fbpx

الانتفاضة اللبنانية : زمن استعادة الحق العام 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

الحقيقة التي يجب أن نتعامل معها الآن هي أنه آن أوان الثورة على السياسات الاجتماعية في لبنان!

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

هو زمن الثورة إذا، وهو أيضاً أوان انقلاب جذري على نظام السياسات الاجتماعية الريعية التي تسببت على مرّ السنوات بتعزيز سلطة الفساد السياسي. وتلك السياسات أتاحت احتكار موازنات وزارة الشؤون الاجتماعية من قبل جمعيات تابعة لنفوذ طائفي سياسي من جهة، وانجراف المؤسسات الدولية (عن عدم معرفة أحيانا وعن سابق تصور وتصميم في أحيانا كثيرة) إلى دعم جمعيات “عريقة” بالمعنى السلبي، مكرسة بذلك زبائنية اجتماعية مزمنة. وهي زبائنية طبعت سلوكاً فوقياً من قبل الجمعيات عبر انتقائية خدماتية تؤسس إلى اعتماد غير مستنير وتخلي المستفيد عن حقوقه الأساسية. وهنا لابد من التأكيد على أن هذه المقاربات انعكست إيداعاً متزايداً في المؤسسات الرعائية. وتشير الدراسات إلى أن حوالي 28 الف طفل تمّ إقحامهم في حالة يتم قسرية، علماً أن معظمهم يعيش في دور الرعاية بسبب الفقر. في حين أن الأطفال الذين هم فعلاً بحاجة للرعاية البديلة يبقون بلا رعاية.  وبالرغم من كل التقارير التي توثق تعرض الأطفال لانتهاكات متعددة، ليست الاعتداءات الجنسية أقلها، لم تتوان وزارة الشؤون الاجتماعية عن تقديم الدعم السياسي والمادي لتلك المؤسسات، معتمدة مبدأ الحصص الطائفية والسياسية. نتحدث هنا عن حوالي 75% من موازنات وزارة الشؤون الاجتماعية على مرّ الحكومات المتعاقبة ما بعد الحرب في لبنان. 

وهنا أيضاً، لا بد من التذكير أنه في عام  2006، عبّرت لجنة حقوق الطفل الدولية عن قلقها العميق إزاء تقارير لبنان حول وضع الأطفال في دور الرعاية وحول الأعداد المتزايدة والمقدرة بحوالي 28 ألف طفل ضمن هذه الدور، بينما يقدر عدد الأطفال الذين يحتاجون فعلياً لرعاية بديلة مقيمة بـ5 آلاف فقط. وكانت دراسة قد أعدها عام 2008 مركز الدراسات والأبحاث بالتعاون مع وزارة الشؤون الاجتماعية واليونيسف، أشارت إلى أن غالبية هؤلاء الأطفال مودعون في المياتم ليس بسبب اليتم بل بسبب الفقر. كما أشارت الدراسة تلك الى واقع هزيل للرعاية البديلة في لبنان، فضلاً عن أن كلفة دعم العائلات الفقيرة مالياً لتمكينها من إبقاء أولادها في كنفها (إسكان، تعليم، غذاء..)، يقل عن التكلفة التي تترتب على دعم مؤسسات الرعاية.

وإزاء هذه التقارير والدراسات، لزمت السلطات الحكومية على مر الزمن الصمت، ما جعلها في حال انفصام تام بين ما تقره مع دول أخرى، من معايير في مجال الرعاية البديلة (آخرها الميثاق العربي للمعايير الدولية للرعاية البديلة في القاهرة عام 2009) وما تطبقه في الواقع. وبالطبع، يصبح هذا الصمت أكثر دلالة وبلاغة مع الطريقة التي تعاطت بها وزارة الشؤون الاجتماعية، في عهد الوزير رشيد درباس، مع قضية الانتهاكات في دور الأيتام بطريقة طائفية وصلت إلى حد الشخصنة. وربما يكون أداء وزارة الشؤون الاجتماعية في حينها هو الأسوأ ولكنه الأوضح في تكريس العمل الخيري بصفته عملاً ريعياً طائفياً سياسياً غير خاضع للمساءلة، أو المحاسبة، أو الملاحقة القانونية.

ولكن الواقع يشير أيضاً إلى أن كل هذه التقارير الأممية لم تثمر مراجعة حقيقة لمقاربات العمل الاجتماعي في لبنان، كما أن المؤسسات الدولية اتخذت موقفاً محايداً عبر الاستمرار بالإنفاق على دراسات واستشارات تعيد انتاج المعلومة نفسها.

الحقيقة التي يجب أن نتعامل معها الآن هي أنه آن أوان الثورة على السياسات الاجتماعية في لبنان!

