fbpx

عن الدولة العميقة والخفيّة في الجزائر: رواية “سلالم ترولار”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“أدركُ بأن مواطني المدينة لا يحتاجون إلى إجابات، بقدر حاجتهم رجل يوهمهم بأنه يمتلك تلك الإجابات”… هكذا قال الروائي الجزائري سمير قسيمي في روايتهُ.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“عزيزي، كيف أصف لك الأمر؟ لن نختلف في مسألة أنك تكتب بشكل مختلف. أسلوبك غريب، وقصصك أغرب. ولكن ما أرسلته لي، رغم جمال الفكرة، لا يرقى إلى أن يكون رواية. أعتذر أنني أواجهك بهذه الحقيقة. لقد فقدت موهبتك كلها. ولم يعد ما تكتب يصلح لأن يكون رواية (…) أرى أنك تضيّع ما أنجَزتَه سابقاً، لتخوض هذه التجارب من الكتابة المفككة. ما حاجتك لهذا الخيال كله؟ أنت تملك لغة جميلة وأسلوباً مدهشاً. والأهم أن لديك قرّاء في العالم كلهم متشوّقون لقراءة جديدك” (ص14). بهذه اللغة الناقدة الجارحة، يفاتح الروائي الجزائري سمير قسيمي قرّاء روايتهُ “سلالم ترولار” عبر رسالة ناقمة وجّهها ناشر إلى أحدّ كتّابه ومؤلّفيه، والتي لا تشي فقط برفض مخطوط الكاتب على أنه رواية وحسب، بل يتعدّى ذلك إلى النيل من موهبة المؤلّف أيضاً. ثم نعرف من خلال رسالة الردّ أن الكاتب المعني برسالة التقريع تلك هو نفسه الروائي قسيمي الذي يرد على الناشر برسالة قصيرة يعتب فيها عليه، ليس على أسلوبه المتعالي والجارح، بل لأنه لم يردّ على رسائله، ولا على اتصالاته الهاتفيّة. كذلك يتضح من الردّ أن قسيمي أرسل إلى ناشره نصّاً روائيّاً سيعجبه، وسيجعله يغيّر وجهة نظره من المؤلّف. ومن التوقيع يظهر أن قسيمي يسكن حي ترولار في الجزائر العاصمة. وعليه، الصفحات التي تلي رسالة الناشر وردّ المؤلّف عليه، هي متن النصّ الروائي المُرسل إلى الناشر، “سلالم ترولار”، والمقتطفات الواردة في الصفحات (9، 11، 13، 14، 15) هي بمثابة مقدّمات أو تمهيدات لدخول فصول الرواية السبع. ومن الصفحة 19 من الفصل الأول، تبدأ رحلة القارئ مع “سلالم ترولار”.

“سلالم ترولار”غلاف رواية

يبني قسيمي روايته على فكرة مفادها، تعرّض مدينة – دولة إلى ظاهرة غريبة مفاجئة، تخلق حالة من البلبلة والاختلال والفوضى والهلع والخروج على الأنظمة والقوانين، وتُحدِثُ تخبّطاً وارتباكاً في المجتمع والسلطة الحاكمة. هذه الظاهرة التي حدثت فجأةً واختفت فجأةً، غيّرت من طبائع البشر أيضاً مع تغيير أنماط معيشتهم وأفكارهم ونظرتهم إلى الوطن والهويّة والانتماء والحياة عموماً. وسبق لكتّاب معروفين أن عالجوا هكذا أفكار في أعمالهم كالروائي البرتغالي جوسيه ساراماغو في رواية “العمى”. ومع ذلك، طريقة قسيمي في إعادة إنتاج هذه الفكرة، كانت مبتكرة وجميلة ولافتة. وذلك حين تختفي الأبواب والنوافذ من المدينة فجأة، وتنكشف الحيوات على بعضها بعضاً، وتزول جوانب كبيرة من الخصوصيّة، والحدود بين الطبقات (الأسياد – الآلهة والعبيد)، ونشوء حالة الهلع والذعر التي انتابت الأسياد – الآلهة من تبعات هذه الظاهرة على مكانتهم ومقاماتهم وتهديدها إمساكهم مقاليد السلطة والحكم في البلاد. هذه الظاهرة التي تستمرّ فترة وجيزة، تخلق حالة من القلق والغليان والتوتّر، تجعل من أحد البوّابين المقعدين، كبير البوّابين، من ثمّ يتبوّأ منصب رئاسة الدولة أيضاً!

