fbpx

من ساحة الخلاني الى جسر السنك 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

نخطو ونحن نحسب خطواتنا بإيقاع نبضنا. لم نكن على قناعة بأن المعركة تستحق كل هذا الدم.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

الشاعر فارس حرام وأنا، توجهنا الى ساحة المعركة بعد سقوط السواتر الإسمنتية، وسيطرة الشباب المحتجين على جسر السنك. نخطو ونحن نحسب خطواتنا بإيقاع نبضنا. لم نكن على قناعة بأن المعركة تستحق كل هذا الدم. أولادنا بعمر القتلى. الخوف كان حكماً على أفكارنا وموجهاً لها، هذا الخوف الذي نسميه التعقل. على عكسنا كان الفعل موجهَ أفكارِ الشبان. ما زالت سيارات التكتك تروح وتأتي بهمة بحثا عن أفعال دون أن تكون هنا معركة. نمشي فتُشتتْ الأفعال والمشاهد نظراتنا. ننظر إلى الأرض كأننا نسألها عما سال عليها من دم. رأيت هذه الأرض  في واحدة من لوحات الفنان المكسيكي دافيد سكيروس بعنوان أرض المعركة. لون الأرض خليط من الدم والقار. تغلي بفقاعات وتنشر هواء ثقيلا. على جانبي الطريق تمدد الشبان الذين تعبوا من أيام الكر والفر. أحدهم قال لي إنه لم يذهب للبيت منذ عشرين يوما لأنه تعارك مع والده بسبب الاعتصام . بماذا يحلمون؟ كانهم أغلقوا نوافذ أحلامهم ليناموا استعداداً لفعل قادم. فوقهم لافتة كبيرة تقول “إحنه زغار بافعالنا كبار”. الساتر الاٍسمنتي الأول مطروح على الأرض وقد خط الشبان عليه “سنسقطكم أيها الفاسدون كما أسقطنا هذا الجدار”. كلما تقدمنا تتلاشى أفكارنا المسبقة عن ضرورة أن يكون الحراك سلميا فقط. المشاهد لا الأفكار تجذبنا وتمسح نصائحنا المتأخرة. 

عمر المعتصمين يتراوح بين 15-35 عاما. أكبرهم ولد في عز الحرب العراقية – الإيرانية وكان والده مجنداً فيها وكبر في مجاعة الحصار ثم قضى شبابه في الحرب الطائفية، ورأى بعينيه كيف يسرق الفاسدون مستقبله ويتحتم عليه حين يفكر بالزواج أن يوفي ديون الدولة التي استنزفها الفاسدون. أما أصغرهم فقد ولد بعد 2003 ولم يعرف جرائم صدام ولا الخوف الذي أسكت والديه. عاش بين المفخخات والقتل على الهوية، لا يعرف الأرقام ليدرك مداخيل بلده، لكنه صار رجلاً قبل أن ينبت الزغب على شفتيه وعليه أن يترك المدرسة ليصير معيلاً بعد أن فقد والده. 

وقفنا تحت موقف السيارات الذي الذي احتله المتظاهرون فاسقطوا الجسر. بسرعة نصبوا لافتة كبيرة تحمل الاسم الجديد للمبنى “جبل الشهداء”. لقد حوله الشباب إلى مسرح. الأماكن العالية تمنحهم التميز عن المشاهدين تحت. الأفرشة والبطانيات نشرت على الشرفات. بألوانها غطت اسمنت البناء. ومن شرفات المكان يلوحون بالأعلام. الأعلام اكتسبت هذه الأيام قيمة مضاعفة. بالإضافة لقيمتها الرسمية كرمز لوحدة المواطنين وهويتهم، صارت علامة لمواطنة جديدة عابرة للطوائف. مواطنة مناضلة ضد سلطة المحاصصة الطائفية. صارت علامة مفاخرة بحدث تاريخي. ماعاد وجودها يقتصر على البنايات الحكومية، بل صارت تنتمي للمواطنين كأفراد. يرفعونها عالياً بتفاخر، يلفَونها حولهم عباءات، يتغطون بها حين ينامون ويصلَون عليها في الساحة مثل سجادة.

على قماشة طولية كتبوا “تظاهرنا وترسنه كلوبكم خوف”.

عن حق يتصرف رجال السلطة وأحزابها بخوف عارفين أن الزمن يسير ضدهم. المنطقة الخضراء تبدو من الطابق الأخير في المطعم التركي خالية. لا سيارات تذهب إليها، ولا تخرج منها. لقد أغلقت مداخلها بعد أشهر من فتحها. لايدخلها إلا حاملي الهويات الخاصة. بالأمس اجتمعت أحزاب السلطة  خارجها ليصدروا وثيقة شرف تطلب من المتظاهرين إمهالهم 45 يوما. حالما وصلت الى الساحة أحرقها المتظاهرون وسط عرض مسرحي مع هتاف “إرحل، إرحل، إرحل”. ردُّ المتظاهرين على وثيقة الشرف التي قدمتها أحزاب السلطة تركز على مكان وزمان الاجتماع كونه عقد في مقر واحد من أحزاب السلطة ( تيار الحكمة) وليس في مكان رسمي، وكونه عقد مساء خارج الدوام الرسمي وهذا يعطيه شكل المؤامرة. في نظر المتظاهرين أصبحت السلطة الحالية في حكم المنتهية لأنها فقدت شرعيتها حين خرج الشعب للساحة ضدها. الزمن يسير لصالح المتظاهرين ضد السلطة.

ثلاثة أمور أعطت المتظاهرين مدداً للمطاولة:

إنهيار السلطة واتساع التناقضات بين أحزابها

موقف مرجعية النجف الذي تصاعد من التردد الى الانحياز.

الموقف الدولي خرج من التجاهل الى الاعتراف  

لكن الدعم الأقوى جاء عبر اندلاع المظاهرات في إيران.   

وسط جسر السنك إرتفع الساتر ثلاثة مرات بعلو قامة إنسان. تحت الساتر على الأرض تمدد المناوبون وعيونهم نصف مفتوحة. على الساتر وقف شبان ملثمون مٌنعنا من تصويرهم. هنا وسط حشد بين رفاقهم يشعرون بالأمان. لكن الخطر يداهمهم حين يعودون لبيوتهم منفردين. الاختطاف هو ما تبقى عند خصومهم. صورة المكان هنا: المناوبون النائمون على الأرض، الملثمون، السواتر تعطينا خيال حرب أهلية. لا يريدها المتظاهرون هنا، وربما لا تريدها السلطة خلف السواتر.