fbpx

العثمانيون الجدد أتاتوركيون جدد

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ما لا يختلف عليه اثنان أن التمدد العثماني في البلدان الإسلاميّة والعربيّة لم يكن قوامه العُلوم والفلسفة والفنون والآداب والموسيقى، بل كان بوسائل أخرى، تذكرها كتب التاريخ.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

بعيداً من التراشق الدرامي–السياسي– التاريخي بين تركيا من جهة، ومصر والسعوديّة والإمارات…، من جهة أخرى، ما لا يختلف عليه اثنان أن التمدد العثماني في البلدان الإسلاميّة والعربيّة لم يكن قوامه العُلوم والفلسفة والفنون والآداب والموسيقى، بل كان بوسائل أخرى، تذكرها كتب التاريخ. ذلك التمدد الذي ابتلع الشام والعراق ومصر والسودان وأغلب شمال أفريقيا والحجاز، واستمرّ قرابة أربعة قرون، بدأ مرحلة التضعضع والتراجع، أيضاً لأسباب تذكرها كتب التاريخ، أجبرت العرب على الاستنجاد والاستجارة بالانجليز “الكفّار” بهدف التخلّص من دولة الخلافة التركيّة العثمانيّة. وإذا جاز إطلاق وصف “الفتح” على التمدد العثماني في البلدان العربيّة والإسلاميّة والسيطرة عليها، فهذا يعني أن تلك البلدان كانت دار كفر وإلحاد ووثنيّة وفسق وفجور، وأتى العثمانيون الأتقياء المخلّصون البررة كي يخرجوا العرب من ظلمات الجاهليّة إلى أنوار الإسلام! ولكن هذا الافتراض مناقض للمنطق والعقل ومعطيات التاريخ العربي والعثماني أيضاً. 

ومع سياسات التتريك والقهر والصهر والتجهيل والتجويع للعرب وشعوب المنطقة في الحقبة العثمانيّة، يتضح التوصيف القانوني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي اللائق بالسلطة العثمانيّة على الشام والعراق والحجاز ومصر وبقيّة البلدان الأخرى. وبالمقارنة بين تركة “الفتوح” الحضاريّة العثمانيّة في العالم العربي على امتداد أربعة قرون، وما خلّفته من (نهضة وتنوير وعلوم وفنون وعمار)، بما خلّفه “الاحتلالان” الانجليزي والفرنسي لنفس المنطقة، من تخلّف وانحطاط وحضيض ودمار وخراب سياسي وعمراني في العالم العربي، لفهمنا حقيقة أو جوهر أو سرّ التبعية العمياء لجماعات الإخوان المسلمين والتيّارات الإسلاميّة السلفيّة والجهاديّة لتركيا، والرغبة الجامحة لتلك الجماعات في إعادة إحياء دولة الخلافة العثمانيّة و”فتوحها” الحميدة والمجيدة والجديدة لبلاد العرب، لكأنّ رجب طيب أردوغان وصحبهُ الأفاضل هم أحفاد عثمان بن عفان، وليسوا أحفاد عثمان بن أرطغرل!؟

حين أقارن الآن أداء “العثمانيين الجدد” بأداء العثمانيين القدامى، لجهة الصراع على السلطة، ربما يعيد التاريخ العثماني نفسه في صيغ دمويّة أخرى!

غنيٌّ عن البيان أنه لم تكد تمضي 5 سنوات على طيّ مصطفى كمال أتاتورك صفحة دولة الخلافة العثمانيّة، حتّى أعلن تنظيم الإخوان المسلمين عن نفسه ودعوته إلى العمل والجهاد من أجل إعادة “أمجاد” دولة الخلافة العتيدة التي أثبتت فشلها في الحقبة الأمويّة والعبّاسيّة وصولاً للعثمانيّة، وأطلق التنظيم شعاره “الإسلام هو الحل”، وما زال “يجاهد” في سبيل ذلك الشعار. ومع بدء مساعي جماعة الإخوان استرداد دولة الخلافة، بدأت تتشكل دولة العسكر والخليفة “العلماني” مصطفى كمال أتاتورك! ودخلت هذه الدولة الأتاتوركيّة في صراع دموي وفاشي مع أي توجّه إسلامي سياسي ديني، يسعى إلى قلب نظام الحكم الأتاتوركي (العلماني). وكان أوّل ضحايا هذا الصراع، عدنان مندريس، رئيس الوزراء الأسبق، الذي انقلبت عليه مجموعة من الضبّاط الكماليست الصغار، سنة 1960، وأعدموه. ثم أتى الدور على مؤسس الإسلام السياسي في تركيا، أو حسن البنا الأتراك؛ نجم الدين أربكان، الذي أطيح بحكومته الإئتلافيّة سنة 1997 في انقلاب أبيض. لكن عاد الإسلاميون للحكم سنة 2002، بعد الخروج من تحت عباءة “الخوجة” أربكان، وبدعم من “الخوجة” فتح الله غولن. وأيضاً، لم يكد يمضي عقد على حكم حزب “العدالة والتنمية” الإسلامي بزعامة رجب طيب اردوغان، حتّى أطاح الأخير بأصدقائه وحلفائه الواحد تلو الآخر. وأحد أبرز هؤلاء كان منظّر العثمانيّة الجديدة، والقيادي البارز في الحزب، ووزير الخارجيّة ورئيس الوزراء السابق، وصاحب كتاب “العمق الاستراتيجي” أحمد داوود أوغلو، الذي صار الآن خارج الحزب، وينتقد زعيمه السابق أردوغان، وعلى وشك إطلاق تنظيمه السياسي الإسلامي الجديد.

