fbpx

أبناء تهامة اليمن بين موتين: الحرب والضنك

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

قضت شروق يحيى (26 سنة) حياتها، بعد يومين من إصابتها بحمى الضنك، التي اجتاحت محافظة الحديدة الساحلية، غرب اليمن، منذ تشرين الأول/ أكتوبر المنصرم ويستمر حتى اليوم في حصد أرواح أبناء المناطق الأكثر تضرراً من الحرب خلال السنتين الأخيرتين.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

قضت شروق يحيى (26 سنة)، بعد يومين من إصابتها بحمى الضنك، التي اجتاحت محافظة الحديدة الساحلية، غرب اليمن، منذ تشرين الأول/ أكتوبر المنصرم ويستمر حتى اليوم في حصد أرواح أبناء المناطق الأكثر تضرراً من الحرب خلال السنتين الأخيرتين.

“عشية 29 تشرين الأول، أصيبت شروق بحمى شديدة فقدت على إثرها حركتها، فقررنا نقلها إلى المستشفى، واستدعينا أحد جيراننا ليأخذنا على متن دراجته النارية، لأن أحداً من سكان القرية لا يمتلك سيارة”، تروي عمّتها خديجة قصة مرضها بأسى، وتضيف لـ”درج”: “لم نكن نملك سوى 3 آلاف ريال (5 دولارات)، لكن جارنا ساعدنا في دفع تكاليف الدواء”.

في مستشفى النور الخاص في مديرية الجراحي، أجريت لشروق فحوصات الصفائح والملاريا والالتهابات، وكشفت هبوط صفائح الدم الناتج عن إصابتها بحمى الضنك، ومُنحت الفتاة بعض الحقن المغذية، “ثم عدنا بها إلى المنزل بعد تحسّن صحتها، لكن حرارتها عادت للارتفاع مجدداً صباح اليوم التالي”، بحسب خديجة.

وكغيرها من أبناء منطقة الجراحي، لم تكن أسرة شروق تمتلك شيئاً من المال، فاضطرت للذهاب إلى المستشفى الحكومي في المنطقة، حيث نصحتهم طبيبة بإدخالها إلى مستشفى المحافظة، أو أي مستشفى كبير.

إغلاق المدينة

في أيار/ مايو 2018، أعلن التحالف الذي يقود حرباً على اليمن منذ خمس سنوات، تصعيداً يهدف إلى السيطرة على ميناء الحديدة عن طريق الساحل الغربي، انتهى بإغلاق المدخل الرئيسي للمدينة ونزوح ما يزيد عن 1.5 مليون من الحديدة وضواحيها، إلى مناطق ذات بيئة معيشية وصحية صعبة.

دفع إغلاق المدخل الرئيسي لمدينة الحديدة بأسرة شروق إلى نقلها باتجاه محافظة إب (تبعد 226 كيلومتراً)، تبكي عمتها وهي تضيف “بعت خاتمي الذي لا أملك سواه، بـ61 ألف ريال (106 دولارات)، واستدعينا سيارة لنقلنا، لكن شروق فارقت الحياة بعدها بدقائق. ماتت ولم نستطع إنقاذها”.

شروق واحدة من بين 71 مريضاً فقدوا حياتهم، بحسب مكتب حقوق الإنسان في الجراحي، التي تجاوز فيها عدد حالات الإصابة بالضنك والملاريا 3 آلاف حالة معظمهم من الأطفال والنساء، وفق مصدر محلي في المنطقة.

وبحسب، مدير مكتب الصحة في الحديدة، عبد الرحمن جار الله، فإن “عدد الإصابات بالضنك والملاريا في الحديدة حتى اليوم بلغ 4200 حالة، منها 69 وفاة في الجراحي بحسب البلاغات، فيما المسجلة ترصّدياً 40 حالة، إلى جانب 8 وفيات في الزهرة و5 في زبيد”.

وكانت وزارة الصحة في حكومة الإنقاذ (تابعة للحوثيين)، أطلقت في الـ12 من الشهر الجاري، حملة طبية، على ضوء إعلان الوزير طه المتوكل، من محافظة الحديدة، حالة الطوارئ القصوى لمواجهة الضنك والملاريا، دعا في بيان الإعلان، المنظمات الصحية والمجتمع المدني والطبي إلى التعاون لمكافحة نواقل الوباء.

