fbpx

السوريون والثوابت والمتغيرات

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ارتبط مفهوم “التفكير السياسي الجديد” أو “التفكير الجديد” باسم غورباتشيف، حين شعرت حكومته أن هنالك طريقاً انتهى وأصبح مسدوداً، ولا بدّ من هَجر القديم والدخول في العالم المعاصر.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ارتبط مفهوم “التفكير السياسي الجديد” أو “التفكير الجديد” باسم غورباتشيف، حين شعرت حكومته أن هنالك طريقاً انتهى وأصبح مسدوداً، ولا بدّ من هَجر القديم والدخول في العالم المعاصر. واعتمد “التفكير” المقترح آنذاك على نزع الأيديولوجيا من عناوين كثيرة، لا سيما في العلاقات الدولية، وكذلك هجر مفهوم “صراع الطبقات” وعزله من محور السياسات، إضافة إلى إعطاء الأولوية للمصالح الإنسانية الكونية، وزيادة التفاعل الإيجابي- سياسياً وليس عسكرياً- مع العالم وغير ذلك.

واستنتجنا- نحن السوريين المعارضين خصوصاً- ذلك مراراً في مفاصلنا التاريخية الحديثة. بعد حرب 1967، وبعد حرب تشرين وما تلاها، وبعد مجازر مطلع الثمانينات، وبعد موت الأسد الأكبر، وبعدما انتفض شباب سوريا في ربيع 2011. ولعلنا نقوم بانتفاضتنا في الفكر والتفكير بعد الكارثة التي حلت بنا، وليس معروفاً متى تبدأ نهايتها. ولكن المؤكد أنها لن تفعل ما لم نجترح وسائل جديدة وجريئة في معالجة المفاهيم ورؤية الوقائع والواقع، في النظر قبل أن نفعل ذلك في السياسة.

منذ القرن التاسع عشر، بدأت مرحلة النهضة كما أطلق عليها، بالاستناد إلى ما أحدثته الثورة الفرنسية والثورات الأوروبية التي تلتها، من صدمة وتغيير في الفكر والسياسة، وضمن مفاهيم الحرية والعدالة والمساواة، على خلفية التحديث الاقتصادي- الاجتماعي- العلمي. ولكن الصدام الحضاري والوجودي مع الكولونيالية، ومشكلات الحكم العثماني الذي كان يضرب عشوائياً دفاعاً عن نفسه، ومن ثمّ ظهور مفهوم الجامعة الإسلامية دفاعاً عن “الخلافة”، وفي مواجهة غير مباشرة مع القوميات والوطنيات التي كانت لا تزال في طور النظر أو التشكّل، كلها كانت مكابح متزايدة لعملية النهضة أو التحديث. وحتى حين عادت لترفع رأسها في القرن العشرين، استندت إلى آخر ما أنتجته أوروبا من فكر قومي واجتماعي، أنتج في سوريا وحولها أحزاباً شيوعية وإسلامية وقومية سورية وعربية تنتح كلّها من الحركات الشبيهة في أوروبا، التي خاض العالم حروباً ساخنة وباردة حتى انتهت موجاتها، وليس كلياً.

وما زالت بقايا تلك القوى كلّها موجودة وتشتغل على إعادة توليد الوعي والواقع المتأخر، بما فيها تلك التي ورثت فكر “الجامعة الإسلامية”، وتطورت وتفرعت، ما بين فكر القاعدة الجهادي إلى “داعش” والقوى الأخرى الرئيسة أو الأم، التي تتحصن في بيوت الدعوة لتدافع عن رؤاها السياسية والاجتماعية الخاصة.

احتمت القوى القومية والاجتماعية المختلفة وراء مفهوم سيادة الشعب، الذي هو جزء رئيس من الديموقراطية، وصادرت باسمه الحريات رويداً رويداً، حتى تغوّلت وطغت.

احتمت القوى القومية والاجتماعية المختلفة وراء مفهوم سيادة الشعب، الذي هو جزء رئيس من الديموقراطية، وصادرت باسمه الحريات رويداً رويداً، حتى تغوّلت وطغت. وبطغيانها جرفت الإسلاميين وأعطتهم دفقة حياة جديدة ومختلفة، كان عنوانها أيضاً- وللمفارقة- معاداة الاستبداد، وتفاصيلها تتشابك معه، ولا تشتبك. وتعود هذه القوى مؤخراً بقوة إلى الجامعة الإسلامية، وتتفاعل مع مشروع مكشوف مستور لاستعادة المجد والفكرة العثمانية برداء جديد. وتستطيع تلمّس ذلك ببساطة في ذلك الزحام الهائل في اسطنبول.

هنالك حاجة كبيرة إذاً إلى انعطاف في الفكر والتفكير، لا تنبع من الكارثة وحدها، بل مما يحيط بها من وعي زائف أو ملتبس أو هادفٍ للوي عنق التاريخ، ما دام هذا العنق قد أصبح طرياً تحت عنف الطغيان في سوريا- الأسد. وهنالك حاجة خصوصاً إلى إعادة النظر في “الثوابت” التي يُقمع من خلالها الفكر من التجدّد، والفكر السياسي خصوصاً.

