fbpx

الانتفاضة اللبنانية ومسارات التغيير السياسي المستدام

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

الصراع على السلطة بين الطبقة القديمة والانتفاضة الصاعدة سيكون طويلاً ومريراً. وسيدوم سنوات، وليس أشهراً فقط.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

إن الانتفاضة الحالية التي عمت المناطق اللبنانية كلها، أهم تطور سياسي حصل في البلاد منذ نهاية الحرب الأهلية. ومن المفيد تفحص الاحتمالات السياسية التي نجحت هذه الصحوة في فتح أبوابها على المديين القصير والطويل. 

على المدى القصير، نجحت هذه الاحتجاجات، بقوة الضغط الشعبي، في إسقاط الحكومة الفاسدة والعاجزة. كما نجحت في اكتساب قوة ضغط لا يستهان بها، تخولها التأثير في رفض أي حكومة جديدة أو قبولها. وأجبرت السلطة الحاكمة على عدم تجاهل مطالبها الوطنية واضطرتها للتعامل معها. 

نحن في حقيقة الأمر نشهد ولادة لبنان جديد. 

على المدى الطويل، كان لهذه الانتفاضة أثر الثورة الاجتماعية والثقافية. بمعنى أنها ولّدت وعياً وإرادة وطنيين جديدين، وصهرت جيلاً من المواطنين في بوتقة وحدة وطنية، ورفعت منسوب الوعي المدني لديهم، ومكنتهم من التأثير المباشر في الشؤون العامة. بهذا المعنى، تشبه هذه الانتفاضة في بعض وجوهها، ظروف ستينات القرن الماضي في لبنان، عندما قاد الجيل الجديد يومذاك حركة التغيير، رافضاً النظام والقيم التي كانت سائدة لعقود، ومفتتحاً مساراً جديداً في الحياة العامة. 

وبصرف النظر عن لعبة سقوط الحكومات وتشكيلها في الأشهر المقبلة، فإن ما يحدث في لبنان، ليس أقل من افتتاح مسيرة تغيير الهوية المدنية لجيل كامل، واستبدال القيم البائدة بقيم جديدة. 

نحن في حقيقة الأمر نشهد ولادة لبنان جديد. 

مسارات الثورة  

تؤشر هذه الانتفاضة إلى مسارين مهمين يجب الانتباه إلى مفاعيلهما: المسار الاجتماعي- الثقافي، إذ نشهد تغييراً عميقاً وطويل الأجل يتشكل بين المواطنين بعيداً من السلطة الحاكمة. والمسار السياسي الصرف المتعلق بتشكيل الحكومات وإسقاطها واختيار المسؤولين أو انتخابهم لشغل المناصب، والسياسات التي سيعتمدونها.  

هذان المساران متصلان لكنهما أيضاً منفصلان في نواح معينة. هذه الثورة التي بدأت مسار تشكيل الهوية المدنية وقيمها، ما زالت في بداياتها الواعدة، ولم يعد ثمة الكثير الذي تستطيع أن تفعله الطبقة الحاكمة لوقفها أو عكس مسارها. وهذا يمكن اعتباره الإنجاز الأهم والأطول عمراً، ومن شأن آثاره أن تنعكس إيجاباً في لبنان لعقود مقبلة.  

المسار السياسي، على المدى القصير، حقق نتائج فورية ولكنه ما زال يعاني من صعوبات في التمظهر. تفتخر ثورة 2019 بأنها ثورة عفوية وشعبية، وأن الجميع مشارك وقيادي فيها في الوقت ذاته. وهناك ربما فوائد لهذا التنظيم “الأفقي” ولعدم المضي بتنظيم أكثر متانة، ولعدم اختيار ممثلين للحركة. ومن المفهوم أن هناك أصواتاً في الحراك تنبه من مخاطر المضي في تقديم ممثلين أو بدائل قيادية، وذلك خوفاً من الاستهداف أو الاستقطاب، أو خوفاً من انقسام الثورة على ذاتها. ولكن علينا ألا نبني مسار الثورة على المخاوف، بل على الثقة والطموح.

