fbpx

“حولتُ اللغة العربية إلى هوية كردية”… سليم بركات واللغة بوصفها وطناً

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“وجدت أن اللغة العربية غنيَّة جداً، ويمكن التعبير بها عن خصوصيتي ككردي أكثر حتى من اللغة الكرديّة”… هذا ما قاله الشاعر والروائي سليم بركات.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ذكر سليم بركات، الشاعر والروائي الغزير الإنتاج شعراً وروايةً، في إحدى مقابلاته التلفزيونيّة القليلة: “كان ممكناً أن أكتب بالكرديّة مثلاً، لو كانت لدي موهبة أكثر مثل أقراني الأكراد الآخرين، تعلّموا اللغة الكرديَّة في المنفى، تعلّموها بإتقان. لكن ربما كان إحساسي إنه ما دمت قادراً على أن أعبّر بأيّ لغة عن نفسي، سواء أكانت هي اللغة لغة الأصل أم لا، أو اللغة الوافدة. وكون اللغة العربية بالنسبة لنا لم تكن لغة وافدة، بل لغة موجودة دينياً، وليست كاللغة الفرنسية جاءت إلى الجزائر، على الإطلاق، هي لغة الدين، هي لغة الفقه، لغة الشريعة… يعني لم أكن غريباً عليها. ثم وجدتها لغة غنيَّة جداً، يمكن التعبير بها عن خصوصيتي ككردي أكثر حتى من اللغة الكرديّة. كلما وجدت في لغة ما فضاء شاسعاً للتعبير عن نفسك كإنسان بالتأكيد تعبّر عن نفسك بطريقة أجمل وأقوى، وكانت اللغة العربيَّة من السعة ومن الثراء إلى درجة أستطيع أن أعبّر بها عن كرديتي، إلى الحد، لن أقول الحد الأقصى، وأبالغ، لكن إلى الحد الضروري للتعبير عن نفسي. حوَّلتُ اللغة العربيَّة معي إلى هويَّة كرديَّة”. وفق هذا المنظور والفهم والمخطط والاستراتيجيّة الكتابيّة، يمكن تناول تجربة بركات الإبداعيّة، بوصفه كاتباً كردياً يحاول التعبير عن نفسه وهمومه وخياله وآلامه ككائن كرديّ، بلغة عربيّة، شديدةِ الفصاحة والبلاغة، ومخاطبه في ذلك، القارئ العربيّ بالدرجة الأولى، والكردي الذي يقرأ بالعربيّة أيضاً. لكأنّ هذا الكاتب الكردي السوري، كائن تراثي عربي معاصر، لم ينحُ منحى المُلا الجزري في ما يتعلّق بدمج اللغات في قصيدة واحدة، أو في إطار عمارة شعريّة كرديّة صوفيّة، لكن بركات لديه صوفيّته الخاصّة بأن ألبس الحزن والألم والروح الكرديّة لبوساً لغويّاً عربيّاً شديدَ المهارة والدقّة والإتقان.

