fbpx

انقسامات اليسار التونسي تبدد حلم الوصول إلى السلطة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

واقع جديد يتشكل من دون حضور يذكر لقوى اليسار التونسي الذي أبعدته تصدعاته المتتالية وسوء تقديره حقيقة دائرة الحكم في تونس، لخمس سنوات مقبلة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تعيش تونس هذه الفترة على وقع تباطؤ الأحداث السياسية، في ظل استمرار السجال والفوضى داخل قبة البرلمان، لصعوبة الانسجام والتوافق بين التيارات الجديدة، التي دخلت المشهد السياسي إلى جانب أحزاب حافظت على حضورها بعد ثورة 14 يناير 2011. واقع جديد يتشكل من دون حضور يذكر لقوى اليسار التونسي الذي أبعدته تصدعاته المتتالية وسوء تقديره حقيقة دائرة الحكم في تونس، لخمس سنوات مقبلة. 

ومني اليسار التونسي بهزيمة قاسية في الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأخيرة، فقد حصل حمة الهمامي على0.7 في المئة فقط من الأصوات، بعدما نال في انتخابات 2014، 7.9 في المئة من الأصوات. في المقابل حصل المرشح الثاني منجي الرحوي على 0.1 في المئة. أما حصيلة الانتخابات التشريعية، فكانت مقعداً واحداً لـ”الجبهة الشعبية” (ائتلاف أحزاب اليسار التونسي) حصده الرحوي عن دائرة محافظة جندوبة.

لقد كانت نتيجة مروعة وصادمة لاعتبارات عدة، أهمها أن هذا التيار السياسي كان المرشح الأبرز لحكم البلاد بعد 14 كانون الثاني/ يناير 2011. فبعد الثورة اعتقد الجميع أن اليسار التونسي سيكون لاعباً محورياً في المرحلة الجديدة للبلاد وأنه سيكون الطرف الأجدر للقيادة. تصورات أملتها طبيعة ثورة 14 يناير التي لم تنطلق من المساجد، بل من أمام الجامعات والنقابات التي تشكل عادة المعاقل التاريخية لليسار التونسي، كما جاءت مطالبها المرتبطة بالتشغيل وتحقيق العدالة الاجتماعية والكرامة الوطنية يسارية الرؤية. هذا إلى جانب الحضور القوي لقيادات اليسار أصحاب التاريخ النضالي الكبير وتمسكهم بخيار المعارضة السلمية للدكتاتورية، على رغم ما تكبدوه من سجون وتعذيب في مقابل تيارات يمينية أثبتت محدودية خياراتها وفشلها اقتصادياً واجتماعياً في تونس منذ الاستقلال. 

لكن اليسار التونسي لم ينجح في توظيف هذه المكاسب وسارع إلى تبديدها تباعاً وفي ظرف زمني قياسي. في البداية، استفاق على صدمة انتخابات المجلس التأسيسي عام 2011، التي لم يحصد فيها سوى ثلاثة مقاعد من مجموع 217، فيما حاز الإسلاميون نصف المقاعد.

أربكت هذه النتائج اليسار التونسي ودفعته للتسليم بضرورة التوحد والانخراط داخل جسم سياسي يلملم شتاته، ويكون قادراً على مواجهة تغول الإسلاميين في تونس. قناعة أثمرت تشكيل إتلاف الجبهة الشعبية في تشرين الأول/ أكتوبر 2012 ضم 12 حزباً، أهمها الحزبان الأكثر تمثيلاً لليسار والأكثر اختلافاً، “حزب العمال الشيوعي التونسي” بزعامة الهمامي (أحد أبرز المعارضين الشيوعيين للرئيس المخلوع زين العابدين بن علي) و”حركة الوطنيين الديموقراطيين الموحد” (الوطد)، بزعامة الشهيد شكري بلعيد، إلى جانب أحزاب يسارية أخرى وقومية (بعثية وناصرية). أعاد هذا التنظيم الجديد أحزاب اليسار إلى واجهة الأحداث وأقحمهم بقوة في دائرة التحركات الاجتماعية والسياسية، بخاصة تلك التي شهدتها تونس خلال فترة حكم الترويكا. وتعزز حضوره في المشهد السياسي في انتخابات 2014 التي أسفرت عن حصول الجبهة على 15 مقعداً في مجلس النواب، ما أهلها لتشكل معارضة حقيقية فضلاً عن حصول مرشحها للرئاسة حمة الهمامي على المركز الثالث في سباق الرئاسة. 