لهذا الخيار نقاط ضعفه. فالثورة لم تقترح حتى الآن ممثلين عنها ليترجموا قوة الشارع إلى نتائج تفصيلية في الحكومة الآتية، ولم يمضوا في بداية بلورة وصقل قيادات ليكونوا بديلاً عن القادة المتمركزين في السلطة حالياً. أما في الحكومة المقبلة، أو في الانتخابات النيابية التالية. فالثورة تطالب برحيل القادة الحاليين – “كلّن يعني كلّن” – من دون أن تقدم قيادات جديدة لتأخذ مكانها. إذا كنا جادين بالشعار، علينا أن نكون جادين أيضاً بالمسار؛ أي جادين باستبدال “كلن”. ومن الضروري أن أي “قيادات” نابعة من، أو مدعومة من، “الثورة” يجب أن تعتبر “ممثلاً” لا “قيادة”، فالسلطة والقرار العام يجب أن يبقيا مع الحراك والرأي العام، وعلينا أن نتنبه من خطورة الانزلاق إلى بناء زعامات جديدة.

تفتخر ثورة 2019 بأنها ثورة عفوية وشعبية، وأن الجميع مشارك وقيادي فيها في الوقت ذاته.

التجربة السودانية حديثا، والتجربة التونسية من قبلها، تدل على اهمية الربط بين ثلاث مستويات: الانتفاضة الشعبية على الشارع وشبكات التواصل الاجتماعي، المجتمع المدني بأشكاله ومؤسساته كلها، والمجال السياسي، حيث هناك حاجة للمواجهة أحياناً، أو التفاوض في أحيان اخرى، أو الدخول في تفاصيل تشكيل الحكومات وسياساتها، أو خوض الانتخابات.

والحق، أن الطبقة السياسية القديمة تستطيع أن تستمر في مقاومة التغيير لسنوات عدة مقبلة، حتى في ظل التغيرات الاجتماعية العميقة والسريعة التي تتوالى أمام ناظريها، إلا إذا اعتمدت استراتيجية واضحة لتثمير هذه الصحوة الوطنية وإنجاحها في إحداث تغييرات سياسية فاعلة ومستدامة. الصراع على السلطة بين الطبقة القديمة والانتفاضة الصاعدة سيكون طويلاً ومريراً. وسيدوم سنوات، وليس أشهراً فقط. فلا أحد يسلم السلطة طوعاً وعن طيب خاطر.

عناصر القوة

نستطيع تعيين ثلاثة ميادين لقياس القوة السياسية. الأول، هو السلطة على الحيز العام، والقدرة على تحريك مئات آلاف المواطنين إلى الشوارع والساحات، وابتداع سرديات جديدة وديناميات جديدة، وفرض إرادة الشعب بقوة الحراك والجموع الكبيرة. وهذا ما نجحت الانتفاضة الحالية في إثبات قدرتها على فعله. وسيكون هذا النجاح، على الأرجح، إحدى الوسائل المهمة لتحقيق التغيير السياسي في الأشهر المقبلة. وبطبيعة الحال، فإن التحدي، في هذا الميدان، يتمثل في بناء شبكة تحريك فاعلة وإدامتها، وبحسن استخدامها استراتيجياً، بحيث لا تفقد زخمها أو تؤدي إلى رد فعل شعبي معاكس، والحفاظ عليها كوسيلة للضغط السياسي لفترة طويلة.

الثاني، هو القدرة على استعادة مؤسسات المجتمع المدني. ومن نافل القول، إن الانتفاضة ولدت في كنف المجتمع المدني ومنظماته، وهي التي نظمت المتظاهرين وعبّأتهم وخاطبتهم. شبكات المجتمع المدني هذه يجب أن تستمر وتتوسع إلى أقصى حد ممكن، نحو مناطق البلد ومدنه كلها، لتتحول آجلاً إلى شبكة متجذرة وعصية على الاقتلاع. لكن المجتمع المدني يشمل أيضاً النقابات المهنية والاتحادات العمالية، وجمعيات الأعمال والجسم التعليمي والإعلامي، ومختلف الشبكات والتشكيلات التي تشغل المساحة الفاصلة بين الدولة والمجتمع. وقد نجحت الانتفاضة في تثبيت أول مواقعها في هذه المساحة من خلال فوز مرشحها بمنصب نقيب المحامين في بيروت. لكن الانتفاضة ما زالت بحاجة إلى تطوير استراتيجيتها وتنظيم حملاتها لاحتلال مواقع مؤثرة في هذه المساحة الوسطية، وبناء حضورها وتمتين قوة تأثيرها فيها. 

