fbpx

سليماني وترامب وطحن البشر الفائضين

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

مقتل سليماني ليس سوى مشهد في صراع دموي من أجل رسم خريطة المنطقة المقبلة من حيث الحدود والموارد والدول الجديدة أو المناطق ذات الحكم الذاتي التي ستنشأ.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كان متوقعاً هذا الشعور بالتوتر الذي سرى وسط نخب سياسية واجتماعية في عواصم المشرق العربي، بعد مقتل جنرال الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني في غارة أميركية على مطار بغداد. لدينا في المنطقة الآن نخب متعبة متهالكة وصلت إلى نهاية مطاف ما وتقاوم الضغوط الشعبية عليها برطانات وشعارات قديمة، ثم بالحديد والدم، وبعض المال. هي نخب فرحت بمعظمها بمقتل سليماني، رغبة في إضعاف “العدو” في طهران، ثم خافت من رد فعل إيراني ضد أهداف نفطية من آبار وناقلات، أو ضد قواعد عسكرية غربية في بلدانها أو ضدها بالتحديد، ثم تنفست تلك النخب الصعداء عندما اقتصر رد الفعل حتى الآن على عشرات الصواريخ التي أطلقتها إيران على قاعدتي عين الأسد وأربيل العراقيتين حيث توجد قوات أميركية!

نخب محور الممانعة الممتد من طهران إلى غزة عبر بغداد ودمشق وبيروت أججت غضباً جماهيرياً، وشاركت في مراسم جنائزية حاشدة في مدن عدة، أو تظاهرات صغيرة ترفع صور “الفقيد” أو ترسلها تدور في فضاءات التواصل الاجتماعي، وهي صور يحتضن فيما الأمام الحسين الجنرال سليماني. لا تنضب قريحة الإسلاميين شيعة وسنة في استعمال رموز ونصوص واستشهادات دينية من أجل خدمة مطامعهم السياسية. وراح في إيران 50 قتيلاً دهساً في مراسم تشييع احتفالية لبقايا جثمان الجنرال، وهي مراسم لا شك في أن مؤسسات إيران الأمنية رعتها وخططت لها، لأنها حريصة على ضبط الشارع بعد تظاهرات شعبية كبيرة ومتكررة بسبب الأوضاع الاقتصادية المتردية العام الماضي.

يمكن تفهم مشاعر الغضب والمهانة عند جماهير تحس أنها مستباحة من أميركا وإسرائيل بغاراتها وقذائفها وغطرستها تجاه العراق وسوريا ولبنان واليمن وفلسطين، ولكن جماهير أكبر في تلك البلدان وغيرها في إيران والعراق ولبنان وجهت سهام غضبها وخيبة أملها في معظم 2019، ضد نخبها الحاكمة وسياساتها الفاشلة. وساهم محور الممانعة وفي قلبه رجال مثل سليماني بدور حيوي في قتل مئات آلاف الأبرياء في سوريا، ويخوض معارك استراتيجية من أجل مصالح طهران، التي لا تخجل فيها من عقد صفقات مع إسرائيل (الشيطان الأصغر) والتفاوض مع أميركا (الشيطان الأكبر) ومغازلة روسيا والتنسيق مع قطر. كان سليماني ترساً في آلة صراع دائرة إقليمياً على بسط النفوذ مع تركيا وإسرائيل في منطقة ينسحب منها الراعي الأميركي منذ الفترة الثانية لحكم الرئيس باراك أوباما في أوائل العقد بينما ما زالت أهداف الراعي الروسي مبهمة.

لدينا في المنطقة الآن نخب متعبة متهالكة وصلت إلى نهاية مطاف ما وتقاوم الضغوط الشعبية عليها برطانات وشعارات قديمة، ثم بالحديد والدم، وبعض المال.

وطوال أسبوع حبس البعض في نخب الممانعة وجماهيرها الغاضبة أنفاسهم تطلعاً إلى رد فعل إيراني ساحق. ديبلوماسيون غربيون في المنطقة أعدوا تقارير متنوعة، وحضروا اجتماعات متتالية بينما طار مسؤولون خليجيون إلى واشنطن، ومسؤول قطري إلى طهران وآخرون إلى “تويتر”، يرجون من ترامب وخامنئي ضبط النفس.

ومقابل تفهم مشاعر هذه الجماهير وجذورها المتداخلة لا يملك الواحد ربما سوى اللامبالاة وبعض التشفي أحياناً، إزاء الشعور بالقلق والتوتر بين النخب الحاكمة (نفطية وعسكرية ومالية) في الخليج وبلاد الشام والعراق على اتساعها. وأعني بهذه النخب حكومات وحكاماً وكبار رجال أعمال وبيروقراطيين ورجال دين ومن ورائهم مؤسسات عسكرية وأمنية وتجارية ودينية وإعلامية وتعليمية. لا يبدو أن هذه النخب تريد للصراعات العنيفة في المنطقة أن تدهس عشبهم ولكنها لا تبالي إذا طحنت هذه الصراعات بما فيها تلك التي تمولها وتشارك فيها أو تتغاضى عنها في اليمن وليبيا وسوريا والعراق آلاف وآلاف البشر الفائضين عن الحاجة، البشر غير المهمين: أسر فتك بها الخوف والفقر والجوع تطاردها قذائف وبراميل متفجرات روسية وسورية في إدلب لتوسعها قتلاً وتدمر بيوتها ومستشفياتها ومدارسها. يضاف إليهم متظاهرون ومحتجون شباب يسقطون برصاصات قاتلة وغاز خانق تطلقه ميليشيات أو أفراد متحالفون مع النظام العراقي في بغداد ومدن أخرى. وأيضاً هناك 30 طالباً عزلاً في طابور غير مسلح في الأكاديمية العسكرية في طرابلس، تشتعل النار في أجسادهم من جراء صاروخ أطلقته طائرة مسيرة من دولة حليفة لجيش خليفة حفتر المتقدم نحو العاصمة الليبية، وهكذا دواليك في قائمة مرعبة من الأهداف والضحايا.

