fbpx

العراق: الدموع التي لم يذرفها جنرال “الهلال الشيعي”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

العراق، البلد الذي يبكي فيه الرجال كثيراً حين يحين موعد البكاء، يقتلون كثيراً أيضاً، حين يحين موعد القتل. السلطة وحكوماتها لطالما وفرت لهم فرص القتل، فيما الانتفاضة اليوم توفر لهم فرصاً للقاء والبكاء والأمل.

أن ترفع لافتات تضامن مع أهل مدينة الناصرية العراقية في مدينة الفلوجة، فهذه لحظة عراقية نادرة. لحظة، وليست مؤشراً على رأب الصدع الأهلي الهائل في ذلك البلد. لكنها لحظة وفرتها الانتفاضة على السلطة في بغداد، السلطة التي بالإضافة إلى أنها لم يسبق لها أن أتاحت شروطاً لأهل الفلوجة والناصرية أن يتضامنوا، أمعنت في بث الفرقة بينهم، وفي تعميق شروط الانقسام. وهذا وحده يكفي لكي ينحاز المرء للانتفاضة في بلاد ما بين النهرين.

 أهل الفلوجة وأهل تكريت قاموا من تحت ركام مدنهم وكشفوا وجوههم وأرسلوا للناصرية حباً وتضامناً، فيما كانت مهمة الحكومة في الحقبة السابقة، كما كانت مهمة “داعش” توظيفهم في تلك الحرب الأهلية الطاحنة. هذا الفارق صنعته الانتفاضة في العراق، وصنعه فتية التظاهرات في مدن الشيعة.

ومبادرة أهل الفلوجة تصلح لتناول هذا النوع من اللحظات النادرة التي تنعقد فيها شروط سلمٍ أهلي توفرها اندفاعات عاطفية إيجابية، في بلاد تعز فيها العواطف الإيجابية. فالوطنية العراقية شهدت لحظات عاطفية، التأم خلالها العراق، أو تمزق. وهذه اللحظات على وهنها وراهنيتها يُعاد استدخالها إلى لغة التخاطب بين الجماعات الأهلية بصفتها أصل العلاقات وفصلها. تصبح جزءاً من القاموس العاطفي، وهذا الأخير يستحضرها في لحظات انفعالية، وما أكثر هذه اللحظات في العراق. 

العراق، البلد الذي يبكي فيه الرجال كثيراً حين يحين موعد البكاء، يقتلون كثيراً أيضاً، حين يحين موعد القتل. السلطة وحكوماتها لطالما وفرت لهم فرص القتل، فيما الانتفاضة اليوم توفر لهم فرصاً للقاء والبكاء والأمل. هذا الفارق يجب أن يبقى حاضراً في قراءة المشهد في العراق.

الصدع الأهلي والمذهبي العميق والجوهري في العراق، يشهد اليوم امتحاناً عابراً يمكن للانتفاضة أن تبني عليه، كما يمكن للحكومة أن تنقضّ عليه. أهل الفلوجة وأهل تكريت قاموا من تحت ركام مدنهم وكشفوا وجوههم وأرسلوا للناصرية حباً وتضامناً، فيما كانت مهمة الحكومة في الحقبة السابقة، كما كانت مهمة “داعش” توظيفهم في تلك الحرب الأهلية الطاحنة. هذا الفارق صنعته الانتفاضة في العراق، وصنعه فتية التظاهرات في مدن الشيعة. 

أهالي الفلوجة يضيئون الشموع عن أرواح ضحايا الناصرية وذي قار

القول بأن الصدع الأهلي أكبر من أن يتم رأبه بلحظة عاطفية صحيح في العراق، وصحيح في لبنان أيضاً، لكن الانتفاضة مشهد وجيل أيضاً، والمشهد راهن، وجيل المنتفضين أقل ارتباطاً بذلك الشقاق الأهلي والمذهبي الذي صنعته سلطة الآباء وحكوماتهم وأحزابهم و”داعشـ”هم. ثم أن المشهد يصلح لمهمة أخرى أيضاً، يصلح لكشف الفارق بين حكومة تصنع الشقاق وتستثمر به، وبين انتفاضة تصنع مشهداً مختلفاً، وهذا الأخير، وإن كان مجرد انفعال وعاطفة، إلا أنه فرصة لاستئناف التفكير بعراق ما بعد الانتفاضة.

ما يجري في العراق ليس حرباً أهلية هذه المرة. للمرة الأولى منذ عقدين يصدر العنف عن آلة غير أهلية. آلة معدنية بيد أشرار لم يولدوا من رحم عشائر العراق ومذاهبه وأقاليمه، على رغم أنهم بيولوجياً أبناء هذه الأرحام. أبناء الناصرية قتلتهم سلطة شيعية، وأهل الفلوجة السنة لم يخرجوا هذه المرة لقتال هذه السلطة الشيعية، انما للتضامن مع قتلى مدن الجنوب. من يعرف العراق يعرف أن هذا حدث جلل، ويعرف أن الحكومات ومنذ زمن البعث إلى اليوم لم تتح للعراقيين لحظة مشابهة، واليوم أتاحتها الانتفاضة.

الدرس العراقي كبير وهائل، ومن المفترض أن يعيد النظر بالكثير من المسلمات التي شرعنا نطلقها خلال محاولاتنا المتواصلة والمتعثرة لتفسير ما يجري في هذا البلد.

لم يعد ممكناً تجاوز حقيقة أن اللعب على خطوط الانقسام صار يتطلب شروطاً مختلفة لا يجيد الجنرال قاسم سليماني لعبها. الشروط اختلفت، والإتيان بنخبة حاكمة لا تملك إلا شروط الولاء والطاعة سيطيح بالجهود الدماء التي بذلت لبناء الجسر من طهران إلى بيروت.

حتى الآن، ما وفرته الانتفاضة للعراق يفوق بكثير ما وفرته الحكومة. فهل يشعر سكان المنطقة الخضراء بهذه الحقيقة، وهل في هذه المنطقة من يتساءل عن مسؤوليته عن كل هذه الدماء؟ أما الجنرال المقيم في متاهته المذهبية، فهو من خارج هذه الحساسية، وهو ما سهل قفزه فوق أنهار الدماء المهدورة حول خط الانقسام، فالسؤال لن يعنيه إلا بصفته مؤشراً على تصدع الجسر وعلى هشاشته.