أما بعد، كان لا بد لأن تتكشف الحقائق في لبنان فها هو الوضع الاقتصادي والاجتماعي ينعكس ضائقة خانقة، تزيد من تضرر الأكثر فقراً وتجرّ معها الطبقة التي كانت ما زالت قادرة على تأمين احتياجاتها الأساسية. وهنا لابد من البحث المعمق بسياسة العمل الاجتماعي في لبنان، والتي اعتمدت مقاربات فوقية تؤكد على اعتماد المستفيد بشكل مباشر على الخدمة التي تقدمها الجمعيات، عوضاً عن تمكين المجتمعات من إيجاد حلول مستدامة. ولابد من ممارسة الضغط على المؤسسات الدولية لكي تتبع نبض الثورة، وأن تغير من أجنداتها التي ساهمت بأشكال متعددة بإنتاج فساد المشاريع، وكتاباتها، ومفاتيحها الزبائنية أيضاً. وللحديث هنا تتمة. 

هو زمن الثورة إذا، وهو أيضاً أوان انقلاب جذري على نظام السياسات الاجتماعية الريعية التي تسببت على مرّ السنوات بتعزيز سلطة الفساد السياسي.

ولا بد من الإشارة هنا إلى المزاج العام الخيري يتحول في ظروف مماثلة إلى حملات تبرع وتوزيع صناديق إعاشة، وهو منحى، على الرغم عن النوايا الحسنة التي تقوده، إلى أنه يكرس من جديد مفهوم العمل الخيري الريعي الذي يلعب دور المسكّن المرحلي، لكنه يؤجل وعلى الأرجح يعرقل الحلول المستدامة.

فكيف علينا أن نتعامل مع الوضع الراهن والمفتوح على التدهور السريع.

يشكل هنا نموذج لجنة المحامين للدفاع عن المتظاهرين في لبنان نموذجاً يمكن البناء عليه على المستوى الاجتماعي الاقتصادي الصحي البيئي، وذلك لأنه يعتمد مقاربة تنطلق من القدرات المحلية في الاستجابة لاحتياجات محلية مباشرة وآنية. وهو أيضاً يؤسس لتضامنٍ وتكافل اجتماعيين، على نحو يعكس النبض التضامني التي كرسته الثورة في أحلى صورها.

ربما يفيد هنا الإشارة إلى بعض التجارب في العمل المحلي للتعاطي مع الأزمة الاجتماعية الاقتصادية، التي تستخدمها السلطات في الضغط على الشعوب خلال الثورات، وهي تجارب قامت في شمال سوريا بشكل محدد وفي مصر، ولكنها للأسف لم تظهر إلى العلن، وبالأحرى لم تلق دعماً من المؤسسات الدولية وذلك لأنها تهدد نفوذ الدعم المالي. فهي مقاربات تعيد القوة للشعب في تقرير مصيره وتنظيم أموره، وتُعزّز التضامن المحلي وتنميه. 

ولكي يكون المقترح عملانياً بعيداً عن التنظير، لا بد من إيجاد هيكليات عمل محلية تؤمن شبكة أمان محلية لا سيما في المناطق الأكثر تضرراً. على أن ترتبط هذه الشبكات المحلية ببعضها البعض، بحيث يمكن أيضاً تأمين هذا التكافل والتضامن فيما بين الشبكات.

تؤمن هذه المقاربات:

  • مشاركة الأكثر تضررا في إيجاد حلول فورية لمشاكل مباشرة
  • تأمين حلول مستدامة لأنها مقاربات تمكينية تعتمد المتاح ولكنها تمكن الأكثر تضرراً، وتطور قدرته على عدم الاستسلام، لانتظار صندوق المعونة
  • تعزز القدرة المحلية وتربط المناطق ببعضها

كما أنها مقاربات تمكن من إيجاد حلول مجتمعية وسياسات حماية محلية، عوضاً عن الحلول المعلبة الجاهزة التي تؤسس لشرخ اجتماعي.

هنا لا بد من الإشارة إلى الدعوات الكثيرة في بلاد الاغتراب، لجمع تبرعات دعماً للثورة. وهذا، برأيي، خطأ فادح يعرّض الثورة لمشاكل كبيرة مرتبطة بالشفافية: فمن سيستلم هذه الأموال، وباسم من، وكيف تصرف الأموال، هل هناك دعوات من الثوار للدعم المالي؟
لا تشكيكاً في نوايا المتحمسين، ولكن لابد من التفكير والتخطيط بعيداً عن الحماسة. دعونا لا نورّط الثورة بأخطاء تؤسس لمشاكل فساد مقبلة. يجب على الحلول أن تنطلق من الواقع الراهن المعاش، وألا نستسهل السقوط مجدداً في خطر الانفاق الاجتماعي الريعي الذي يتعارض مع نَفَس الثورة. 

هو أوان استعادة الحق العام، والحيز العام، ولاسيما استعادة القدرة الفعلية على استنباط حلول مستدامة لمشاكل متراكمة.