الميدان الثالث والأهم لبناء القوة السياسية يكمن في بنية الدولة نفسها. وفي النظام السياسي اللبناني، تتركز معظم عناصر القوة في البرلمان. وإلى أن تتمكن الانتفاضة من بناء حضور قوي فيه، فإننا سنستمر في التفاوض مع البرلمان المنتخب، على رغم الوهن الذي أصابه بفعل الانتفاضة.

إذا كانت الانتفاضة ستنتقل، بمرور الوقت، من مناشدة الطبقة الحاكمة للاستماع إلى مطالبها، إلى تعبئة المواطنين لإيصال ممثليها إلى السلطة وطرد الطبقة القديمة، فإنها ستحتاج إلى تطوير استراتيجية طويلة الأمد لخوض سباق الانتخابات البرلمانية والفوز فيها.

الانتخابات

الفوز بالانتخابات ليس مستعصياً، لكنه ليس بالأمر السهل. نجحت الكثير من الانتفاضات في العالم العربي في حشد الاحتجاجات على مستوى البلاد وإسقاط الحكام، لكنها فشلت في تحويل هذا الزخم الوطني إلى نجاحات في انتخابات مفتوحة. تبين أن إيصال الملايين إلى الساحات للمطالبة بإسقاط النظام يختلف عن ايصال الملايين إلى صناديق الاقتراع لاختيار أحزاب أو مرشحين معيّنين. ولئن كانت الطبقة الحاكمة الحالية تمر بفترة من ضمور شعبيتها، فإن هذا لا يعني أنها ستخسر الانتخابات المقبلة حكما وسيتم استبدالها. فضلاً عن أن سلوك المواطنين الانتخابي يختلف بشكل ملحوظ عن الأنماط العامة للاحتجاجات.

ويجدر بنا تسجيل نقطتين مهمتين على هذا الصعيد:

الأولى هي التحدي المتمثل في المشاركة الانتخابية: إن التحضير والتنظيم للتظاهر يختلف كثيراً عن التحضير والتنظيم لخوض انتخابات، والإقدام الشبابي على التظاهر قد لا يترجم تلقائياً إلى انخراط في التعبئة الانتخابية والقدوم بكثافة، وبحفظ الخط الموحّد، إلى صناديق الاقتراع.  

والثانية تتعلق بوجود جزء كبير من الناخبين الذين يدعمون الاحتجاجات، ومنهم من يشارك فيها، لكنهم لم يتخلوا كلياً عن روابطهم الانتخابية الطويلة الأمد مع الأحزاب والنواب الحاليين. وعملية كسبهم يجب أن تتم من خلال إقناعهم بأن الانتفاضة – أو أي منظمة سياسية أو حزب قد تتحول إليه – تقدم لهم بديلاً سياسياً مستداماً يستطيعون الاعتماد عليه، وتظهر لهم بوضوح أن المرشحين الذين تدعوهم إلى التصويت لهم، هم الخيار الأمثل والمعبر عن مصالحهم الآنية والمستقبلية في وقت واحد. 

عزم الانتفاضة على الانتقال من موقع من يطالب السلطة الحاكمة بتنفيذ مطالبها، إلى موقع من يخوض غمار العملية السياسية بشكل فعلي، يوجب عليها أن تطور نفسها نحو تشكيل حركة سياسية أكثر تحديدا وتنظيما. كما يوجب عليها أن تثبت موطئ قدم لها في أنحاء البلاد، وأن تنشئ منصة للإعلان عن خططها ومطالبها وتوجهاتها السياسية، وتفرز مجموعة جديدة من الممثلين عنها، يمكنهم المباشرة في العمل لمنافسة أعضاء البرلمان الحاليين وهزيمتهم في الانتخابات. 

