fbpx

المطر كقاطع طريق

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

بدا المشهد مصارحة واضحة وتعبيراً لا لبس فيه عن فساد السلطة وتخاذل أهلها. فالسيول، بما فيها من زجاجات فارغة وقشور برتقال وجيف حيوانات، جرفت السيارات واقتلعت الأشجار على طريق الدامور- الجية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ناجي الفليطي وداني أبي حيدر ونزيه عون، صفعوا وجوه اللبنانيين، بعدما أبرحهم الفقر ضرباً. فاختاروا الرحيل وذهبوا إليه، بعدما أثقلتهم المعاناة، معاناة اللبنانيين جميعاً، من انخفاض سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي، وخصم نصف الرواتب في مؤسسات عدة، ووصل الأمر في حالات غير قليلة إلى الطرد التعسفي، بالتزامن مع غلاء أسعار البضائع الأساسية، وتهديد دائم بانقطاع الوقود والطحين من الأسواق.

قطع المتظاهرون الطرق في مناطق لبنانية احتجاجاً على الوضع الراهن. إلا أن القوى الأمنية فضّت التظاهرات مستخدمة العنف، واعتقلت مجموعة من المتظاهرين والمتظاهرات، معلنةً على صفحتها الرسمية على “تويتر” أن “حرية التعبير مصونة بالدستور وقطع الطرق مخالف للقانون”.

رضخ المتظاهرون للأمر، لا قطع طرق مجدداً. لكن الطرق التي فتحها المتظاهرون قُطعت مجدداً، الطبيعة قطعتها، فالأمطار التي نزلت أغرقت الشوارع والناس بالسيول وبمياه الصرف الصحي، لا سيما على الطريق الذي يصل الجنوب بالعاصمة. وبدا المشهد مصارحة واضحة وتعبيراً لا لبس فيه عن فساد السلطة وتخاذل أهلها. والسيول، بما فيها من زجاجات فارغة وقشور برتقال وجيف حيوانات، جرفت السيارات واقتلعت الأشجار على طريق الدامور- الجية.        

خمس ساعاتٍ ونصف الساعة من صيدا إلى بيروت كانت كفيلة بأن أرى الكثير من المشاهد المؤلمة، هنا بعضها.

المشهد الأول: طفلٌ وعجوز

أنا عالقة في سياراتي، لقد مرّت ثلاث ساعات. أفكّر بشيء أفعله ليمضي الوقت سريعاً، فالطريق ما زال طويلاً. تترجّل سيدة من سيارتها أمامي، تبدو متعبة ومستاءة كجميع المحتجزين في سياراتهم. تفتح باب السيارة الخلفي وتخرج طفلاً لم يتجاوز عمره السنة. بكاء الطفل أسكت شيئاً في نفوس السائقين المتذمرين.

رضخ المتظاهرون للأمر، لا قطع طرق مجدداً. لكن الطرق التي فتحها المتظاهرون قُطعت مجدداً، الطبيعة قطعتها، فالأمطار التي نزلت أغرقت الشوارع والناس بالسيول وبمياه الصرف الصحي.

على يميني سيارة “فولفو” حمراء قديمة يحرسها صليب خشبيّ معلّق في المرآة. يقود السيارة رجلٌ خمسيني، وإلى جانبه أمه الثمانينية. تجاعيد وجهها المتعب تدعو إلى البكاء، وكذلك شفتاها اللتان لم تكفا عن الصلاة.

المشهد الثاني: امرأة في الوحل

أنا عالقة في سيارتي، لقد مرّت أربع ساعات. أطفأ السائقون محركات سياراتهم وتحوّل الطريق إلى مرأب كبير. سائقو الحافلات أشعلوا السجائر على جوانب الطرق، وقدّموا الاوتوستراد فسحة للركّاب.

امرأة خمسينية تنحني لتخرج من حافلة صغيرة. ترتدي عباءة سوداء وحجاباً مزركشاً، وتنتعل حذاءً صيفيّاً يكشف أصابع قدميها. ما أن لامست الأرض، غطى الوحل قدميها والجزء السفلي من العباءة. تتقدّم من سائق الباص وتطلب منه سيجارة، تشعلها وتمضي نحوي مبتسمة، لتقول بلهجتها الجنوبية: “وإذا قلنا السلطة فاسدة بيزعلوا… فاسدة ونص، وكلن يعني كلن”.

المشهد الثالث: البحر ليس أزرقَ

أنا عالقة في سيارتي، لقد مرّت خمس ساعات. على يميني تهدر شلالات من المياه السوداء، تحمل معها أغصان أشجار ونفايات وبقايا إطارات، ترتطم بسياراتنا وتهزّها، ثم تعود وتركد في مستنقعاتٍ كبيرة. إنه مدّ وجزر في أبشع صوره.

على يساري مشهد البحر وقد وصلت إليه السيول القذرة. البحر لم يكن أزرق، بدا لونه بين الأخضر والبني، بعدما اختلطت مياهه بالوحل وبمياه الصرف الصحي.

أسمع صوتاً غاضباً من بعيد “ثورة، ثورة، ثورة”. شابٌ عشريني يحمل هاتفه وينقل الصورة مباشرة. اختار أن يثور وحيداً، في وجه مشهد ذلّ ليس بجديد على اللبنانيين الذين حلّ عليهم فصل الشتاء، بويلاته وسيوله، تماماً ككل عام في مثل هذه الأيام.