fbpx

الولايات المتحدة تُرحِّل طالبي اللجوء عشوائياً إلى بلدان خطرة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لدى الولايات المتّحدة وبلدانٍ أخرى تاريخٌ طويلٌ وقاسٍ من محاولات صفق الأبواب أمام الشعوب التي لا يرغبون بها على أراضيها.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]


بدأت إدارة ترامب قبل عيد الشكر مباشرة تنفيذ واحدة من أغرب سياساتها وأشدها قسوة حتى الآن، وهي إرسال طالبي اللجوء المحتمَلين الذين يأتون عبر الحدود الأميركية – المكسيكية إلى غواتيمالا، متذرِّعة بما تسميه اتفاقية “دولة ثالثة آمنة”.

صاغت الولايات المتحدة اتفاقية الترحيل هذه مع غواتيمالا في سرية شديدة، وتسعى إلى توقيع اتفاقيات مماثلة مع حكومات بعض البلدان الصغيرة في أميركا الوسطى، مثل هندوراس والسلفادور وصولاً إلى المكسيك وبنما، إذا ما نجحت الولايات المتحدة في فرض إرادتها. تتمثّل فكرة الاتفاقية في أنه يجب على ملتمسي اللجوء تقديمَ طلب اللجوء -إلى أميركا- في البلد الأول الذي يمرّون عبر أراضيه وهم في طريقهم إليها. تتطابق هذه الاتفاقيات مع “لائحة دبلن” التي وضعها الاتحاد الأوروبي، والتي تشترط تجهيزَ طلبات لجوء المهاجرين في أول دولة عضو في الاتحاد الأوروبي يصلون إليها، وليس من قبيل المصادفة أن يُلقي كلاهما -أي أميركا والاتحاد الأوروبي- أعباءً ثقيلة على كاهل الدول الجنوبية الفقيرة المحيطة بهم.

غير أنّه، على عكس بلدان الملاذ الأول في الاتحاد الأوروبي، لا يوجد أيُّ أمان في المناطق التي يُرسِل إليها ترامب اللاجئين. فهي بلدان يفرُّ عدد كبير من الأشخاص منها بانتظام هرباً من العنف والفقر والاضطرابات في الأساس. ولكن الأمان ليس هو بيت القصيد هنا، ولم يكن يوماً كذلك، إذ إنّ الغرض من الاتفاقية هو أن يصبحَ من المستحيل فعلياً على أيّ شخص من دول أميركا اللاتينية طلبُ اللجوء في هذا البلد، وبالتالي تقليص الهجرة الشرعية إلى الولايات المتحدة لتصل إلى الحد الأدنى.

لدى الولايات المتّحدة وبلدانٍ أخرى تاريخٌ طويلٌ وقاسٍ من محاولات صفق الأبواب أمام الشعوب التي لا يرغبون بها على أراضيها، غيرَ عابئة بمصيرها. ولكن كان من المفترض، نظرياً، أن يتغير هذا الوضع بعد الحرب العالمية الثانية، بعدما توصّلت دول العالم إلى أنظمة وقوانين تضمن أنها ستؤدي دوراً أفضل في حماية أولئك المهدَّدين والمهجَّرين نتيجةَ الحروب. كانت الفكرة بسيطة، وهي أنّ لكل فرد حقَّ التماس ملجأ في بلدان أخرى والتمتع به خلاصاً من الاضطهاد”، كما جاء في المادة الرابعة عشر من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، إضافةً إلى أنه لا تجوز إعادته إلى بلد قد يواجه فيه مثل هذا الاضطهاد. تكمُن المشكلة في أن كثيراً من الدول لا ترغب فعلياً في استقبال الضحايا والمضطهدين في العالم، خاصة إذا كانوا فقراء، ويزداد الأمر سوءاً إن كانت بشرتهم سوداء أو بنية (إذا كانوا من غير البِيض). لهذا ابتكرت تلك الدول حلولاً بديلة ومُواءمات غامضة -مثل اتفاقية الدولة الثالثة “الآمِنة” التي توصَّل إليها ترامب- لتجنّب المرتكزات القانونية التي وضعها المجتمع الدولي للتأكد من أن الأشخاص النازحين والمضطهدين وعديمي الجنسية لن يواجهوا الويلات التي واجهوها في النصف الأول من القرن العشرين.

