابة بصدريتها الملطخة بالدم، الى أقرب نقطة إسعاف وهي تضع منفاخ الأوكسجين على فم المصاب. سيارات لتكتك تزوغ وتتقاطع دون أن تتصادم، وهي تدخل ساحة المعركة وتخرج منها حاملة الجرحى. واحدة من القذائف انفجرت فانتشرت سحابة من غاز أخضر. الجندي الذي يتجول بيننا حذر بصوت عال:

“ديروا بالكم من الأخضر”!

عرفنا إن هذا الغاز يحوي مادة محرقة ومهيجة. لقد جرب هؤلاء الشبان غازات متنوعة، وبالخبرة اكتشفوا مضاداتها. الببسي كولا فقد صفته كمبرّدٍ ومروي ضد العطش. تحول إلى سائل غسيل ضدّ الغازات. أحد الشبان في ساحة التحرير حمل لافتة على صدره، معناها “من كثرة ما غسلت بالببسي صار كل من يقبلني يتجشأ”.

 صيادو القنابل الغازية يتحركون وسط الساحة بحيوية، كل خبرات كرة القدم في الأزقة الضيقة تستخدم هنا لاعادة الكرة بركلة واحدة إلى مرمى الخصم . هناك شبان متخصصون بخنق القنبلة قبل أن تخنقهم بواسطة بطانيات مبللة.  في حركاتهم يختلط الدفاع بالهجوم. هناك شبان على مرمى حربة البندقية يناورون الرصاص ليشدو حديد الساتر بأحزمتهم الجلدية ويتعاونون لإسقاطه. لم يكشفوا أنفسهم للرصاص؟ أسأل نفسي بصوت عال. السرعة الخاطفة للحركات، تقاطعها والدخان الذي يلف المشهد كله، كأنهم يتحركون في عالم افتراضي. يعيدون تمثل ما رأوه في التلفزيون، المظاهرة تعني الاشتباك. في اللحظات التي تسبق زخة الرصاص يزوغون منحنين الى الجانب الآخر الأقرب للعدو. يتحركون عارفين أن الكاميرات والهواتف المحمولة تسجل أفعالهم. الصورة شهادة على أنني كنت هناك، وهذا يعطي شهادتي مصداقية. ما حدث ليس خيالاً، ما حدث كان واقعاً والصور شاهدة، الصورة تحل محل الكلمات أو تسندها. 
أراقب المعركة وحيويتها من طرفٍ واحد ولا أرى الخصم. فهو مختفٍ وراء سلسلة من السواتر الإسمنتية. صديقي يحذرني من أن أمد رأسي من وراء الجدار لأرى الخصم. أريد أن أنظر الى المشهد بعينيه لأرى قتيلي القادم، وأنا أسدد إليه من وراء الفريضة والشعيرة.هل سأتردد؟ هل ستخذلني حرفتي؟ ماذا سأقول لأولادي حين أعود من نوبتي. هل أستطيع أن أنظر في عيونهم وهم بعمر القتيل؟ 

في الطريق الطويل من النجف الى بغداد سألت ضابطاً جلس في صدر السيارة:

“من الذين يترددون ، ومن الذين سيطلقون النار قبل أن يرف لهم جفن.

الأكثرية لن يطلقوا. 

كم هم الأكثرية؟

75٪ـ 85٪

من هم؟

الألوية التي أسسها المالكي لحماية المنطقة الخضراء.” 


توقفت قذائف الغاز فعاد لنا شاب عاري الصدر ليخبرنا:

“نفذت ذخيرتهم سيعودون بعد عشرين دقيقة”. خلال ذلك أسقط الحاجز الأسمنتي. مع صيحات ابتهاج. 

أسمع شابا وقف مثلي على حافة ساحة المعركة يدردم بغضب بعد ان عجز عن إقناع مجايليه: “لم يريدون منع الموظفين من الدوام؟ أخي وابن عمي سيداومون حتى لاينقطع رزقهم”.

أستغرب وقد انقطعت عن تعداد القتلى والمصابين: هل يستحق الجسر كل هذه التضحيات؟ لم كانت الجسور مهمة في كل المعارك التاريخية بين المتظاهرين والسلطة؟ النهر يقسم المدينة الى نصفين: كرخ ورصافة. يريد المتظاهرون أن يلتقوا ليوحدوا الصوبين، تريد السلطة أن تمنع ذلك. يسقط الشهداء عادة على الجسر لأن السلطة تنصب رشاشاتها المتوسطة فوق الجسر أو فوق بناية تطل عليه. على الجسر تحصر السلطة المتظاهرين حيث لاجدران تحميهم ولا أزقة لينسلوا إليها. لذلك سمي أولها جسر الشهداء تيمناً بشهداء وثبة . لابد أن الجواهري كان على الجسر حين قال:

نصفان بغداد فنصف محشر             ساحاته اكتظت ونصف بلقع 

متماوج الأشباح حزنا ما به               إلا حشا دام ووجه اسفـــــــــع

أنا وعدد من أصدقائي عجزنا عن إقناع الشباب بعدم الاقتراب من الجسور:

“المنطقة الخضراء؟ لا تستحق كل هذه الدماء لأن الكل تركوها وصارت مجرد جدران.” لكن الشبان لا يفكرون مثلنا، فقد ولدوا وكبروا مع العالم الافتراضي الذي يقدمه الإعلام الجديد. يريدون ان يسجلوا لحظات في غاية الرمزية، أن يصلوا الى حصن السلطة ويأخذوا الصورة الساخرة وهم على كراسي حاكميهم و قتلتهم . 

الزمن؟ 

على خلافنا يرون، وهم يندفعون نحو السواتر ويسقطوها بالتتابع، بأن الأهداف قريبة يمكن رؤيتها بالعين المجردة.