fbpx

“في الفم شفق”: أو ما يجمع تونس وسوريا…

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“في الفم شفق” هو تجسيد تونسي لمعاناة سورية بأبعاد كونية، أخرجه على المسرح الفنان السوري ريمي سرميني، الذي حوَّل الرواية الأصلية من العربي الفصيح إلى اللهجة العامية التونسية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ديكور منزل تكسوه الملايات البيض وتحيط بجوانبه خلفية سوداء، لا أحد يعرف قصة الرجل الذي يخيّط هناك. يجلس على كرسي في الظلام مستأنساً بموسيقى الفنان السوري إبراهيم خلف.

“رجعت”، أول كلمة نطقت بها البطلة بعدما تقيأت ما في معدتها، في إشارة ربما إلى ذكريات قديمة ترغب في التخلص منها. تُخرجها من جوفها بصعوبة ومن دون رغبة، متمسكة ببقاياها على رغم رائحتها الكريهة.

“في الفم شفق” مسرحية تونسية أخذت عن رواية “الممثل ايكس” للكاتبة السورية هاية حسني. وجسّدها الممثلان التونسيان أحمد مراد خنفير ونجمة الزغيدي على ركح فضاء “التياترو” منتج المسرحية بالشراكة مع Art veda.

“في الفم شفق”، تجسيد تونسي لمعاناة سورية بأبعاد كونية

تعيش الشخصيتان في أحيان كثيرة التناقضات ذاتها، إذ تظهر الشجاعة والجبن في آن واحد. وتتأرجح خطوات البطلين بين المضي قدماً والتأقلم مع الواقع الرتيب وبين التمسك بالماضي والبكاء على أطلاله. اضطرابات نفسية طفت على المسرح للعلن، عبر صوت أنثوي كان طاغياً طوال المسرحية، وآخر ذكوري بدت عليه الرجفة والتردد والعنف في أوقات الذروة. 

ومن المفارقات أن البطلين يتشاركان مهنة “التمثيل” ويتجرّعان من كأس فشلها معاً. تارة يكرّران بعض ما جاء على لسانهما، ويتعاندان تارة أخرى حول نظرتهما للزاوية نفسها. وهي زاوية حشرا فيها ليس برغبة منهما بل لعدم وجود سواها. ولربّما يبدو ديكور المنزل الذي يملأه الغبار خير دليل على العالم الكئيب حيث اختارا أن يعيشا.

حديث متشنج يغوص في أعماق الذوات المنكسرة، تلك التي تخشى أن تُعرّى أو تُواجه نفسها بما هي عليه وبما تطمح إليه، وحتى بما تريد حقاً. مشهد فسيفسائي يأخذك عبر ساعة من الزمن إلى العوالم الخفية حيث يدور الممثلون الذين تقطعت بهم السبل، مهنياً وعاطفياً. وباتت الوحدة والكأس أقرب خلانهم بعدما أصبحا في طيّ النسيان. لا دور يؤديانه في الحياة سوى إتقان التعايش مع الفشل والانهزامية والاستسلام لواقع سيئ.

“في الفم شفق” هو تجسيد تونسي لمعاناة سورية بأبعاد كونية، أخرجه على المسرح الفنان السوري ريمي سرميني، الذي حوَّل الرواية الأصلية من العربي الفصيح إلى اللهجة العامية التونسية. ولربما لحسن حظ سرميني أنه كان حاضراً في تونس وشاهداً على تصفيق الجمهور في آخر العرض.

مشهد فسيفسائي يأخذك عبر ساعة من الزمن إلى العوالم الخفية حيث يدور الممثلون الذين تقطعت بهم السبل، مهنياً وعاطفياً.

أحاطنا الممثل أحمد مراد خنفير علماً بخيبة مؤلمة، بعدما تعذّر حضور الفنان إبراهيم خلف من سوريا إلى تونس، صانع موسيقى المسرحية، في أصواتها وصمتها في محيط لا متناه من الزمان والمكان. ليس هو فحسب بل ومصمم “البوستر” (اللافتة الإعلانية) الفنان بسام صباغ وصاحب التصميم الإعلاني باسل جبلي ومنفذة السينوغرافيا نسرين دوزي. 

هؤلاء حالت الحرب في بلادهم دون وصولهم إلى تونس، على رغم ما أكَّده خنفير لـ”درج” بخصوص الإجراءات التي اتبعوها لتسهيل سفرهم، لكن من دون جدوى.

صورة من العراض المسرحي “في الفم شفق”

زياد ونجمة اللذين لم نعرف اسميهما في المسرحية كانا مثالاً حياً على المساواة بين الرجل والمرأة، المساواة في نصيبيهما من الألم تحت سقف الكون الممتد، إذ كانا خير مثال على التعادل المحزن في تقاسم ما بفم الإنسان من همّ وما يتلو الشفق من غسق في الحياة والممات.

تواصل متعثر يجمعهما، قد يبدو تارة هادئاً، وطوراً مضطرباً، يتبادلانه حول الحبّ والكره، السلام والانتقام، الثورة والاستسلام، النجاح والفشل، الثقة والخذلان، المعرفة والجهل، جدوى الصمت والحاجة الملحة إلى البوح. 

تقول بطلة العمل نجمة الزغيدي لـ”درج”: “أجسد شخصية مضطربة نفسيّاً بخاصة في مزاجها، إذ تعاني من فصام حاد، تجد له امتداداً مع شريكها، إذ يتقاسمان الصراع مع العالم الخارجي، ثم يغوصان في حميمية مغلقة تبعدهما من الواقع وتجتمع تحت مظلتها ذواتهما”.

طيلة العرض يقحمك البطلان في صراع أفكارهما المبعثرة ويختلط عليك الأمر تجاه مشاعرهما المتأججة بين العشق والشفقة من جهة، والحاجة الملحة إلى النسيان وإدمان التغذي من الذكرى من جهة أخرى.

لا يجد الممثلان حرجاً من إلقائك في محيط الجنس وأبعاده، فحيناً يُصوَّر لك جسر عبور ثنائي الاتجاهات بين المرأة والرجل وحيناً أخرى يلوح لك في شكل حفرة سوداء عميقة، قد يُدفنان فيها من دون أن يسمع صراخ أو نفس.

كما أنهما لا يجدان حرجاً من إلقائك في محيط الجنس وأبعاده، فحيناً يُصوَّر لك جسر عبور ثنائي الاتجاهات بين المرأة والرجل وحيناً أخرى يلوح لك في شكل حفرة سوداء عميقة، قد يُدفنان فيها من دون أن يسمع صراخ أو نفس.

تقول الزغيدي لـ”درج”: “الممثل يشرب برشا من الدنيا حتى يقدر يرويها”. وكأنها ترد على سؤالنا حول كثرة التناقضات التي صاغت سطورها الكاتبة هاية حسني. وعلى رغم أن الممثل قد يبدو أكثر دراية بهزاته النفسية ومعالم روحه كما ظهرت بطلة المسرحية، فإن البطل في المقابل كان يعلم جيداً ما يؤلمه، لكنه كان يحبذ الدوس على الألم بدل مواجهته. هكذا تراوح أداء الممثلين بين المواجهة والاختباء، بين الضوء والعتمة، القوة والضعف، الأنانية والعطاء. يتكاملان في لحظة إيمان مفزع بلا قيمة للواحد دون الآخر، يدركان أن ما يجمعهما أكبر بكثير من قصص حبهما الفاشلة التي عاشاها من قبل، أو من ظهور مخرجين ومنتجين أديرت في وجهيهما ودارت من ورائها عجلة الحياة وأقلعت.