صاغت الولايات المتحدة اتفاقية الترحيل هذه مع غواتيمالا في سرية شديدة.

ولعلّ من غير المستغرب أن تكون الولايات المتحدة ماهرة في ريادة مثل هذا التحايُل على التزاماتها الدولية والتملّص منها. وهناك عشرات الأمثلة التي يمكن ذكرها، لكن الحادثة التي لا تزال مدوِّية هي قرار إدارة جورج بوش الأب، تحويل قاعدة خليج غوانتانامو البحرية إلى سجن للذين يلتمسون اللجوء من سكّان هاييتي -وكان كثر منهم مصابين بفيروس الإيدز- بدلاً من السماح لهم بتقديم طلباتهم هناك. كانت هذه أول محاولة صارخة للتهرب من التزامات الولايات المتحدة المتعلقة باللجوء، وإشارة بسيطة إلى ما كان العالم مُقبِلاً عليه.

فاليومَ ترسل أستراليا المهاجرين إلى جزر تستأجرها من دولٍ أخرى (مستقلّةٍ ظاهرياً)، مثل جمهورية ناورو وبابوا غينيا الجديدة، من أجل غاية وحيدة، وهي الاحتجاز الجماعي. ويبرم الاتحاد الأوروبي صفقاتٍ تُكلفه ملايين اليوروهات مع خفر السواحل الليبي وميليشياته العنيفة لمنع المهاجرين من اجتياز البحر المتوسط إلى أوروبا. وفي الفترة بين عام 2015 ومطلع عام 2018، رحَّلَت إسرائيل 1700 ملتمسِ لجوءٍ إريتريين وسودانيين إلى أوغندا، في خطوة وصفتها “منظمة العفو الدولية” بأنها وسيلة تتبعها إسرائيل “للتخلي عن مسؤوليتها تجاه اللاجئين وملتمسي اللجوء الخاضعين لولايتها، وإلقاء هذا العبء على عاتق دول أقل ثراءً تُؤوي عدداً أكبر من اللاجئين”.

إذا كان هناك ما يجمع بين هذه الأمثلة العدة بخلاف القسوة الجلية لها، فهي الطريقة التي يستغلون بها ثغرات فنية مبتكرة في النظام القانوني الدولي. تعكس هذه الأمثلة أيضاً وجود تيارات اجتماعية وجيوسياسية ضخمة قادت مجتمعاتنا بشكل كبير نحو العولمة والفردية والتركيز على الأوضاع المالية.

على عكس بلدان الملاذ الأول في الاتحاد الأوروبي، لا يوجد أيُّ أمان في المناطق التي يُرسِل إليها ترامب اللاجئين.

لا يُرحّل هؤلاء الأشخاص بالضرورة إلى المناطق التي أتوا منها أو حتى إلى أماكن محددة يملكون فيها فرصة البدء من جديد بصحبة أشخاص آخرين من مجتمعهم؛ بل يلقى بهم في دول ربما لم يسمعوا عنها من قبل وبصحبة أشخاص ربما لم يلتقوا بهم يوماً فضلاً عن مشكلة اللغة.

يشير هذا إلى النظرة التي يتبناها سياسيو واشنطن تجاه دول مثل هندوراس وغواتيمالا وكيف يعتقدون أن لا فارق بينهم. الفرضية تتعامل مع أهل بلدان وسط أميركا وجنوبها وكأنهم متماثلين، لذا ليست هناك أهمية كبيرة لماهية “المستنقع” -على حد قول الرئيس الأميركي ترامب- الذي يُبعث بهم إليه.

