fbpx

هل تلغي العبقرية الجريمة الجنسية؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لم يخفِ الكاتب غابرييل ماتزنيف (83 سنة) يوماً شغفه بالمراهقات والمراهقين وعبّر عن ذلك مراراً في أعمدة الصحافة الفرنسية وفي حلقات تلفزيونية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لم تكن فانيسا سبرينغورا تعرف حتماً أنّ اختيارها اليوم الأول من السنة الجديدة لصدور كتابها “الموافقة” (le consentement) سيحدث ضجّة وردود فعل كبيرة في الوسط الأدبي الفرنسي، حدّ تحوّل الكتاب إلى قضيّة الإعلام الأولى واستعادته تلك الفترة من سبعينات القرن الماضي حين “تقدّم الأدب على الأخلاق وسقطت كل المحظورات” بعد ثورة أيار/ مايو 1968 الجنسية.


كتاب “الموافقة” للكاتبة فانيسا سبرينغورا

الكتاب الذي نشرته دار “لو غراسيه” يتحدّث عن العلاقة التي جمعت فانيسا بالكاتب غابرييل ماتزنيف في بداية الثمانينات، عندما كانت تبلغ 14 سنة فيما كان في الخمسين. تتنقّل سبرينغورا بين السرد والوصف شارحةً المعاناة والألم الذي تسبّبت به تلك العلاقة التي تصفها بـ”المتوحّشة” وتتذكّر كيف قدّم ماتزنيف نفسه كحريص على تكريس علاقة حب حقيقية يكتنزها الشغف.

لم يخفِ الكاتب غابرييل ماتزنيف (83 سنة) يوماً شغفه بالمراهقات والمراهقين وعبّر عن ذلك مراراً في أعمدة الصحافة الفرنسية وفي حلقات تلفزيونية، وربما أشهر البرنامج الذي كان يقدّمه بيرنار بيفو “أبوستروف” (Apostrophes) حين تحدّث الرجل عن كتابه الصادر آنذاك تحت عنوان “تحت السادسة عشر” وفيه يروي مغامراته العاطفية مع الصبيان والمراهقات الذين “استثاروه وزرعوا فيه ميلاً لم يجده في مجايليه”. وعندما استضافه بيفو مجدداً عام 1990 وسأله عن “اختصاصه بالصغيرات وطالبات المرحلة الثانوية”، تصدّت له الصحافية الكندية دونيز بومباردييه الموجودة في الاستديو. وقالت “إنني أشفق على السيد ماتزنيف. كلنا نعرف أنّ الصبايا الصغيرات يعجبن بنص أدبيّ لكاتب ذكي، بقدر ما يؤثر كبار السن بالأطفال عندما يقدّمون لهم قطعة حلوى!”.

لكنّ غابرييل ماتزنيف لم يكن مجرّد كاتب عادي يتحدّث عن الجنسانية وجوانبها بشكل صادم، بل كان إلى جانب مجموعة من الكتّاب كطوني دوڤير ورينيه شيرير، يدفع إلى “اكتشاف تلك القيمة المضافة في الحياة الجنسية” في العلاقات التي يقيمها مع المراهقين على حدّ تعبير ماتزنيف نفسه لدى تسلّمه جائزة رونودو الأدبية (Prix Renaudot) عام 2013.

تطرح ممارسات ماتزنيف وتصرّفاته السلوكية فرضيات عدة تجانب “الكلاسيك” الأدبي الذي ساد في فرنسا إبان “الثورة الجنسية”، تحديداً بعد “كسر تابو العلاقة الطبيعية” كما يصفها الناشط البارز في الجبهة المثلية للعمل الثوري (FHAR) غي هوكنغهيم إثر انتفاضة أيار 1968. وليس غريباً أن يجتمع شمل عشرات الراديكاليين اليساريين في تلك الفترة، كفرانسواز دوبون وكريستين ديلفي ودانييل غيران وهيلين هازيرا في جبهة للمثليين رفعت شعار “يا عمال العالم تداعبوا!”. وتلقّفت نجاحات الـGay liberation front في الولايات المتحدة الأميركية عبر بيان نشرته يومية Tout الماوية، ونتج عنه استدعاء الشرطة جان بول سارتر في اليوم التالي لصدور العدد.