الشاعر والروائي سليم بركات

ومن ضمن إصدارته التي تزيد عن الخمسين، نجد أن عناوين كتبه التي تحتوي على أسماء الأمكنة قليلةٌ جدّاً، وهي: “هكذا أبعثر موسيسانا”، و”سبايا سنجار”، “السماء شاغرة فوق أورشليم”، وديوان “سوريا”. هذه القصيدة الملحميّة (147 صفحة من القطع المتوسّط. دار المدى/ 2015) لا تُذكر فيها كلمة سوريا، أو اسم منطقة أو مدينة أو قرية، موجودة في سوريا. ومع ذلك، عنوان القصيدة – الكتاب هو اسم بلد الشاعر الذي غادره عام 1972 ولم يعد إليه حتّى لحظة صدور القصيدة في كتابة عام 2015. 43 سنة، ألّف فيها ما يزيد عن 50 كتاباً، من شعر ورواية، تناولت أحوال سوريا، بشكل مباشر أو غير مباشر، إلاّ أنه خصص هذه القصيدة كوقفة تأمليّة حواريّة مع الذات والوطن لتدارس أحوال البلد، قبل الثورة على النظام الحاكم فيه، وبعد ذلك. وأتت لغة هذه القصيدة الملحميّة، من الطينة اللغويّة المعجميّة التي تميل إلى لغة كتب التراث أكثر من ميلها إلى شكل قصيدة النثر ولغتها، المعتمدين على السلاسة والوضوح. ويمكن القول إن قصيدة النثر عند بركات تراثيّة الميل والهوى المعجمي، منذ إطلاق ديوانه الأول. “كل داخلٍ سيهتف لأجلي…”، وحتّى هذه اللحظة، سواء في نصوصه الروائيّة أو الشعريّة، فهو إحياء وتوظيف السياقات اللغويّة التراثيّة، في بناء شعري حداثوي. ذلك أن قراءاته محصورة بمعظمها في كتب التراث، ما انعكس على أدائه الكتابي شعراً ونثراً، إذ نراه شديد الاندغام والاشتغال والانهماك في اللغة التراثيّة. قصيدته تجمع بين اللغة التراثيّة التقليديّة والمعجميّة، والشكل الحديث للقصيدة، متخذاً لنفسه أسلوباً خاصّاً، كأحد أشكال قصيدة النثر. ذلك أن اللغة “ليست وثيقة الصلة بثقافة الحاضر وثقافة الماضي فقط، وإنما تتصل أيضاً بثقافة الخيال أيضاً، أو أعمال الخيال التي تحكم قرارات الناس وأفعالهم تجاه المستقبل، بطريقة تفوق التصوّر”. وعن ذلك يقول بركات: “لم أتقيّد بأي مذهب (أدبي) على الإطلاق. تقيّدتُ فقط بما يمليه عليّ خيالي وفهمي لإعادة صياغة العالم في الكتابة. وغربتي الوحيدة ستكون ذات يوم، إذا أحسست بالغربة، عندما أفشل في الكتابة”.

لا تسألوني الضبطَ مُتقناً كالربطِ متقناً بعد الآن. الأعالي مُخيّلةٌ مزّقت صُدرتها، والأسافلُ مخيّلةٌ كالانحناء الخبِلِ لا ترتجى بعد الآن“.

يبدأ بركات نصّه بـ”لا” الناهية الجازمة، موجّهاً كلامه لنا/ لهم، والتحذير، وربما التهديد أيضاً، على أنه يرفض المساءلة من الآن فصاعداً، على متونهِ إذا كانت مشوبةً بالخلل والاعتلال، وعدم الضبط المتقن، كالربطِ المتقن. ويعزو رفضه ذاك، أو يسعى إلى تبريره بأن الأعالي مخيّلةٌ، من هول الواقع الذي ما عاد بالإمكان أن يحيط به الوصفُ، لم تستنفد طاقتها وحسب، بل مزّقت صدرتها عجزاً واحتجاجاً وفزعاً. كذلك الأسافل – السفلة، من هول الحضيض والانحطاط المروّع، ما يقف عنده الخيال بهبلٍ وخبلٍ فظيع. وعليه، يريد بركات بهذا المدخل التحذيري، تأكيد أن عدمَ الضبط المتقن كالربط المتقن في نصّه، ليس هو السبب فيه، بل الواقع المرير الذي تعيشه البلاد. ثم يزيدُ في شرح حال عجزهِ واستنفاده الطاقة على المواصلة، وشرح أحوال السماء، بالقول: “ركبتايَ خارتا، والسماء خارت. السماءُ يصلحها الغزاة. السماءُ العطلُ. السماءُ الوزرةُ بالدم عليها من شلشلهِ. السماءُ شدو الجنونِ البلبلِ، ورقصُ البلبلِ فوقَ ذيلِ التنينِ. السماءُ الركلُ من معتقدٍ إلى معتقد“. وأثناء وصفه حال السماء على أنها خائرة، كالوزرة الملطخة بالدم المنسكب تتابعاً، وأنها العطل، والغزاةُ يصلحونها لمصلحتهم، وليس لمصلحة الضحايا. ما يعني أنها أصبحت ملكاً للغزاة. وهذه السماء التي لطالما استنجد بها السوريون في مواجهة آلة الفتك والهتك والقتل والدمار التابعة لنظام الأسد، لن تستجيب لنداءات الاستغاثة. ثم يعاود بركات تشكيكه في السماء التي ينتقدها قائلاً: “لا دليلَ على السماءِ بعدُ. لا دليلَ على سلّمٍ إليها، أو نزولٍ منها بسلّمٍ إلى الإنسان، أيّها البلد“. وما على البلد إلاّ التوقّف عن الاستغاثة بشيء لا دليل على وجوده، ولا دليل على وجود السلّم الموصل إليه (الأديان والأنبياء)، ولا دليل على وجود سلّم نزل من السماء إلى الإنسان على الأرض، والمقصود به الوحي. وفي هذا التشكيك، هناك تناص خفيف، وخفي مع البيت المنسوب إلى يزيد بن معاوية؛ “لعبتْ هاشمُ بالملكِ فلا… خبرٌ جاء، ولا وحيٌ نزل“.