في تهامة، ثمة معاناة لا تحتمل: أطفال يفترشون الحصير، وآخرون يحملون الحقن المغذية بأيديهم، وغيرهم ينامون على الدرج، إلى جانب تحويل المدارس إلى عيادات طارئة ينام المرضى على كراسيها المتآكلة، نتيجة النقص الحاد في المرافق الصحية.

وحذّرت منظمة الصحة العالمية قبل أكثر من شهر من انهيار وشيك وكلّي للمنظومة الصحية في اليمن، بعد أشهر من إعلان وزارة الصحة في صنعاء، أن “العدوان دمّر المنظومة الصحية في اليمن بشكل كلي، وأن 80 في المئة من المستشفيات التي تعمل بصعوبة مهددة بالتوقف”.

ضنك وورم

سالم زيد (ستيني)، من أبناء قرية باجل غربي الجراحي، أصيب وأولاده الأربعة بحمى الضنك والملاريا، إلى جانب معاناته من جراء إصابته بورم سرطاني في المعدة والجيوب الأنفية والأذن.

يقول أحد أقاربه إنه رآه “يفترش الأرض بالقرب من الوحدة الصحية في المنطقة، ينتظر مع أبنائه دورهم، للحصول على دواء من الطبيب”، ويضيف لـ”درج”: “يعيش سالم وستة من أطفاله حياة بائسة، يحاول جاهداً الحصول على قوت يومهم، على رغم تقدمه في العمر، وفقر كل من حوله”.

معاناة سالم تفاقمها “عشة (بيت من القصب والحشيش) متهالكة، يزحف الرمل باتجاهها كل حين، وربما يفقدها عن قريب”، بحسب المصدر، الذي أضاف لـ”درج”: “يجعلهم تهالك العشة عرضة للرياح والأمطار والشمس وحتى الغبار”.

كانت وزارة الصحة في حكومة الإنقاذ (تابعة للحوثيين)، أطلقت في الـ12 من الشهر الجاري، حملة طبية، على ضوء إعلان الوزير طه المتوكل، من محافظة الحديدة، حالة الطوارئ القصوى لمواجهة الضنك والملاريا

ويعيش نحو 3 ملايين يمني في بيئة غير ملائمة، ويحتاج 24 مليون مواطن إلى مساعدات، منهم 11 مليوناً بحاجة إلى تدخل طبي عاجل، فيما يفتقر 14 مليوناً من سكان البلاد البالغ عددهم 30 مليوناً، إلى قوت يومهم ويعيشون على المساعدات الإنسانية، بحسب تقديرات الأمم المتحدة.

ويعاني اليمن، منذ خمس سنوات، من اجتياحات لأمراض وأوبئة فتّاكة، كالكوليرا والدفتيريا وإنفلونزا H1N1 والحصبة والملاريا وحمى الضنك والحميات النزفية والالتهابات الرئوية الحادة والتهاب السحايا الدماغية وجدري الماء والسعال الديكي، إلى جانب النكاف والليشمانيا وداء الكلب والتهابات الكبد، بحسب تقرير وزارة حقوق الإنسان في آذار/ مارس الماضي.

طفلة منسية

في هيئة مستشفى الثورة العام في مدينة الحديدة، ترقد الطفلة حسناء حيدر (سنتين ونصف السنة)، إلى جانب أمها، من جراء إصابتها بحمى الضنك. 

يقول الدكتور يوسف الحاضري، المتحدث باسم وزارة الصحة، لـ”درج” إن “60 في المئة من ضحايا الأوبئة التي اجتاحت اليمن خلال فترة العدوان هم أطفال”، مؤكداً أن “طفل يسقط كل 10 دقائق بسوء التغذية أو المرض”.

تظل حسناء شاخصة نحو السماء لساعات بعينين ضامرتين وملامح ذابلة، تقول والدتها إن “حالتها الصحية في تدهور مستمر، وهي بحاجة إلى الإنعاش”، وتضيف لـ”درج”: “نسبة صفائح الدم منخفضة وهي بحاجة إلى تدخل سريع والأطباء منشغلون ببقية المرضى”، وفي الطوارئ عشرات المرضى الذين يحتاجون إلى علاج.

وتشكو والدة حسناء من سوء الوضع المادي الذي يتملّك حياتهم، وهي واحدة من بين “80 في المئة من سكان اليمن يعيشون تحت خط الفقر” بحسب منظمة الأمم المتحدة في تقريرها الصادر أواخر عام 2018، وهي زيادة ناتجة عن الحرب التي حرمت معظم الموظفين اليمنيين من رواتبهم منذ 4 سنوات، وأدت إلى نزوح ما يزيد عن 3 ملايين إلى مناطق بعيدة من مصادر دخلهم، ودمرت المصانع والمستشفيات والمدارس والمزارع وخلقت أسوأ أزمة إنسانية في العالم.