علاوة على ذلك، يجعل هذا الوضع من هذه المناطق ذات السيادة مجرد ورق لعب: إذ تملك الدول القوية القدرة على لي أذرع الدول الأضعف، لتجد نفسها مجبرة على فعل أشياء كانت تفضل تجنب القيام بها. كأن تجبر الولايات المتحدة دول مثل هندوراس والسلفادور على الوفاء بالتزاماتها الدولية، ولا تملك تلك الدول الموارد أو النفوذ الكافي للرفض.

المثال الأجلى الذي صادفته بهذا الخصوص يهوي بمستوى الترحيلات إلى دول العالم الثالث لما يشبه الخيال. فبينما كنت أُعِدُّ لكتابي The Cosmopolites، قابلت ناشطاً من دون جنسية أمضى الثلاثة عقود الأولى من حياته في إمارة عجمان بالإمارات العربية المتحدة. وكان قد ألقي القبض عليه وأودع السجن بعدما وقع على عريضة مسانِدة للديموقراطية أغضبت الحكومة الإماراتية، وبعدما “خُيِّر” بين أماكن عدّة، رُحِّل إلى تايلاند.

من غير المستغرب أن تكون الولايات المتحدة ماهرة في ريادة مثل هذا التحايُل على التزاماتها الدولية والتملّص منها.

وقتها افترضتُ أن هذا الرجل يمثل حالة شاذة، وقع فيها ضحية مجموعة من الظروف الغريبة التي يقتصر إمكان حدوثها على إحدى ممالك الخليج القمعية. لكني الآن لم أعد متأكدة. فإذا نجح ترامب في توسيع نطاق اتفاقيات “الأمن” -أم أنها مجرد “اتفاقات اعتباطية”؟- مع دول العالم الثالث بما يتعارض مع تحذيرات جمعيات حقوق الإنسان والمحامين الدوليين، فسوف يمثل هذا سابقة تقودنا لا محالة إلى المزيد من عمليات الترحيل.

سينتهي الأمر بالدول الفقيرة والضعيفة أن تستوعب الفقراء والبؤساء والمتعبين والذين بلا مأوى في هذا العالم فقط لأن هذه الدول تعرضت للتهديد أو الرشوة أو ببساطة أجبرت على فعل هذا. وبالتالي سينتهي المطاف بالأشخاص الذين يسعون للعيش في مكان آمن (لأسباب متعلقة بالسياسة أو الحروب أو التغير المناخي أو ظروف شخصية) في دول غير قادرة -وفي أغلب الأحيان غير راغبة- على منحهم الدعم الذي يحتاجونه للنجاة، ناهيك بعيش حياة جيدة.

ويرجع هذا لكون اتفاقيات إعادة التوطين هذه لم تنبع من الجهود الديبلوماسية أو النيات الحسنة أو المنطلقات الإنسانية أو نبل المقصد. لكنها نتيجة لخلل في توازن القوى الجيوسياسية والاقتصادية الذي يجعل من السيادة الوطنية مجرد مزحة.

وهو ما يجعل هذه الإجراءات مفتعلة وفاقدة الأهمية. دائماً ما يتحدث المدافعون عن الأيديولوجيات المعادية للأجانب والمهاجرين، من أمثال ستيف بانون وستيفن ميلر في أنحاء العالم، إلى جانب البيروقراطيين ورجال الدولة الذين يفتقرون إلى الخيال لاختلاق هراء عنصري خاص بهم، يتحدث هؤلاء باستمرار عن أهمية استعادة نظام عالمي صارم يسعى إلى الحفاظ على الحدود القوية والسيادة الوطنية، وينتصرون لسيطرة قومية الدولة على حساب التعددية والعولمة والتعاون الدولي.

لكن هذه النظرة للعالم الآخر لا تستحق الشجب فحسب، بل إنها زائفة أيضاً. وما تثبته هذه المناورات القانونية الدنيئة هو أن الحدود الوحيدة التي يأبه بها أولئك الرجال، هي حدودهم.

هذا المقال مترجم عن thenation.com ولقراءة الموضوع الأصلي زوروا الرابط التالي.