وبركات إذ يباشر الحديث عن سوريا البلد، يبدأ بالحديث عن نفسه، موجّهاً كلامه تارةً لنفسه، وتارة لأشياء أخرى، وفي أغلب الأحيان، يوجّه كلامه لسوريا، مخاطباً إيّاها بـ”أيّها البلد” وهي عبارة ترد بكثرة في القصيدة – الديوان: “فتقٌ في الروحِ ورتقٌ (…) ويل البلدِ الأكياس يجمعُ المخذول فيها ثيابهُ، وعنادهُ، وحناجرَ أولادهِ المنتزعة. (…) مزادُ الشرعِ عليكَ. مزادُ اليقينِ فيكَ. مزادُ المزاراتِ السطو، والمدافنِ السطو، أيّها البلد“. هذا السبك اللغوي المحكمُ، واضحٌ في سردهِ بؤس حال البلد وقاطنيه من النازحين المخذولين على أن المتبقي من البلد هو أكياس يحملون فيها ثيابهم وعنادهم وحناجر أطفالهم المنزوعة من أماكنها، في إشارة إلى نزع النظام السوري حنجرة منشدي المظاهرات السلميّة. ويعرض مآل الخراب في البلد والتكالب الدولي عليه، بقوله: “لا سوى الغريب وكيلاً في نقل المدن حطاماً إلى الآلهة الحطام. المآذنُ الدخيلةُ. القلوبُ الدخيلةُ. المستعمراتُ المراقدُ جوفاً، والفتاوى المستعمرات. السماءُ الدخيلةُ أيّها البلد. تلاسنُ الدول فوق رؤوس القتلى المنتصبين أيّها البلد. الذهبُ المنحورُ. الغيومُ المنحورةُ، أيّها البلد. محاكاةُ الطرق للمذابح. محاكاةُ القتلى للقتلى، والموتى للموت،/ والبساتين المهجورةِ للبساتين المهجورةِ./ محاكاةُ الدوي المذهلِ للشكران يرفعه العدمُ مضطرباً في التوضيحِ، أيّها البلد“. ففي الصفحة 19 وحدها تتكرر “أيّها البلد” سبع مرّات. ما يعني أن بركات، تارةً يحكي عن البلد للآخرين، وطوراً يحكي للبلد عن البلد، وتارة أخرى عن نفسه للبلد، وهكذا، في مونولوغ شعري، شديد التوتّر والشحن والاعتصار بالألم الداخلي، ما يشي بحالة اندماج بين الشاعر والبلد في النصّ. ذلك أن “أي خطاب شعري يؤسس كينونته في أرض اللغة، ويمارسها وفق استراتيجيات شعورية ولا شعورية من لدن الشاعر، حيث تتعدد هذه الاستراتيجيّات بتعدد أجزاء الجسد الشعري (…) والنصّ الشعري لا ينزلق إلى العالم بالسهولة التي نتصوّرها، أحياناً، إنما هو نتائج لعبة الاستراتيجيّات المذكورة التي تساهم في إنجاز هويّة النصّ وحدوده الفيزيائيّة، ووضعه قيد القراءة”. وهذا بيّنٌ في قصيدة سوريا.

“كانت اللغة العربيَّة من السعة ومن الثراء إلى درجة أستطيع أن أعبّر بها عن كرديتي إلى الحد الضروري للتعبير عن نفسي”.

في مطلع القصيدة، الصفحة 5، يرفض بركات المساءلة بقوله “لا تسألوني الضبطَ مُتقناً كالربطِ متقناً بعد الآن“. وفي نهاية القصيدة، في الصفحة 151 من الديوان، يكرر العبارة بطريقة أخرى، وفي ما يشبه إعادة إنتاج العبارة – السؤال، بالقول: “ألاَ لا أُسألنَّ الضبط كالربطِ متقناً بعد الآن“. 

