fbpx

“ماذا يعني أنكَ راقص…؟”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“يشتمني مثقفون وصحافيون ويشككون في رجولتي وينالون من عائلتي…” هكذا يروي الراقص التونسي رشدي بلقاسمي معاناته ومعاناة راقصين وراقصات كثيرين.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“أجدني مستهدفاً من بعض البرامج التلفزيونية والإذاعية، يشتمني مثقفون وصحافيون ويشككون في رجولتي وينالون من عائلتي، شأنهم في ذلك شأن كثيرين في المحيط التونسي الواسع”. هكذا يروي الراقص التونسي رشدي بلقاسمي معاناته ومعاناة راقصين وراقصات كثيرين، يجدون أنفسهم في مواجهة يومية مع مجتمع يحاربهم ويسيء إليهم، بسبب المهنة التي اختاروها وأصبحت حياتهم.

يواجه الرقص في المجتمعات العربية محاولات تهميش مستمرة، ويُستثنى في أحيان كثيرة من الفنون الأخرى كالسينما والمسرح والرسم وغيرها، ولا يحظى بما يستحقه من اهتمام وقبول رسمي وشعبي على حد السواء. وما زال محترفو الرقص العرب لا سيما الرجال يواجهون ردود فعل صادمة لمجرد الإفصاح عن ميولهم الفنية، ما يجعل طريقهم في غاية التعقيد. ولكن في السنوات الأخيرة، بدا الراقصون أكثر صموداً في وجه العراقيل وأشدّ إصراراً على المضي في كسر القوالب المجتمعية التي تدين الراقص وتقيّده.

بلقاسمي احترف منذ طفولته الرقص الشعبي التونسي “الربوخ”، وقد طرق أبوابه فعلياً بدراسة المسرح الذي صقل علاقته مع جسده وساعده على تمثل تصورات فكرية وفلسفية لرقصاته التي يقدمها على مسارح كبرى محلية وعالمية. وعلى رغم الضغوط والردود السلبية التي بلغت حد الإساءة لعائلته، إلا أنه تمسك بمسعاه لكسر الأفكار التي حصرت الرقص الشعبي التونسي بالنساء، على رغم بعض التجارب الرجالية الناجحة في سبعينات القرن الماضي وثمانيناته. 

يواجه الرقص في المجتمعات العربية محاولات تهميش مستمرة، ويُستثنى في أحيان كثيرة من الفنون الأخرى كالسينما والمسرح والرسم وغيرها.

يقول بلقاسمي لـ”درج”: “في البداية لم أكن لأكترث لما يقال لأن مهاجمتي ومحاولة النيل من شخصي مسألة متوقعة، ولكن عندما وجِّهت الإساءة لوالدي ووالدتي والذين أحبهم، لم يكن بوسعي تحمله وآلمني كثيراً ودفعني للدفاع بمزيد من الاستفزاز في أعمالي”. ووصلت حملات الاستهداف إلى دائرة السياسيين وتحديداً “حركة النهضة الإسلامية”. يروي بلقاسمي أنه في أحد العروض عام 2017 ولدى صعوده على الركح للرقص فوجئ ببعض نائبات الحركة وهن يغطين وجوههن كي لا يشاهدوه. يقول: “كنت أعرف من البداية أن هؤلاء سيرفضونني ولكن الأمر وصل إلى حد تحريك ماكيناتهم من أجل تحويلي إلى شيطان داخل المجتمع وخلق صورة مشوهة لا تشبهني وهذا موجع جداً. بت أشعر وكأن علي الرحيل عنهم لأنني لا أنتمي إليهم ولا أمثلهم وأعكس صورة سلبية عن المجتمع العربي بنظرهم. وهذا ما لم أتوقع مواجهته وأحاول تدريجياً التعايش معه”. 