قانون الانتخاب 

مسألة قانون الانتخاب الجديد هي مسألة وثيقة الصلة بما تقدم وبالغة الأهمية، وهناك نقاط كثيرة علينا إثارتها في سياقها. إنما وقبل الخوض في هذه المسألة، يجدر بنا التأكيد أن الحديث عن قانون الانتخاب لن ينفعنا، إن لم نكرس قدراً كبيراً من الجهد والطاقة والوقت والموارد، لإعداد حملة انتخابية قوية على مستوى البلاد، على مدار العام أو العامين المقبلين. وبعبارة أخرى، فإن إلحاح وأهمية التنظيم والإعداد الهائل والمكثف للانتخابات المقبلة، عوامل تمثل أولوية رئيسية. لا يوجد قانون انتخاب يخلق، بحد ذاته، منتصرين في صناديق الاقتراع. والنتيجة لن تكون مرضية، إذا لم نتمكن من إحضار مئات الآلاف من الناخبين إلى الصناديق، وما لم يكن لدينا مرشحون أقوياء للتغلب على أصحاب المناصب الأكثر خبرة. هذا النوع من الاستعداد هو الكفيل بأن يحقق ممثلو الانتفاضة الفوز في الانتخابات، بغض النظر عن القانون الذي سيتم اعتماده. 

ثانياً، هناك فخ تكتيكي، يجب الانتباه إليه، في الإصرار على قانون جديد كشرط لإجراء الانتخابات، وذلك أن السلطة الحالية مؤهلة للّعب بحرفة كبيرة في هذا المضمار. يمكنها أن تبدي دعمها لضرورة التوافق على قانون جديد، ومن ثم تطلق لجاناً وحوارات قد تمتد لسنوات طويلة، ما يمنحها السيطرة على توقيت الانتخابات. وقد حدث هذا الأمر في الأعوام السابقة، عندما تم تأجيل الانتخابات مرات عدة، بحجة عدم وجود اتفاق على قانون انتخاب جديد.

ثالثًا، إن التحاور في قانون الانتخاب أمر مهم وضروري. (أ) إن القانون الحالي ليس قانوناً مثالياً، بطبيعة الحال، ولكنه أدخل التمثيل النسبي الى الانتخابات لأول مرة في تاريخ لبنان، وهو مطلب إصلاحي أساسي، من قبل المجتمع المدني منذ اواسط التسعينات.  وعلى رغم نواقصه الكثيرة، فهو يفسح المجال لتحدي الطبقة السياسية عبر باب التمثيل النسبي، شرط أن تكون لوائح الثورة وقواعدها موحدة ومعبئة. (ب) إن القانون القائم يطبق النسبية في 15 دائرة انتخابية، ما يرفع عتبة الفوز ويشرذم المعارضة، إذا كان هناك مجال للتعديل من دون الوقوع في فخ التأجيل، فالتعديل الأساسي قد يكون لاعتماد المحافظات الست دوائر انتخابية، أو اعتماد لبنان دائرة انتخابية نسبية واحدة.

(ج) هناك بعض الدعوات لاعتماد قانون انتخاب محررا من القيد الطائفي، وهذا اقتراح وجيه وجدير بالدرس. الا انه يستلزم اما تطبيقه ضمن اتفاق الطائف، وذلك باستحداث مجلس شيوخ؛ أو الخروج على اتفاق الطائف وفي الحالتين، أظن أن الظروف الحالية لا تسهل تغييراً ميثاقياً كهذا، وتوسيع لائحة الشروط أمام إجراء الانتخابات قد يؤجل موعدها لسنوات عدة.

الصراع على السلطة بين الطبقة القديمة والانتفاضة الصاعدة سيكون طويلاً ومريراً. وسيدوم سنوات، وليس أشهراً فقط.

إن هدف الثورة يجب أن يضم إصراراً على إجراء انتخابات مبكرة – اي قبل عام 2022 – وربما في خريف 2020 أو ربيع 2021، وذلك للاستفادة من زخم الثورة وعدم إعطاء الطبقة السياسية 3 أعوام إضافية من الحكم. 

منحت انتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر لبنان واللبنانيين فرصة تاريخية لتغيير الطبقة الحاكمة والفاسدة والطائفية، وفتحت آفاق إحداث تغييرات سياسية عميقة ودائمة. هذه الفرصة غير ممكنة التحقق إن لم يتم اعتماد استراتيجية واضحة لمتابعتها، تترافق مع تخطيط جيد للخطوات اللازمة لتحقيق التغيير، والمثابرة في ملاحقة ما أنجز والبناء عليه. وغني عن القول، إن مثل هذه الفرص نادرة في حياة أي وطن، وعلينا الاستفادة منها ومواكبة التحولات التي تخلقها لتحقيق تغيير سياسي إيجابي ومستدام.