مني اليسار التونسي بهزيمة قاسية في الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأخيرة، فقد حصل حمة الهمامي على0.7 في المئة فقط من الأصوات.

لكن انتعاشة انتخابات 2014 وعدد المقاعد التي منحها الشعب لليسار، لم تكن كافية لقبر مشكلاته التي استفحلت، وخرجت من بين الشقوق الصغيرة خلافات كبيرة بددت هذا المكسب ونسفت معها آمال التقدميين بتونس.

حاولت قيادات اليسار التونسي منذ 2014 التستر عن خلافاتها الداخلية وسعت إلى التقليل من أهميتها والظهور في ثوب التكتل المتماسك من دون العمل على إيجاد الحلول قبل استفحالها، لا سيما إشكاليات عملية التسيير داخل الجبهة والعقلية الدكتاتورية والمتصلبة للقيادات على حساب الشباب. وسقطت الجبهة الشعبية عن وعي في مطب تجاذبات محكومة بـ”الشخصنة” والتمسك بأدبيات قديمة تنتصر لسلطة القائد والرمز، أكثر من توجهها إلى فهم المتغيرات الراهنة. أمر جعل كثراً من المتابعين يعيبون على الجبهة غياب الديموقراطية الداخلية التي ساهمت برأيهم في تصدعاتها المتكررة وفشلها في تحديد هوية واضحة لها، تحدد ما إذا كانت عبارة عن حزب كبير تلتقي داخله عائلات فكرية متنوعة تتماهى، على رغم اختلافاتها أو ائتلاف سياسي يؤمن بحق الاختلاف مع الحفاظ على الحد الأدنى من التوافق السياسي والفكري.

وساهمت هذه الضبابية وعدم اتضاح ملامح الجبهة في تعميق الشرخ فبرزت الخلافات تباعاً، لكن الصدام العلني بين “حزب العمال الشيوعي” و”حزب الوطنيون الديموقراطيون” الموحد كانت القطرة التي أفاضت الكأس. إذ دخل الهمامي والرحوي في صراع محموم من أجل الترشح لمنصب رئاسة الجمهورية، على رغم عدم توفر المقومات اللازمة لإعلان هذه الرغبة. صراع أدى إلى تقسيم الجبهة بين تيارين استنفرا من أجل رهان منصب رئاسة الجمهورية محدود الصلاحيات، وتجاهلا رهان التشريعية، على رغم ثقلها في عملية الحكم في تونس، والتغاضي عن أن السلطات التنفيذية والقضائية تحتكرها رئاسة الحكومة وليست رئاسة الجمهورية. صراع كانت نتيجته كارثية على مستوى النتائج، وأظهر قيادات اليسار في صورة السائرين وراء إرضاء نرجسيتهم على حساب آمال القواعد.

أربكت هذه النتائج اليسار التونسي ودفعته للتسليم بضرورة التوحد والانخراط داخل جسم سياسي يلملم شتاته، ويكون قادراً على مواجهة تغول الإسلاميين في تونس.

وفي تعليقه عن هذه الخلافات التي عصفت باليسار التونسي يقول القيادي الشاب في “حزب الوطنيين الديموقراطيين الموحد” طارق شيباني إن الصراعات داخل الجبهة ليست وليدة الفترة الأخيرة، بقدر ما هي حصيلة تراكمات من الاختلافات الفكرية بين مختلف مكوناتها والأساليب غير الموفقة في التعاطي مع طبيعة المجتمع التونسي. طيلة السنوات الماضية، خضعت الجبهة الشعبية لثقافة حزب واحد (العمال الشيوعي) المتكون بشكل كبير من جيل من القيادات القديمة التي على رغم ثقل تجاربها وتاريخها النضالي، لم تجدد أفكارها بما يتلاءم مع المرحلة الراهنة. وأضر هذا الوضع بالأحزاب المنضوية تحت غطاء الجبهة التي لم تتطور هي الأخرى ولم تجدد هياكلها وبقيت أسيرة ترسبات قديمة وتقاليد الحزب الواحد، وهو ما لم ينسجم مع تطلعات “حزب الوطد” وخلق خلافات خاصة بين الحزبين.