وإزاء هذا الوضع يعيش بلقاسمي ويواصل الرقص على إيقاعين، الأول أوروبي أميركي يرحب به ويفتح له الأبواب، إذ يُدعى إلى تقديم عروض في مهرجانات ومسارح كبيرة ودور أوبرا ومتاحف، والإيقاع الثاني فضاء عربي يبذل جهوداً كبيرة لإقناعه بلا جدوى ما يفعله، على رغم ما حققه من نجاح، لا سيما في السنوات الأخيرة التي استطاع فيها اعتلاء مسارح كبيرة خصوصاً في تونس، أبرزها مسرح قرطاج الدولي الشهير. 

وروّض بلقاسمي نفسه على الصمت أمام الاستفزازات والاستهداف واختار الإجابة بعروض راقصة متنوعة استوحاها من الذاكرة الشعبية والفنية للبلاد، فجاءت أعماله ترجمة لحقبات تاريخية مهمة ومجموعات بعينها دون أن يحيد عن العلاقة المباشرة بالرقص. 

بلقاسمي احترف منذ طفولته الرقص الشعبي التونسي “الربوخ”، وقد طرق أبوابه فعلياً بدراسة المسرح الذي صقل علاقته مع جسده.

عرض “زوفري” (تعني بالعامية التونسية العربدة والصعلكة هي اشتقاق من الكلمة الفرنسية l’ouvrier) والذي لاقى نجاحاً كبيراً كان بمثابة محاولة للتجديد والنبش في رقصة عمال المصانع والموانئ التونسيين سابقاً، الذين كانوا يحررون أجسادهم بعد نهاية العمل على وقع “الربوخ” التونسي (موسيقى تجمع بين الزكرة والطبلة والدربوكة)، معبرين عما يسكن أعماقهم من رغبات غير مشبعة عاطفياً وجسدياً، وتوقهم لحياة أخرى أكثر إنصافاً وأقل تعباً ومشقة. في هذا العرض مثلاً تقمص الراقص حالة العمال فارتدى زيهم الموحد المسمى “الدنقري”، وسافر بالمتابع إلى عالم بعيد، في خطوة يقول إنها تهدف إلى إحياء تراث تم إهماله وتحية عرفان لأولئك العمال الذين أوجدوا من رحم أوجاعهم ذلك الجمال.

مصر والرقص

يعود تاريخ فن الرقص في مصر إلى زمن الفراعنة بحسب بعض القراءات التي ترجح أنه كان طقس دينياً أيضاً. وعلى رغم اقتحام الرقص بقية الفنون منذ عقود طويلة وحضوره بقوة، إلا أن النظرة الدونية ترافق الراقصين العرب المعاصرين في مجتمعاتهم وبيئاتهم. كما لم يمنع سطوع نجم راقصات مصريات، المجتمع من الاستمرار في إساءة تقدير فكرة امتهان الرقص، بخاصة بالنسبة إلى الرجال. 

محمد فؤاد راقص معاصر مصري محترف، كان يدرس المسرح عندما التحق بدورة تدريب مكثفة على الرقص في الجامعة الأميركية في بلاده، دامت شهراً ونصف شهر، جعلته يحسم قراره بأن هذا الفن سيكون طريقه، لكنه فوجئ بمطبات كثيرة جعلت طريقه غير سالكة لكنه تمسك بحلمه.

يقول فؤاد لـ”درج”: “عندما أنهيت التدريب أيقنت أنني أريد احتراف الرقص لكن وجدت أن فرصي على مستوى الدراسة والتدريب والتكوين ضعيفة في مصر، وأن الأمر يتطلب التحاقي بمعهد مختص في لندن وهو ما كان يفوق إمكاناتي المادية. بقيت 4 سنوات أتدرب بمفردي في البيت مستفيداً من بعض الدورات القصيرة التي تقام سنوياً، وأحاول تطبيقها بشكل فردي، حتى أتيحت لي فرصة لألتحق بفرقة دار الأوبرا المصرية التي لم أستمر فيها أكثر من ستة أشهر لضعف ما يقدم فيها ولوجود دورة تدريب مهمة مع مصممة رقص فرنسية انضممت إليها وكانت بوابتي للاحتراف”. 