ومن خلال سرد قسيمي سير مجموعة قليلة الشخوص (الأبطال): جمال حميدي، ابراهيم بافولولو، موح بوخنة، أولغا، عصام كاشكاصي، الرجل الضئيل، الكاتب (رجل الشرفة) وإيلاغين، يسرد سيرة بلد ومجتمع وشعب ونظام حكم استبدادي في الجزائر. وعليه، الحبكة في “سلالم ترولار” لجهة تقاطع حيوات الأبطال ومصائرهم، كانت من المهارة والحرفيّة العالية المحفوفة بالمفاجآت، ما يجعل هذه الرواية تنطوي على التشويق في تتابع الأحداث وتقاطعاتها بشكل لافت. ونجاح قسيمي في بنائه الروائي لم يقتصر على خياله ومراسه في الكتابة الروائيّة وحسب، بل ساهمت في ذلك رشاقة لغته ووضوحها وسلاستها أيضاً.

بؤس الأحوال

الواقع المتردّي والمزري الذي فضحه اختفاء الأبواب والنوافذ فجأة، جعل المجتمع والسلطة في حفلة عري وافتضاح متبادل. وعبّر قسيمي عن ذلك في أمكان كثيرة من الرواية: “أدركَ بأن مواطني المدينة الدولة لا يحتاجون إلى إجابات، بقدر حاجتهم رجل يوهمهم بأنه يمتلك تلك الإجابات (ص64)”. كذلك خوف الطبقة السياسيّة الحاكمة من زوال الحدود بينها وبين الشعب، عبر اختفاء الأبواب والنوافذ، خلق زلزالاً من نوعٍ مختلف: “بدأت المدينة الدولة، تلك المسمّاة العاصمة، تعيش حالة فوضى من نوع آخر، لم يسلم منها أحد، بمن فيهم أنصاف الآلهة الذين عادةً ما يكتفون بالبقاء في أعالي المدينة، يراقبون من فوق ما يحدث في العالم السفلي. كانت هذه أوّل مرّة يشعرون فيها بالخوف… سرعان ما شلّ تفكيرهم وهم يرون ما يحدث حين تختفي أبوابهم المغلقة في كل حين (ص65)”. ويضيف قسيمي: “ما كان يخيفهم حقّاً هو اختفاء ذلك الخطّ الوهمي الذي يفصل عالمهم وعالم الأوغاد. وهو خطّ احتاجوا لرسمه إلى عقود من الوهم والدم والأكاذيب التي خلاصتها أنهم موجودون في مواقعهم فقط لأنهم مجبرون على البقاء، حبّاً في الشعب، وخوفاً على ثورته العظيمة التي صنعوها هم فقط لأجلهم (ص65)”. إلى جانب هذا وذاك، كشفت حالة الفوضى عن “فضائح ما كانت لتنكشف لو لم تختف الأبواب، على غرار ما نشرته الصحف عن رجال سياسة محترمين في أوضاع جنسيّة غريبة، ورجال دين صوّروا بملابس داخليّة للنساء، كانوا إلى وقت قريب يكفّرون المثليين، ويدعون إلى هدر دمائهم” (ص136).

الروائي الجزائري سمير قسيمي

إلى جانب هذا البؤس المتراكم والمتفاقم، حال المعارضة كانت أكثر بؤساً وانحطاطاً من حال السلطة. ذلك أن الفوضى التي شهدتها البلاد عقب اختفاء الأبواب والنوافذ، ما أفسح المجال أمام تكاثر الفصائل والميليشيات بشكل سرطاني، هذه الحال وضعت المواطن الجزائري أمام خيارين لا ثالث لهما، إمّا “سلطة لم يخترها يوماً” أو “معارضة تساند السلطة في كل شيء” (ص79).