ويضيف أن المعروف عن “الوطد” أن “أبناءه ينتمون إلى جيل جديد يؤمن بالاختلاف والتفكير والتجديد والتطوير ورفض البقاء رهن أفكار تجاوزها الزمن، لم تعد تنسجم مع مقتضيات المرحلة وطبيعة المجتمع التونسي. ولهذا وجدنا أنه من الأجدر بنا أن نسلك طريقنا الذي نعتقد أنه سيساهم في تعديل مسار اليسار التونسي على المدى المتوسط والبعيد، حتى لو خارج الجبهة”، مؤكداً أن “الوطد” سيكون قاطرة اليسار التونسي في المرحلة المقبلة وسيعيده للساحة السياسية بقوة.

مؤتمر لـ”حزب العمال الشيوعي التونسي”

ويرى عضو المكتب التنفيذي لـ”حزب العمال الشيوعي” ابراهيم ميلودي أن الانقسامات داخل الجبهة الشعبية التي ظهرت قبيل الانتخابات الرئاسية وسوء التسيير داخلها ساهما بقوة في هزيمة اليسار.

ويقول: “لقد ظهرت أحزاب اليسار التونسي متفرقة وغير قادرة على الالتفاف حول مرشح واحد للانتخابات الرئاسية، ما أدى إلى تشتيت أصوات الناخبين بين المرشحين من جهة وتراجع ثقة الكثيرين في هذه الأحزاب التي بدت لهم غير مدركة حجم المتغيرات في البلاد وتربص المنافسين. وبهذا أهدرنا عدداً كبيراً من الأصوات، لا سيما في الانتخابات التشريعية التي لم نستعد لها كما ينبغي، على رغم إدراكنا المسبق بأهميتها في عملية الحكم في البلاد في حين تم التركيز أكثر على منصب رئاسة الجمهورية، على رغم الصلاحيات المحدودة. لقد أساء الجميع التقدير باصطفافهم الأعمى وراء أسماء وزعامات بعينها، من دون وعي بحقيقة الرهانات وحجمها ومدى تأثيرها على الشعب الذي اختار السير وراء تيارات أخرى بدت أكثر التصاقاً بالواقع وأكثر تلاحماً وتنظيماً”. 

انتعاشة انتخابات 2014 وعدد المقاعد التي منحها الشعب لليسار، لم تكن كافية لقبر مشكلاته التي استفحلت.

ويضيف ميلودي: “من بين أسباب الهزيمة أيضاً هو تأجيل النظر في الخلافات بشأن قيادة عملية التسيير داخل ائتلاف الجبهة التي احتكرها حزب العمال منذ التأسيس، على رغم رغبة حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد والأحزاب القومية في تولي هذه المهمة. هذا التراخي في التعاطي مع هذا الملف صعد نسق الخلافات لتصل أقصاها في موعد الانتخابات الرئاسية، عندما تم ترشيح حمه الهمامي للمرة الثانية لذات المنصب، الأمر الذي بدا لبعض الأحزاب وبخاصة الوطد تكريساً لسلطة حزب بعينه وقيادات بعينها على حساب بقية الأحزاب المكونة للجبهة”.

وشدد على أن “احتكار القرار على مجلس الأمناء العامين المتكونين أساساً من قيادات كبيرة لها رصيدها النضالي وإقصاء القواعد بما فيها المجالس الجهوية، وعدم إشراكها في حسم قضايا عدة، أضعف أداء الجبهة”، معتبراً أن “هذا المجلس أساء التقدير وفشل في إيجاد الحلول اللازمة لملفات كانت سبباً مباشراً في نسف الجبهة وانقسامها”.