كذلك يعبّر بركات في الصفحة 8 من الديوان عن خيبته ومرارته واستحالة عودته إلى ما كان عليه، ويرى أن الجبل الذي يفترض أن يكون صديقَ الكرديّ “لا أصدقاء للكرد سوى الجبال”، هو أيضاً تخلّى عن إخلاصهِ، فلا الجبل ولا الغابة، ولا الطرق الضيّقة أخوتهُ، ولا الصخور شقيقاته، ولا الفجرُ، كل ذلك؛ عاجزٌ عن إعادتهِ إلى ما كان عليه: “لا عافيةُ تُعيدني إلى ما كنتهُ./ لا إخلاصُ الجبل،/ لا الجبليُّ لجدّي الجبلُ،/ لا جدّتي الغابةُ،/ لا أخوتي الطرُقُ ضيّقة،/ لا شقيقاتي الصخورُ الصقيلةُ في مجاري الأنهار،/ لا فجر يعيدني إلى ما كنتهٌ./ لا خسران أو نصر،/ لا طريق تعيدني إلى ما كنتهُ“. وفي الصفحة 151، يكرر العبارات السابقة، في سياق يبدو شبيهاً بالسياق الأوّل، لكنه مختلف، وذلك بقوله: “ألا لن تُعيدني جدّتي الغابة إلى ما كنتهُ بعد الآن./ ألا لن يعيدني جدّي الجبلُ إلى ما كنتهُ بعد الآن./ لن يعيدني إخوتي الطرق الضيّقة إلى ما كنتهُ بعد الآن/ لن تعيدني شقيقاتي الصخور ثقيلةً في مجاري الأنهار إلى ما كنتهُ بعد الآن“. هذه الحيرة، ليست حيرة النادم على الذي حصل، بل حيرة التحوّل من كينونة إلى أخرى، تغيّرت فيها طبائع مفردات المكان التي كان يستعين بها الكائن – الشاعر، في ما مضى، أثناء إنتاجه ذاته وكينونته السابقة. وفي حالة وجدٍ وشوقٍ وتوقٍ ومنحٍ، يقول: “تنسّم أيّها البلد، قلبي. نسائم من فؤاد الهارب على الأمكنة. نسائم تهذي من تكرارِ الأرقامِ خصائصها الموجعة“.

ويستمر بركات في حالة التداعي والمعاتبات التي يعيشها في منفاه الاختياري، إذ يعاتب الكتابة، مبنى ومعنى، والرغبة في مخالفة الكلام مقاصدهُ، لكنه عاجز عن الهرب من المعنى، لانعدام الأنفاق تحت الكلمات التي تفضي إلى ذلك الهرب. ما يجعله يطالب البلد بمغادرة جغرافيّته وخرائطه، واعداً بأن يعينه على المغادرة. وإذا كانت المعاندة والمكابرة مريحة للبلد وترجيحه البقاء حيث هو في جحيم الألم والدم والخراب، إذاً فليستمرّ في عنادهِ، وليجرَّ البلدُ الشاعرَ إليه، لأن ركبتيه خرتا، والمصائر خارت: “لا أنفاقَ تحت الكلمات للهربِ من المعاني. لا أنفاقَ في الكلمات. (…) غادرِ البلدَ أيّها البلد. تشبّث بي مغادراً. أم العنادُ مريحٌ؟ عاندْ إذاً. جرّني وعاندْ. ركبتاي خارتا والمصائر خارت“. وأيضاً يزيد بركات في الشروح وتوصيف أحوال البلد، داخله وخارجه، على أن: “الممرّاتُ كُلُّها آمنةٌ إليكَ. ممرّات التعب الآمنة، وممرّات الخيبات الآمنة، وممرّات الجراح الآمنة، وممرّات المذابح الآمنة، وممرّات النزوح الآمنة، وممرّات الفتكةِ الآمنة، ممرّات الغزااااااااااااة آمنةٌ إليك. ممرّات الموت، آمنة، أيّها البلد“. ومع كل الألم والحزن والخيبة والشوق والعجز واليأس والحنين المتأجج والمحتشد في قصيدة سوريا، والحوارات الداخليّة في النصّ، وتعدد مستويات الخطاب وتنوّع المخاطب في القصيدة، إلاّ أن الشاعر في نهاية القصيدة، لا يجد بلداً بديلاً عن سوريا، أيّاً كانت أحواله وظروفه وكوارثه وتمزّقاته وحروبه وخرابه وثوراته وخيباته: “يالكَ إرثاً مِن نِعَمِ المُشكلِ، أيّها البلد. بلدي أنتَ، أيّها البلد“.