ويضيف: “عندما بدأت الرقص، لم يكن الأمر مقلقاً في المجتمعات الأوروبية التي تقبلت أعمالي وكانت بوابتي الحقيقية للنجاح، الصعوبات الحقيقية كانت مع محيطي المصري بخاصة أنني من بيئة شعبية. ففي بعض الأحيان أُسأَل، ما هي مهنتك، وحين أقول إنني راقص، تكون الصدمة بما معناه، ماذا يعني أنك راقص؟ هذه الكلمة غير مألوفة بخاصة بالنسبة إلى الرجال في مصر، الكلمة المألوفة “رقاصة”. لذلك يتطلب الإفصاح عن مهنتي شرحاً طويلاً”. ويتابع: “في الحقيقة أنا أستسيغ هذه التقنية، تقنية الصدمة لأنها ترفع درجة فضول الطرف المقابل الذي قد يحاول حضور أحد عروضي، وتتاح لي فرصة تفسير ما أقوم به فأكسب شخصاً جديداً يفهم ما أقدمه”.

ومن الطرائف التي يستحضرها فؤاد أنه في فترة دراسته المسرحية في الإسكندرية حاول تقديم عروض راقصة ولكن لم يفهم أحد ما الذي يقوم به فأطلقوا على حركاته تسمية “دراما حركية” الأمر الذي أثار استغرابه وحاول إقناعهم أن لا وجود لهذه التسمية على الإطلاق. 

“في البداية لم أكن لأكترث لما يقال لأن مهاجمتي ومحاولة النيل من شخصي مسألة متوقعة، ولكن عندما وجِّهت الإساءة لوالدي ووالدتي والذين أحبهم، لم يكن بوسعي تحمله وآلمني كثيراً ودفعني للدفاع بمزيد من الاستفزاز في أعمالي”.

ما يواجهه فؤاد في مصر يطرح الكثير من التساؤلات بشأن تغيرات المجتمع الذي دأب على قبول عروض الرقص داخل السينما والمسرح والغناء ولكنه يأبى القبول بفكرة الراقص المستقل عن هذه الفضاءات. فالرقص في مصر كان لعقود طويلة حاضراً في افتتاح المهرجانات الكبرى، وطريقة الكثير من الساسة الذين دأبوا على تنظيم حفلات راقصة ترحيباً بضيوفهم. والأمثلة هنا كثيرة بخاصة في فترة حكم السادات، على غرار رقص الراقصة المصرية سهير زكي أمام الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون، عندما حضر إلى مصر في نهاية السبعينات. كما روت الراقصة نجوى فؤاد مشاركتها بدعوة من الشؤون المعنوية المصرية في سهرات خاصة وحفلات حضرها كيسنجر رئيس وزراء الاتحاد السوفياتي أليكسي كوسيجين وغيره من السياسيين. هذه المعطيات وغيرها تعمق الاستفهامات القائمة بشأن العلاقة الجدلية بين المجتمع المصري والرقص، كيف لهذا الفن أن يكون حاضراً بهذا القدم والزخم والكثافة في حياة هذا المجتمع وثقافته ولا يكون بمقدوره استيعاب محترفيه والتعاطي معهم كفنانين يغردون بأجسادهم، شأنهم في ذلك شأن المغنين والممثلين والرسامين؟ 

خلاصة القول إن المجتمعات العربية التي توارثت لأجيال عقدة الجسد واستبطنت الأفكار التي تدين تحرره بعناوين أخلاقية ودينية غاب عنها أن تمعن النظر حولها وتفهم أن الرقص هو الخطوات الغريزية الأولى التي ترافق أي موسيقى في هذا الكون، وأن الجسد الصغير قبل إقحامه في معجم “العيب” و”الحرام” ينساب طوعاً وتلقائياً نحو الحركة والرقص على أي إيقاع عابر، فالطبيعة الأولى قبل أدلجتها تميل إلى تحرير الجسد والرقص.