كانت لسليماني يداً طولى في هذه المآسي في العراق وسوريا وفي لبنان ولكن خصومه قبل حلفائه شاركوا بسهم وافر أيضاً. اليد الطولى الأخرى التي أمسكت بيد سليماني كثيراً وشدت عليها ودعمتها حتى قررت تركها بعدما افترقت الطرق، كانت اليد الأميركية التي عملت فعلياً مع الايرانيين منذ منتصف حزيران/ يونيو 2014 في الحملة العسكرية ضد “داعش”. وهي أيضاً يد يغطيها دم أبرياء كثر (وفقاً لوزارة الدفاع الأميركية فقد سيّرت 34500 ضربة جوية لها، قتل فيها 1319 مدنياً منذ بداية الحملة وحتى منتصف 2019). منظمة الحروب الجوية البريطانية المستقلة ذات الصدقية تقول إن عدد القتلى المدنيين الأبرياء في سوريا والعراق بسبب غارات التحالف الأميركي تتراوح بين 8 آلاف و13 ألف قتيل مدني في الفترة ذاتها.

في هذه المنطقة تقاطعت طرق الجنرالات الأميركيين والإيرانيين كثيراً، ولكنها طرق ارتسمت على أجساد بشر كثيرين بتعاون نخب لا تسعى سوى نحو البقاء في السلطة ومراكمة الثروة.

راح في إيران 50 قتيلاً دهساً في مراسم تشييع احتفالية لبقايا جثمان الجنرال.

النمل لم يعد قادراً على الهروب إلى مخابئه مع تصاعد صراع الأفيال، فالدم والطين الذي يتطاير من مراوح الطائرات المقاتلة يغطينا جميعاً فعلياً وبلاغياً. مقتل سليماني ليس سوى مشهد في صراع دموي من أجل رسم خريطة المنطقة المقبلة من حيث الحدود والموارد والدول الجديدة أو المناطق ذات الحكم الذاتي التي ستنشأ. هذه منطقة يشحب اهتمام الدولة العسكرية العظمي، الولايات المتحدة، بها وتتنازعها مؤامرات وصراعات تُحاك في طهران وإسطنبول وموسكو بالتعاون مع نخب عربية متعبة في أبو ظبي والرياض وعواصم أخرى أقل أهمية في هذه المقتلة، أو ضدها. هذه نخب تحاول القبض بيدها على ماء البحر وإغراق أحلام وطموحات أجيال بكاملها لم تعد معنية ولا مهتمة برطانات فارغة وطنية أو قومية أو دينية (أو تهتم بها بشكل انتهازي قاتل في أحيان). هؤلاء معظمهم بشر فائضون بالنسبة إلى النخب، قتلهم أمر بغيض ربما، ولكن الأبغض وما يخيفهم حقاً هو ثورة هؤلاء الفائضين وغضبهم، الذي لم يتوقف بعد في إنحاء المنطقة الهائجة.

في يوم ليس ببعيد سيكون هناك اتفاق إيراني تركي ما، وتواطؤ إسرائيلي ما واستفادة اقتصادية واستراتيجية روسية ما، وساعتها قد يبدأ فصل ختام اكثر دموية لهذه الحقبة السياسية الطويلة. ففي مثل هذا الوقت منذ 100 عام، دخلت معاهدة فرساي حيز التنفيذ لتقوم مع اتفاقات أخرى بتكريس نتيجة الحرب العالمية الأولى وتفكيك الإمبراطورية العثمانية وبداية الطريق نحو رسم حدود وخلق الدول القائمة الآن في بلاد الشام والجزيرة العربية وتقسيمها بين الاستعمار الفرنسي والبريطاني.

والأمل أن تشارك شعوب المشرق العربي بحق هذه المرة في رسم حدودها ومستقبلها وأطر عيشها، عوضاً عن أن تنتقل بفعل انحطاط نخبها الحاكمة وضيق أفق مصالحها وتحجر تياراتها الفكرية وبخاصة الإسلامية، من تحت الهيمنة الأميركية الإيرانية المتصارعة منذ ثمانينات القرن العشرين إلى هيمنة يتعدد أطرافها وينعدم اهتمامها بنظم وقواعد وضعها العالم بعد الحرب العالمية الثانية لتنمية اقتصادية عادلة، وخوض الحروب بطريقة تحمي المدنيين ومنشآتهم، وأن تمارس الحكومات سيادتها مع احترام حقوق مواطنيها. ويبدو أن تلك الأحلام نفسها تتهاوى مع الأزمة الدولية التي تمر بها هذه النظم والقواعد، وأن علينا إعادة تشكيلها من قلب هذا الخراب المحيط.