قصيدته تجمع بين اللغة التراثيّة التقليديّة والمعجميّة، والشكل الحديث للقصيدة، متخذاً لنفسه أسلوباً خاصّاً، كأحد أشكال قصيدة النثر.

هذا التسلّح بلغة الآخر العربي في التعبير عن الذات الكرديّة وأوجاعها، يصفه بركات في إحدى مقابلاته بالقول: “ذهبت في اتجاه شريك منعني عن اللغة الكرديَّة، ذهبت إليه متسامحاً بلغته التي هي اقتداري على تدبير حريتي في بلاغتها، وتدبيري هويتي في نبلها الأعمق مستغلاً استغلال العاشق تواطؤها (اللغة) مع أعماقي على تدبير المعنى الذي يستحقه كردي في الإشارة إلى دجاجات أمّه وتبغ أبيه”. ويؤكّد كينونته وهويّته وموطنه الموازي المجازي الذي يتحوّل في الكتابة إلى وطن حقيقي بقوله: “وطني الحقيقي هي لغتي. لا أستطيع أن أرى حدوداً أكثر منها، ولا علاقات أكبر منها، ولا حريَّة أكثر. أنا أعيش هناك، ومستقل هناك، ومالي جمهوريتي بقواعد الإعراب العربيَّة”.

ومع هذه التجربة الغنيّة والثرية والفريدة لسليم بركات في عالم الشعر والسرد، ثمّة ما يمكن تسجيله على ديوانه المذكور أعلاه (سوريا)، وعلى مجمل تجربتهِ الإبداعيّة. في ما يتعلّق بالديوان، يظهرُ التكرار في المفردات والتراكيب؛ متطابقةً ومحوّرة، حدَّ الاستنزاف والاستنفاد أيضاً. ويمكن للتكرار أن يكون مفيداً، يرفد النصّ بالطاقة الدلاليّة، والحركيّة اللغويّة. لكن التكرار إن فاض على النصّ، غلبهُ وأخلَّ به، وأحدث خللاً، يصعب ستره بتبريرٍ نقدي، يلتمس العذرَ لمهندس لغوي بارع من طينة بركات.

ولئن بركات، وبسحب الكثير من القراءات النقديّة، اتخذ لنفسه تقنيّة لغويّة تراثيّة صارمة، مشوبة بالتهجّم والتعالي عن السائد، مؤكّداً بصمته الواضحة والمميّزة في الأدب العربي، إلاّ أنه بات رهين هذه التقنيّة، إلى درجة أنه حين يكتب مقال رأي صحافي يتناول فيه شأناً سياسيّاً، يكتبه بذلك النفس المعجمي التراثي، على صعيد المفردات والتراكيب، الذي يكتب به نصوصه الشعريّة وسرديّاته الروائيّة. والحال هذه، ولئن الإبداع قوامه التجدد والابتكار في تقنيّات الكتابة، وليس الأفكار التي تنطوي عليها النصوص وحسب، فإن التكرار، ربما يهدد العمليّة الإبداعيّة في مقتل. كذلك، اللافت في معظم القراءات النقديّة التي تناولت أعمال بركات، أنها كانت، بشكل أو بآخر، على طرفي نقيض، إمّا مادحة ومنبهرة ومذهولة من هذا الفيض اللغوي الجمالي، أو ممتعضة أو نابذة هذا الغموض والالتباس المفرط والمتعب الذي يملي على القارئ جهوداً مضاعفة حتّى يلتقط مفاتيح نصوص بركات.

كقارئ، لا أجدُ نفسي إلاّ في المنطقة الوسط، بين هذين الفريقين، وأميل إلى ضرورة ذكر ما لتجربة بركات من إسهامات وإضافات إلى الأدب العربي، وما يمكن تسجيله على هذه التجربة من عثرات وهفوات. وربما خلق ترشّح إحدى رواياته إلى القائمة الطويلة لجائزة “البوكر” العربيّة، تلك الفرصة لتناول مجمل المنجز الإبداعي لسليم بركات كأحد أبرز الأسماء المهمة في الأدب العربي خلال العقود الخمسة الأخيرة.