حرب ووباء وإهمال

يقول الناشط الحقوقي صابر واصل، من أبناء الجراحي، إن “الوباء يتردد على المنطقة كل عام منذ 2009، لكن التعامل معه والاستجابة لنداء الأهالي من خلال الطواقم الطبية والترصد الوبائي يتم في حينه، ما يساهم في الأخير في الخروج بأضرار قليلة”، ويضيف لـ”درج”: “هذا العام تمكّن الوباء من المنطقة على عكس ما مضى، والضحايا بالمئات”.

ويعزو واصل ذلك إلى القصور الحاصل من قبل الصحة وتباطؤ استجابة المنظمات لصوت المعاناة إلا بعد سقوط عشرات الوفيات”، لكن الأكثر من ذلك حد قوله هي “حالة الحرب التي تمر بها البلاد، والتي فاقمت الوضع بشكل كبير وجعلت من الصعب السيطرة على الوباء ومكافحة النواقل الفيروسية مثل بعوضة الزاعجة المصرية الناقلة للمرض، إضافة إلى حالات حميات أخرى مثل الملاريا”.

“وتعاني تهامة اليمن من انعدام وجود الدعم الكافي في المرافق الصحية وانهيار الوضع الصحي وغياب الكادر المؤهل” وفق واصل، على رغم تحرّك الكثير من قوافل الإمداد الطبي من صنعاء وحجة وإب والمحويت ووزارة الصحة، لكن “الوضع الصحي في المديرية لا يزال كارثي والإهمال من قبل وزارة الصحة والمنظمات يفاقم المشكلة، وعدد الوفيات في ارتفاع”.

في تهامة، ثمة معاناة لا تحتمل: أطفال يفترشون الحصير، وآخرون يحملون الحقن المغذية بأيديهم، وغيرهم ينامون على الدرج

هذا الإهمال، كان دافعاً لأمل (شقيقة شروق)، للتطوع في الحملة المجتمعية التي أطلقت لمكافحة الوباء بالتعاون مع بعض التجار، لكنها لم تستمر كثيراً؛ إذ تقول خديجة إنها “ترقد منذ يومين في العناية المركزة نتيجة إصابتها، هي الأخرى، بحمى الضنك”. وكانت أمل فقدت أخاها خلال الجائحة الأخيرة لوباء الكوليرا أواخر 2018.

أما جار الله، فيؤكد لـ”درج” أن “هناك جهوداً كبيرة تبذل في الميدان من قبل السلطات الصحية والمنظمات العاملة في هذا الحقل، عدا اليونيسف التي لا تزال مقصرة”، لكن كثراً من أبناء المنطقة يشكون من ضعف الاهتمام بردم المستنقعات والحفر التي تشكل بيئة خصبة لتكاثر البعوض واحتقان فيروسات الضنك والملاريا.

عن ذلك، يقول مدير صحة الحديدة “إنها مهمة السلطة المحلية وليس الصحية”، مؤكداً أن “الكثير من الحفر والمستنقعات الكبيرة تم ردمها بإشراف المحافظ وبحضور وزير الصحة، لكن المشكلة تكمن في البؤر الموجودة داخل المنازل: في إطارات العربات وزجاجات الماء غير المغلقة ودورات المياه والأبيار، والتخلص من ذلك يحتاج مسؤولية مجتمعية كبيرة”.

وفيما يقول جار الله، إن هناك انخفاض في عدد الإصابات بالمرض، يتحدث أشرف محجوب، من أبناء المنطقة، نافياً ذلك، إذ يؤكد “انخفض المرض ثم عاد الآن في الارتفاع”. ويضيف: “في بعض القرى لوحظت زيادة انتشار البعوض الناقل للمرض بعد عملية الرش التي قامت بها المنظمات والوزارة، بينما المناطق التي رشها متطوعون من أبناء المنطقة شهدت تدنياً في الإصابات”.

علاوة على ذلك، تبقى مأساة أبناء اليمن شاهدة على شراسة حرب لا أخلاقية، ضحيتها المواطن، الذي قصف منزله وسلب قوته ومصدر رزق أطفاله، وانتهت به الحال أسير موتين: الحرب والوباء.