fbpx

تسقط حقوق الإنسان… الآخر!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“حَ تقول لي حقوق إنسان، حقوق نسناس، ماليش دعوة أنا، أنا ورايا مصالح بلد ودولة بدافع عنها”… ومثل السيجارة الخامدة مات الحوار وتحول إلى خطبة طويلة ألقاها الديبلوماسي.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

صيف 2005

في حفل غداء لنخبة عربية في نيويورك، وصل الحديث إلى برامج إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش ومعمعتها نشر الديموقراطية وحقوق الإنسان في العالم العربي. وأطفأ سفير دولة مهمة سيجارته من منتصفها وارتسمت على وجهه معالم غضب من الحوار الدائر، فصمت الجالسون وتنحنح بعضهم.

“حَ تقول لي حقوق إنسان، حقوق نسناس، ماليش دعوة أنا، أنا ورايا مصالح بلد ودولة بدافع عنها”. ومثل السيجارة الخامدة مات الحوار وتحول إلى خطبة طويلة ألقاها الديبلوماسي الذي انطلق بصدق وهمة يعرض دهاليز التفكير العربي والأميركي الرسمي، وما يحصل في اجتماعات توالت بعد تفجيرات 11 أيلول/ سبتمبر 2001.

ربيع 2015

تذكرت ذلك السفير عندما شاهدت برنامجاً تلفزيونياً ارتكب فيه المذيع خطيئة مهنية باستضافة والد مكلوم في حالة حداد وتركه يفقد صوابه على الهواء. الرجل كان فقد ابنه برصاصات جماعة جهادية مسلحة، وتحدث بحرقة على الهاتف بينما في الاستوديو جلس أشخاص كانوا يتحدثون عن عقوبة الإعدام ومنهم من يعارضها من منطلق حقوقي. وصرخ الأب على الهواء لوعةً على فقد ابنه الجندي في سيناء:

“عيالنا اللي ماتوا في العريش ما لقوش حقوق الإنسان بتاعتك… لو عايز حقوق الإنسان لازم تجيب حقوق ولادنا… ولاد الناس الغلابة… احنا قلبنا محروق… الولاد اللي قتلوا عيالنا ما اتعدموش لغاية دلوقت وتقولي حقوق انسان… انسان ايه؟… اياك اشوف واحد يطلع على التلفزيون تاني ويقول إنسان…ادبحه والله .. يلعن كس أم الإنسان”.

وصرنا في خريف 2019 

قطاع واسع من البشر في دول ديموقراطية في السنوات القليلة الماضية صوّتوا لمصلحة سياسيين من أمثال ترامب وجونسون وأوربان ودوتيرتي وبولسانارو (في أميركا وبريطانيا والمجر والفلبين والبرازيل على الترتيب). 

الفارق بينهم هو أين نضع الخط الفاصل الذي يتساوى قبله البشر ولا يتساوون بعده؟

هؤلاء الساسة ومعظم مؤيديهم لديهم مشكلة عميقة مع فكرة أن البشر كلهم متساوون! والفارق بينهم هو أين نضع الخط الفاصل الذي يتساوى قبله البشر ولا يتساوون بعده؟ هل يكون الخط هو خط الجنسية وبالتالي الأميركيون كلهم يستحقون معاملة قانونية وعادلة، بينما من هم على الطرف الآخر من السور وبخاصة من يحاول التسلل إلى الجنّة، لا يتساوى معنا؟ هل يكون الخط بين السكان البيض المحترمين والسكان الأصليين مثلما هي الحال في بلاد عدة في أميركا اللاتينية؟ هل يصير الخط بين المواطنين من أبناء وأحفاد وسلالة ناس عاشوا في تلك البلاد من عشرات (او مئات السنين) وبين هؤلاء المستجدّين على المواطنة الذين هم في أحسن الأحوال جيل ثانٍ أو ثالث، ولكنهم لم يندمجوا في الثقافة والحياة في أوروبا الغربية؟ أم يكون الخط بيننا نحن الذين يناضلون يومياً للحفاظ على حياة مريحة وكريمة ووظائف معقولة ثم ينهار كل هذا أمامنا لأن الآخرين، عمال أوروبا الشرقية أو غيرهم الذين يدخلون بلادنا بفعل عضويتنا في المجموعة الاوروبية أو عمال المكسيك، يحفرون تحت السلك أو يقفزون فوقه لدخول أراضينا ثم يقبل الملاعين كلهم أجوراً أقل بكثير. أم يظل الخط الفاصل متحركاً وزئبقياً طول الوقت؟ 

أين تبدأ حقوق الإنسان؟ وأين تنتهي؟ ومن يقررها؟ ومن دون تفتيش في النيات والأزمات العاطفية فهذا بحق سؤال محير للسفير وللأب المكلوم ولمئات الملايين من مواطني دول متنوعة. ويبدو أن الإجابة عند عدد متزايد منهم ولأسباب معقدة هي أن هذه الحقوق تتوقف عند حدود الدولة القومية (إذا كانت ديموقراطية متجذرة) أو عند حدود طبقتهم أو عرقهم أو أبناء طائفتهم إذا كانوا في دول ليست المواطنة وحكم القانون المتساوي فيها، هما الإطار الصلب للحياة الاجتماعية. 