وبصرف النظر عن صحّة وصواب الانتقادات التي يوجهها داوود أوغلو لاردوغان وسياساته وأسلوبه في إدارة الحكم والدولة، حين أقارن الآن أداء “العثمانيين الجدد” بأداء العثمانيين القدامى، لجهة الصراع على السلطة، ربما يعيد التاريخ العثماني نفسه في صيغ دمويّة أخرى! أيضاً، حين أقارن بين التاريخ العثماني القديم والجديد، في ما يتعلّق بالموضوع الكردي أو المسألة الكرديّة، أجد أن العثمانيين القدامى ديمقراطيين وحداثويين وطنيين ومنفتحين على التنوّع والهويّات والخصوصيّات القوميّة، بخاصّة الكرديّة، أكثر بكثير من العثمانيين الجدد، أو من يقدّمون أنفسهم على أنهم عثمانيين جدد! ذلك أنه حين تحالف السلاجقة (الأتراك) مع الكرد سنة 1071 انتصروا على البيزنطيين في معركة “ملاذكرد” قرب منطقة “موش” في كردستان تركيا. كذلك لولا تحالف العثمانيون (الأتراك) مع الكرد، لما انتصروا على الصفويين الفرس في معركة “تشالدران” سنة 1514، قرب مدينة “وان” في كردستان تركيا. جرى ذلك، عقب الاتفاق بين الشيخ إدريس البدليسي الكردي والسلطان سليم ياووز الأول، كي يخوض الكرد الحرب إلى جانب العثمانيين ضد الصفويين. وعليه، في الحقبة العثمانيّة كانت هناك إمارات كرديّة، وليست إمارة واحدة، تحظى بالاستقلال الذاتي، ضمن حدود السلطنة، ويتزعمها باشا كردي، ليس كحال الولايات العربيّة في سوريا والعراق ومصر…الخ، التي كانت يتزعّمها باشاوات أتراك. وكلمة كردستان لم تكن ممنوعة حتى نهاية السلطنة العثمانيّة. بل أتاتورك نفسه، أثناء تجواله في المناطق الكرديّة مفتّشاً عامّاً على الجيوش العثمانيّة، كان يكتب في مراسلاته ويوميّاته أنه في كردستان!

العثمانيين القدامى ديمقراطيين وحداثويين وطنيين ومنفتحين على التنوّع والهويّات والخصوصيّات القوميّة، بخاصّة الكرديّة، أكثر بكثير من العثمانيين الجدد

عقبَ الانشقاق الذي حصل بين مصطفى كمال والباب العالي في اسطنبول، وتحوّل تركيا إلى حكومتين، في أنقرة برئاسة أتاتورك، والثانية في اسطنبول برئاسة السلطان والصدر الأعظم، كان لكل فريق مجموعة من الأكراد يساندوهما. أتاتورك وعدَ أكراده بأنه سيمنحهم حقوقهم، فور الانتهاء من الاحتلال الأجنبي لتركيا. وفريق السلطان العثماني، وعد أكراده بأنه مع حقوق الكرد، ووقّع على اتفاقية “سيفر” التي تنصّ على منح المناطق الكرديّة الاستقلال الذاتي. ولكن بعد أن استتب الأمر لأتاتورك، وأطاح بالسلطنة وباتفاقيّة “سيفر”؛ التقت نحو الكرد، وتنصّل من كل وعوده لهم، وبدأ سحقهم. وهكذا، أمجاد السلاجقة والعثمانيين القدامى والأتاتوركيين القدامى كانت على أجساد وجماجم الكرد. 

كذلك الرئيس التركي الحالي رجب طيب أردوغان، في بداية حكمه، اعترف بوجود قضيّة كرديّة في تركيا، وأنها قضيّة الديمقراطيّة، وسيحلّها بشكل سلمي، وطلب دعم الكرد في ذلك، وحصل أصوات مئات ألوف الكرد. والحق أنه خطى بعض الخطوات المهمّة في هذا الاتجاه، وفتح قنوات حوار مع حزب العمال الكردستاني، وقيادته في أوروبا، وقيادته في جبال قنديل، وإشراك زعيم الحزب المعتقل عبدالله أوجلان في الحوار. ولكن سرعان ما انتكست تلك الخطوات، وتراجعت إلى ما قبل المربّع الأوّل. ومع ذلك، يفتخر أردوغان وحزبهُ بأن له أكراده الذين يسبّحون بحمده، وهو الذي يرفض الاعتراف بوجودهم كشعب كردي ضمن الدستور التركي، رغم أن العثمانيين القدامى كانوا يعترفون بهم. كذلك أتاتورك في بداياته كان يعترف بالكرد ويعتبرهم حلفاء. حتى أن دستور سنة 1921 التركي، الذي يرفض الأتراك الكشف عنه، يعترف بالكرد وبحقهم في الحكم الذاتي ضمن الأراضي التركيّة. لكن أتاتورك أيضاً تنصّل من وعوده، وبدأ حربه الضروس على الكرد سنة 1925.

بالنظر إلى المشهد التركي حاليّاً ومستوى التطرّف والعنف الذي يتسيّده، نرى أنه ما عاد بالإمكان التمييز بين رجب طيب أردوغان وحليفه في الائتلاف الحكومي؛ دولت باخشلي؛ زعيم حزب الحركة القوميّة الأتاتوركي المتطرّف. بالتالي، يمكن القول: إن العثمانيين الجدد، يا ليتهم عثمانيون قدامى أولاً. وأن النسخة الجديدة من الأتاتوركيين ودولتهم الخفيّة الحاكمة في تركيا، باتت واضحة المعالم والأوصاف على أنها تزعم الإسلام والسلام، وتمارس نقيضهما. حاصل القول: العثمانيون الجدد، هم أتاتوركيون جدد. لا أكثر، ولا أقل.