نقذ الذات

فضلاً عن حالة المكاشفة الحادّة والصادمة التي أقدم عليها قسيمي في “سلالم ترولار”، والتي تعتبر من صنف المراجعات النقديّة للسلطة والمجتمع، كذلك هناك حالة نقديّة ذاتيّة لاذعة، تكاد تشبه جلد الذات، مارسها قسيمي على لسان بطله “الكاتب” بخاصّة في فقرة “الرسالة” التي كتبها الكاتب إلى زوجته من مارسيليا في فرنسا، أثناء وجوده هناك، واحتكاكه بالمجتمع الفرنسي، وإجرائه مقاربة بين الواقع الجزائري والواقع الفرنسي الذي كان يحتلّ الجزائر يوماً ما. ودفعت الجزائر مليون ونصف المليون شهيد حتّى تتحرر من فرنسا، وتفوز بالبؤس الذي تعيشهُ الآن. تلك الرسالة بقيت خمس سنوات عالقة، واتضح في ما بعد، أثناء الفوضى، أنها كانت في أحد مكاتب المخابرات الجزائريّة. 

يبني قسيمي روايته على فكرة مفادها، تعرّض مدينة – دولة إلى ظاهرة غريبة مفاجئة، تخلق حالة من البلبلة والاختلال والفوضى والهلع والخروج على الأنظمة والقوانين.

كذلك ينتقد قسيمي الإعلام الرسمي ومُذيعي التلفزيون الرسمي، بهندامهم وملابسهم الأنيقة، والأوهام التي غرسوها في رؤوس الناس إلى درجة التصديق، والقول: “نحن شعبٌ عظيم… تاريخٌ عظيم. ثورة كبيرة. مليون ونصف المليون شهيد. على الأقل، صدّقت هذا الهراء طويلاً، حتّى تمثّلتُني رجلاً خارقاً ومواطناً فوق العادة. أعتقد أنه كان إدماناً جماعيّاً. لم أكن وحدي. أعتقد أن الرجل الوسيم في نشرة الأخبار، كان يعرف الحقيقة” (ص97). ثم يضيف في وصف بلاده: “عمارات متسخة، وجود متعبة غير بشوشة. صناديق قمامة ممتلئة. شوارع قذرة. رجال شرطة مخيفون. سلطة تكذب كما نأكل الخبز. طوابير. متشرّدون. متسوّلون. بذاءة. حكومة مرتشية. برلمان سخيف (…) أحتاج إلى أي شيء يشبه الخدعة العظيمة التي أسمّيها وطناً” (ص99). ثم يزيد في المقارنة بين فرنسا – مارسيليا والجزائر بالقول: “هل تعرفين يا حبيبتي أن أرخص عاهرات مرسيليا من العرب؟ غريب أن تبقى قيمتنا هي نفسها حتى في العهر” (ص103).

الكاتب – الروائي

في فقرة “الكاتب” من الفصل الثاني والتي أخذت من الرواية تسع صفحات (ص 51-60)، تحدّث قسيمي عن بطله ككاتب “متهور ممعن في السمنة والقبح والغرور والوهم. (ص52)”. ويستمرّ في سرد حكاية بطله – كاتبه في أماكن أخرى في الرواية. ففي فقرة “الرسالة” من الفصل الرابع، أفرد له 17 صفحة متوالية (ص 88-105). عدا عن وجودهِ في الفصل الثالث (من الصفحة 67 ولغاية الصفحة 74). وكذلك أفرد قسيمي مساحة للكاتب في الفصل السابع أيضاً. زد على ما سلف كلُّه، أنه اختتم “سلالم ترولار” بلحظات عاشها الكاتب، حين انتهى هو أيضاً من كتابة روايتهِ، والقول: “كانت السادسة صباحاً، حين أغمض الكاتب عينيه، ليكون آخر ما يرى، شاشة حاسوبه مفتوحة على ما صنع بهجته، قبل أن يغطّ في النوم. قرأ وجفناه يُطبقان: 

(سمير قسيمي/ سلالم ترولار) ص 165″. ما يعني أن البطل الرئيس في “سلالم ترولار” لم يكن جمال حميدي، على رغم غزارة ورود اسمه ضمن الرواية، بل شخصيّة الكاتب، عبر حضوره في الفاتحة (رسالة الناشر وردّ قسيمي عليه)، وفي الخاتمة أيضاً.