الكتاب الذي نشرته دار “لو غراسيه” يتحدّث عن العلاقة التي جمعت فانيسا بالكاتب غابرييل ماتزنيف في بداية الثمانينات، عندما كانت تبلغ 14 سنة.

لكنّ فرضية كسر النمط العائلي والعلاقات الجنسية الكلاسيكية وذهاب القسم المؤيد لها إلى منتجة الجنس وتحويله إلى سلعة لا جمرك عليها، لم تمنع من البحث عن مكامن “الوحش” الخمسيني الذي يتصيّد “فريسة” في الخامسة عشرة. وهو ما يحيلنا إلى أولى الأبحاث الاجتماعية والنفسية التي أبصرت النور عام 1931، على يد الطبيب النفسي ريشارد ڤون كرافت أبينغ التي حملت عنوان “الاعتلال الجنسي” (psycopathia sexualis)، وفيه يشرح كرافت ابينع مفاهيم الميل الجنسي المعتلّ بتعريفه البيدوفيليا (التحرش الجنسي بالأطفال) والإيفبوفيليا (الانجذاب إلى المراهقين).

وإذا كان الجو المصاحب لسلوكيات ماتنزيف – الذي كان يرى نفسه سياسياً في بنى “اليمين الجديد” (nouvelle droite) – قد عزّزه قبول الإنتليجنسيا (طبقة من الأفراد المختصصين في الدراسة والعلم) الفرنسية في السبعينات وتبريره تلك الأفعال بتقديم العبقرية الأدبية على كلّ ما عداها، فإنّ مفكّري اليسار ساهموا بشكل أساسي في تمكين منحى تقبّل “البيدوفيليا” (apologie de la pédophilie) عبر العريضة التي وقّعها عشرات اليساريين تعبيراً عن تضامنهم مع ماتزنيف، تماثلاً مع مانيفستو الـ343 عام 1971، لإطلاق الحق في الإجهاض، ونشرته صحيفة “لوموند” واستعادته “ليبراسيون”، ووقّع عليه 69 شخصاً، من بينهم رولان بارت، جان بول سارتر، سيمون دوبوفوار، لويس أراغون، جيل دولوز، جاك لانغ، أندريه غلوكسمان وبرنار كوشنير.

لم يكن ماتنزيف كاتب عادي يتحدّث عن الجنسانية وجوانبها بشكل صادم، بل كان يدفع إلى “اكتشاف تلك القيمة المضافة في الحياة الجنسية” في العلاقات التي يقيمها مع المراهقين.

وقد استتبعت عريضة “لوموند” بدعوة مماثلة أطلقها ميشال فوكو وجاك دريدا وفرانسوز دولتو ودوبوڤوار إلى منع تجريم العلاقات الجنسية مع الأطفال دون الـ15 سنة. اعتبر ذلك النصّ مؤسساً للحركة المؤيدة للبيدوفيليا التي بدأت تأخذ مساراً سياسياً في الكثير من الدول كهولندا حيث نجحت في فتح النقاش مجدداً حول السن القانونية، عبر “حزب العمال” والنائب ادوارد برونغرسما الذي تمت محاكمته مرتين بتهمة “اعتدائه جنسياً على مراهق يبلغ 16 سنة”.


الكاتب غابرييل ماتزنيف

على أنّ المسار الذي حكم فكرة التسامح أو تقبّل هذه التصرّفات والذي اتخذ شكل المساءلة السياسية – الجغرافية كحالة أندريه جيد وفانتازماته الاستعمارية وغابرييل ماتزنيف وغوايته فتيات مانيلا، بدأ الأفول مع قوننة تجريم البيدوفيليا وتقديمها كاعتداء وحشي يقوم به شخص قوي بحق شخص ضعيف. وكان لكتاب الباحثة والمؤرخة Anne-Claude Ambroise-Rendu عن تاريخ البيدوفيليا، الأثر البالغ على الخطوات التي انتهجتها الحكومة الفرنسية منذ بداية الألفية الجديدة – على رغم إصرارها حتى الآن على تحييد الجانب العبقري لمن تم تجريمهم – والتي عبّر عنها وزير الثقافة فرانك ريستر أحسن تعبير عندما سُئل عن موقفه من قضية ماتزنيف: الجريمة لا تلغي عبقرية الفرد.