وفي الواقع، هنالك خوارزمية لا بد من كشفها، تتكرر على أساسها النكسات والنكبات والكوارث. وهي تكمن حتماً في العقل وآليات تضليله وفتح مسارب جانبية تحجب عنه الطريق الطبيعي. والذي كان في البداية واضحاً، حين تلمّس الأوائل مفاهيمهم الجديدة، ولا بدّ الآن من العودة إليها، مع كلّ التحديث الواجب، بالانطلاق مما تكرّس في المواثيق الدولية وشرعة حقوق الإنسان، ولو أنها تُطمس أحياناً في غمرة صدامات المصالح وبراغماتية القوى الكبيرة والصغيرة.

هنالك خوارزمية لا بد من كشفها، تتكرر على أساسها النكسات والنكبات والكوارث.

ليس سهلاً تفكيك تلك الخوارزمية القاتلة، ولكنه يمرّ حتماً بما مرت فيه النظرية السياسية في أوروبا، عندما علقت في عصورها الوسطى لألف عامٍ مع اشتباك الإيمان بالعقل. ضاع “فلاسفتها” آنذاك طويلاً في محاولة تفسير الفلسفة اليونانية، ولم يتجاوزوا ابن سينا وابن رشد إلا بعد عنت شديد. وحتى في أيام توما الأكويني والفرنسيسكان لم تظهر فرصة جدية للانفكاك من المتاهة والضياع. استحقت فلسفة ذلك العصر تسميتها بالنظرية السياسية اللاهوتية أحياناً، في محاولتها اللاهثة للتوفيق ما بين سلطة البابا الإلهية وتلك الدنيوية لدى الامبراطور.

في التاريخ الإسلامي، كانت الدولتان الأموية والعباسية أكثر قدرةً على تجاوز عقبات الموضوع، وكان الازدهار نتيجة لذلك في مقابل الانحطاط الذي عاشته أوروبا في العصر الوسيط. كانت السلطة زمنية وبراغماتية يهيمن عليها فقه المصالح والمفاسد ويصالحها مع الحقل الديني. في حين لا يستطيع العقل العربي حالياً مفارقة قيوده ببساطة، أو أنه لم يستطع حتى الآن. وربما كانت فكرة “الثوابت” هي الابنة المباشرة لذلك العجز.

الثوابت قد تكون تعبيراً عن “اللامتغيرات” أو “المعايير”، وهي مرتبطة عموماً بالمفاهيم في الحقل السياسي المعني أو عموماً. ولكنها ليست ثابتة، لا تتحول ولا تزول أبداً. فقط هي المجموعة المفهومية أو القيمية في زمن وعصر ما. متى كانت آخر مرة سمعت فيها مفهوم تحرير فلسطين مثلاً، أو الوحدة العربية بين المحيط والخليج، أو القائد الملهم والرمز والخالد، إلا عند من استقر الرأي على فواتهم وفوات زمانهم؟! وفي الثورة السورية ومطارحاتها السياسية، متى سمعت أخيراً بمفهوم إسقاط النظام أو حتى مفهوم المناطق المحررة والجيش الحر أو الثوار، بارتباط مع ما هو على الأرض والواقع المرير، إلا في مساحة ما زالت الشعبوية تشغلها ولا يُعوّل عليها؟! في حين يعود مفهوم التغيير، وإنهاء الاستبداد، ومفاهيم الديموقراطية والجمهورية وحتى العَلمانية، بعد فشل الذين حرّموها أو حرّفوها أو وضعوا حرماً عليها.

استنبط الفلسطينيون مفهوم النكبة لاختصار ما حدث معهم في الأربعينات، وفي مواجهة مفهوم “الشواه” أو الهولوكوست أو المحرقة، الأكثر نجاحاً والأفضل ترويجاً ومقوماتٍ. الآن هنالك تقدير سوري لذلك الاختزال الممتاز في كلمة النكبة، بسبب العجز عن التعبير عما حدث للسوريين حتى الآن، وهو يفوق بالفعل أي وصف أو كلمة أقلّ من الكارثة أو الزلزال المدمّر. 

لذلك ربما لا بدّ أولاً، وقبل “البدء” أو “العمل” من جديد، من اجتراح آليات تفكير جديد، تعيد النظر وتراجع مفهوماً أو معايير اخترعناها وكبّلتنا، ما عدا معايير الحداثة والقيم الكونية في الفكر والسياسة، المتعارف عليها والموثقة وتلك التي يمكن اشتقاقها في حالتنا، بحرية عقلية وعقلانية لا حدود لها. بذلك قد يمكننا أن نعاود المسير، أو أن نستريح جانباً ونُخلي الطريق!