هذه الطريقة في دمج قسيمي نفسه ضمن الرواية، كأحد أبطالها، لم تقتصر على ما سلف ذكره، بل تعدّت ذلك إلى حديث قسيمي عن بطله الكاتب على أنه ولد “قبل خمس وأربعين عاماً (ص 69)”. وإذا حذفنا 45 من تاريخ الانتهاء من “سلالم ترولار” وسنة طباعتها 2019، يظهر لدينا 1974، السنة التي ولد فيها سمير قسيمي نفسه. ولا يُفهم من هذا الكلام أن شخصيّة الكاتب هي نفسها شخصيّة سمير قسيمي، مئة في المئة، و”سلالم ترولار” هي سيرة ذاتيّة خالصة. لا طبعاً. ولكن الواضح أن الروائي اختار لنفسه مساحة لا بأس بها ضمن شخصيّة الكاتب في “سلالم ترولار”. وأمّا لماذا مارس قسيمي كل هذا السخط والجلد والتجريح الذي مارسه بحقّ الكاتب قائلاً إنه مسخ مدّعٍ وموهوم وعديم موهبة وفاشل…الخ، فلهذا المقام مقال آخر.

مشكلات تقنيّة

أكثر قسيمي من العتبات، حيث استخدم ثلاث مقولات على التوالي لكل من عمار بلحسن، عبدالحميد المهري وانطونيو غرامشي (ص9)، ثم ألحقها بمقولة رابعة لمالك حدّاد (ص11). كل ذلك، كاستهلال أو توطئة أو تمهيد أو عتبات… أو ما شابهها، قبل الدخول إلى متن “سلالم ترولار”. ولم أفهم، ما حاجة قسيمي وهو الكاتب المهمّ والمعروف إلى هكذا تقنيّة يفتتح بها روايته!

الواقع المتردّي والمزري الذي فضحه اختفاء الأبواب والنوافذ فجأة، جعل المجتمع والسلطة في حفلة عري وافتضاح متبادل.

كرر الكاتب اسم بطله (جمال حميدي) 85 مرّة على امتداد صفحات الرواية، وكرره، هكذا، الاسم والشهرة، في بعض الصفحات، ست مرّات (ص 146)، وخمس مرّات في الصفحة 147. إلى درجة اختلط عليه الأمر، فصار يسمّي بطله عصام كاشكاصي بـ”جمال كاشكاصي” مرّتين في الصفحة 153. وكان بإمكان الراوي استخدام اسم جمال أو الكنيّة، أو استخدام هاء الغائب التي تعود إلى جمال حميدي، بدلاً من هذا الإكثار والتكرار في ذكر الاسم على هذا النحو. الشيء ذاته حصل في ذكر اسم عصام كاشكاصي، وإبراهيم بوفولولو، إذ غالباً ما اقترن الاسم بالكنية في النصّ.

أيّاً يكن من أمر، ما اعتبره هفوات تقنيّة، لا تقلل من أهميّة “سلالم ترولار” (دار البرزج – الجزائر، ودار المتوسط – ميلانو 2019) كنصّ روائي هام ولافت ومنافس أيضاً. وربما خلاصة الخلاصات عن هذه الرواية أنها خطوة أدبيّة هامّة في اتجاه الكشف عن الدولة العميقة – الخفيّة في الجزائر، ومن صنف المراجعات النقديّة للكثير من المفاهيم والشعارات الراسخة في الأذهان كـ”الوطن”، “الثورة”، ونقد التفاخر بأوهام وخرافات الانتماء إلى البؤس على أنه الانتماء إلى المجد والعزّة الانتصار التاريخي العظيم.

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.