يبدو التحدي الأكبر أمام المدافعين عن حقوق الإنسان (والمجتمعين عادة تحت سقف منظمات أهلية لا تقوم على عضوية شعبية) هو فهم التطورات السياسية والاجتماعية من حولهم والتي تهمش دورهم، وتفهم مصدر التعامل مع شكوك ولا مبالاة متزايدة في مجتمعات متنوعة، إزاء أفكار حقوق الإنسان ومبادئها.

كثيراً ما قال ثوار محبطون في بلدان عربية سابقاً إن “الناس لا يستحقون تضحياتنا وهذه شعوب تفضل العبودية”، وغير ذلك من السخافات والترهات التي تضلل خطواتنا أكثر مما تهديها إلى أي طريق، حتى لو كان الانسحاب الواعي. وراهناً، كرر معلقون يساريون محبطون اتهامات “للناس” بأنهم صوتوا ضد مصالحهم عندما حرموا “حزب العمال البريطاني” من عشرات المقاعد لينتصر المحافظون ورئيسهم جونسون. ما أبله النقد أيضاً عندما يفترض فقط أن مؤامرات سياسية يمينية – وهذه موجودة – هي التي أدت إلى نجاح بولسانارو ودوتيرتي في البرازيل والفليبين، بعد وعود انتخابية مفزعة، منها إطلاق النار في الشوارع على المشتبه في أنهم مهربو مخدرات (فعلها دوتيرتي بعدما وعد بها في حملات انتخابية).

أين تبدأ حقوق الإنسان؟ وأين تنتهي؟ ومن يقررها؟

يحتاج من يعتزمون مواصلة العمل من أجل حقوق إنسان كونية، أن يفهموا بشكل أفضل من أين يأتي الدعم الشعبي لمثل هؤلاء سياسيين ولسياسات كهذه. هذا المد الشعبوي يرتكز كما يبدو على مصالح مادية محددة وعلى مخاوف ثقافية معلنة. ويضيّق هذا المد تعريف “من نكون نحن” في مقابل “من يكونون هم” أو “نحن” ضد بقية البشرية. ويواجه ذلك المد منطق حقوق الإنسان الكونية بمنطق سيادة الديموقراطية المحلية، أو بعبارة أخرى فهو نظام يمكّن الأشخاص داخل المجتمع أو الدولة من تحديد كم من “الغرباء” وكيف يمكن أن يتمتعوا بحقوق المحليين/ المواطنين ذاتها. 

وسيحتاج المدافعون عن حقوق الإنسان في أنحاء العالم أن يتعاملوا بجدية على صعيد الضغط السياسي والخطاب العام مع هذا النظام الأخلاقي السيئ الذي لا يمنح البشر الميّزات ذاتها. وهو نظام سيئ، فمع استمراره سيقسم البشر حتى داخل الدولة والنطاق القانوني الواحد، إلى “هم” و”نحن”. وهذه الانقسامات يمكن أن تذهب نظرياً إلى ما لا نهاية وهي مدمرة بشكل مروع عندما تعمل أيضاً على المستويات الطائفية والمذهبية والدينية والعرقية كما صارت الحال في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.  

لم يعد ممكناً أو مجدياً في مواجهة هذا التآكل المستمر في شرعية حقوق الإنسان الكونية أن يحتج الواحد منا فقط بنصوص قانونية دولية ومحلية تكرس حقوق الإنسان واتهام السياسيين المخالفين بانتهاكها، لأن هذه القوانين وبخاصة المحلية منها تتغير وتُنتهك أحياناً بدعم (أو تواطئ أو صمت أو خوف) شعبي ومؤسسي كما يحدث حيال اللاجئين في المجر أو حيال المدنيين في سوريا وليبيا أو حيال المعارضين في مصر والسعودية أو حيال المشتبه في كونهم جهاديين مسلحين على يد القوات والطائرات الأميركية من دون طيار، وبالطبع هي حال الفلسطينيين في معازلهم المسوّرة تحت أعين جنود الاحتلال الإسرائيلي أو وكلائهم من مسؤولي الأمن الفلسطينيين. في هذه الأحوال لم تعد القوة القانونية للمعاهدات الدولية أو القوانين المحلية تجدي كثيراً.

في الماضي، اعتاد المدافعون عن حقوق الإنسان الادعاء بأنهم فوق السياسة بمعناها الضيق، وربما يجب أن يظلوا هكذا (بمعنى عدم دخول الانتخابات ومحاولة الوصول إلى السلطة)، ولكن هل حان الوقت ليشمر هؤلاء المدافعون أكمامهم (وسراويلهم) ويخوضوا وحل السياسة باعتبارهم جزءاً من مجتمعاتهم المحلية وبصفتهم هذه أولاً، قبل كونهم مدافعين عن حقوق إنسان كونية، باتت مجتمعات عدة تشعر بالغربة عنها، ولا تفهم مصطلحاتها ولا تأثيرها المباشر في حيواتها اليومية.

يحتاج من يعتزمون مواصلة العمل من أجل حقوق إنسان كونية، أن يفهموا بشكل أفضل من أين يأتي الدعم الشعبي لمثل هؤلاء سياسيين ولسياسات كهذه.

بات هذا الاغتراب عن مفاهيم حقوق الإنسان الكونية، يهدد منظومة حقوق الإنسان برمتها، بل صار يهدد قدرتنا جميعاً على الوصول إلى حلول لمشكلات اقتصادية وبيئية مستعصية، صارت تمثل خطراً داهماً علينا… ولن ينجو أحد من ذلك كله، وإن لجأ إلى جبل مرتفع أو اختبأ خلف حدود محصنة أو أبراج عالية، بعيداً من الإنسان الآخر!