ويذكر أنه على المستوى التنظيمي يعتبر المجلس المركزي للجبهة الشعبية الذي يضم الأمناء العامين للأحزاب المنضوية تحت لوائها أعلى سلطة قرار في الجبهة. وتم تعيين الهمامي ناطقاً رسمياً باسم الجبهة منذ تأسيسها، لكنه لم يكن محل إجماع، لا سيما في السنوات الأخيرة، بخاصة بعد التصويت ليكون مرشح الجبهة للانتخابات الرئاسية. ولقي القرار معارضة الوطنيين الديموقراطيين الموحد الذين أعلنوا ترشيح الرحوي وهددوا بالانسلاخ عن الجبهة.

من جهة ثانية، الباحث والمختص في شؤون اليسار التونسي عبد الجليل بوقرة يرى أن الهزيمة المدوية لليسار تعود إلى خلافاته القديمة الجديدة والتي اختصر أسبابها بـ3 نقاط، الأولى أيديولوجية عقائدية، والثانية سياسية والثالثة صراع الأجيال.

ويقول لـ”درج” إن الخلاف الأيديولوجي العقائدي كان حاضراً دائماً نظراً إلى تنوع المدارس الفكرية التي تنتمي إليها أحزاب اليسار عموماً، وقد ظهر أساساً مع ميلاد اليسار الحديث في ستينات القرن الماضي واستمر هذا النوع من الخلاف حتى اليوم. أما الخلاف السياسي فهو متعلق أساساً بتضارب القراءات السياسية أو توافقها. مثلاً عام 2012 توحدت الرؤى بشأن تشكيل الجبهة الشعبية بعدما اتفقت القراءات بشأن الواقع المطروح آنذاك، ولكن بعد 4 سنوات تحديداً عام 2014، اختلفت القراءات مجدداً بين من يريد أن يكون في موقع المعارضة ولا يسعى للوصول إلى الحكم ولا يقدم برنامجاً، وبين أطراف تفكر وتعمل من أجل الوصول إلى الحكم، وهو ما أفرز اختلافات في السنوات اللاحقة التي أدت إلى انقسام الجبهة إلى مجموعتين. 

أما صراع الأجيال فيظهر منذ 2011 بين جيل قديم له تاريخ نضالي يستأثر بمناصب القيادة ويعتبر أن الجيل الشاب متهور وليست له الخبرة الكافية ليكون في الواجهة، وقادة هذا الرأي أساساً قيادات من حزب العمال الشيوعي، وبين جيل جديد طموح يرى أن الجيل السابق قد استنزف طاقاته ولم يعد له مكان في الواقع الراهن، بعد هزائمه وخساراته المتكررة ويريد أن يفرض نفسه، وهذا الرأي يمثله من هم أساساً عناصر الوطد، وهو ما ترجمته المعركة الأخيرة بين الهمامي وعبيد البريكي كممثلان عن الجيل القديم والرحوي كصوت للجيل الشاب.     

إن اليسار التونسي أضاع عن جهل وعن سوء تقدير للمتغيرات المتسارعة في البلاد فرصة ثمينة.

وانتقد بوقرة عدم قدرة اليسار التونسي على إدارة الخلافات وعدم قبول الاختلاف وغياب الديموقراطية داخله، واستفحال عقلية الالتزام بأفكار الزعامات وإدراج كل صوت معترض في خانة التخوين. ورأى أن استمرار غياب النضج داخل مختلف مكونات اليسار التونسي وعدم الوعي بأهمية الاختلاف ستلقي به في المزيد من الانقسامات وتقضي على آخر فرص التدارك.

وخلاصة القول إن اليسار التونسي أضاع عن جهل وعن سوء تقدير للمتغيرات المتسارعة في البلاد فرصة ثمينة، ليكون قوة سياسية فاعلة وسقط في مطبات متتالية أنهكته وشتته وأوقعت البلاد تحت سلطة أحزاب جديدة وأخرى قديمة على غرار الإسلاميين الذين أسعدهم خروج منافس قوي. لكن يبقى السؤال مطروحاً، هل سيكون في مقدور هذه الأحزاب التعافي وتكوين قوة يسارية جديدة تعلن نهاية جيل القيادات والمناضلين القديم وتؤسس لجيل جديد أكثر التصاقاً بالواقع؟