fbpx

شيعة السفارة: “أني منّي فدا صرماية حدا” 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لا شكّ في أنّه أمرٌ مؤلم أن يتمنّى لك رفيقك الموت حرقاً. لكن تعليقاً غاضباً كهذا هو مجرّد تفصيل أمام ما نعانيه منذ سنوات من تهديد وتهويل وحقد لا مثيل لها كمعارضين شيعة للأخ الأكبر.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

نشرتُ قبل مدة قصيرة على صفحتي في “فايسبوك”، خبر إحراق مؤيدين لـ”حزب الله” و”حركة أمل” خيمة المعتصمين في قريتي، العين في البقاع الشمالي. واحد من التعليقات كان “وين صار هيدا الشي؟ وإنت من أي كوكب عم تحكي؟ من وين عم تجيبوا هالأخبار؟”. أجبتُ على التعليق بفيديو وصلني من أحد المعتصمين هناك يثبت صحّة الخبر، تظهرُ فيه خيمة الاعتصام تأكلها النيران. حينها أتى الردّ الصاعق “برافو! عقبال ما يصير فيك متل ما صار بالخيمة”. لم يكن الردّ صاعقاً فقط بسبب لغته العنيفة والتهديد الذي يحمله، بل لأن من كتبه كان مصطفى، ابن قريتي وصديق طفولتي الذي تقاسمتُ معه الحلوة والمرّة لسنوات طويلة قبل تصنيفي خائناً وغادراً بيئتي ومحيطي الذي ولدتُ فيه، وقبل أن أصبح “شيعة سفارة”.

لا شكّ في أنّه أمرٌ مؤلم أن يتمنّى لك رفيقك الموت حرقاً. لكن تعليقاً غاضباً كهذا هو مجرّد تفصيل أمام ما نعانيه منذ سنوات من تهديد وتهويل وحقد لا مثيل له كمعارضين شيعة للأخ الأكبر. ندفع ثمن رفعنا “لا” يتيمة بوجه “نعم” شاملة فرضها الاستبداد في كلّ المناطق الواقعة تحت سيطرته، ثمن استبدلنا شعار العشيرة “أني وأخي عابن عمّي، وأني وابن عمّي عالغريب” بشعار “أني والمظلوم على الظالم، حتّى ولو كان الظالم أخي”، لأننا جاهرنا علناً بأنّ قيمة حياتنا وحياة من نحبّ أكبر بكثير من قيمة أحذية الزعماء وثرواتهم.

شيعة السفارة: أصل المصطلح وتطوّره

رأيتُ مصطلح “شيعة السفارة” للمرّة الأولى عنواناً لملفّ نشرته جريدة “الأخبار” عام 2012. تضمّن العدد يومها اتهامات علنية بالأسماء لسياسيين وناشطين مدنيين ورجال دين شيعة معارضين لـ”حزب الله” وسياساته في لبنان بقبض الأموال من السفارة الأميركيّة في عوكر لقاء التجسّس على الحزب وتشويه صورته من داخل حاضنته المذهبيّة (تبدأ مهمات هؤلاء بحسب الجريدة بإعطاء إحداثيات عن قادة الحزب وصواريخه، وتنتهي بالتجسس على ما يقوله الأطفال في أزقّة الضاحية الجنوبيّة لبيروت). كان الأمر أشبه بهدر دم علنيّ لهم، أو دعوة لهم كي “يتحسّسوا رقابهم”.

انتشر لاحقاً المصطلح “كالنار في الهشيم” في الإعلام والبرامج الحواريّة، ثم انتقل إلى القاعدة الشعبية ومنصات التواصل الاجتماعي التابعة لـ”حزب الله” وحلفائه، بحيث أصبح اتهام الناس بالعمالة وهدر دمهم أمراً طبيعياً لا يحتاج كلّ هذا العناء والمفاجأة. توسّع معنى الكلمة لاحقاً ليشمل كلّ شيعيّ وشيعيّة يعارضون الحزب وخيارات محور الممانعة الذي يقوده (أي القوى التي تفضّل الاحتلال الروسي والإيراني الداعم ديكتاتوريات عربيّة معيّنة على الاحتلال الأميركي الاسرائيلي الداعم ديكتاتوريات عربيّة أخرى). إضافة إلى الكثير من الصفات التخوينية الأخرى التي تنتقي منها الممانعة ما هو مناسب استعماله لذمّ الخصوم، بحسب الأحداث الراهنة والنقاش المفتوح.

قيل لي إنّني “داعشي” مثلاً وآكل أكباد حين انتقدت تدخّل الحزب العسكريّ بوجه الشعب في سوريا، وحُسِبتُ من صهاينة الداخل حين رثيت ضحايا مجزرة الكيماوي في الغوطة الشرقيّة لدمشق. قيل لي إنّني جاسوس حين انتقدتُ سلوك الحزب الأمني في الضاحية الجنوبية حيث سكنت (الحواجز والمربّعات الأمنية وانتهاك عناصره خصوصية بيوتنا عبر تعبئة الاستمارات الخ…). قيل لي إنّني قوّاتي حين شاركتُ في الثورة الحاليّة ضدّ النظام السياسي الفاسد في لبنان الذي انبرى الحزب لحمايته بتخوين الثوّار وتتفيه مطالبهم. وُصفتُ بـ”العاهر” و”اللوطيّ” (ما زالوا يستعملون الكلمة مذمّةً للرجل مثليّ الجنس) حين انتقدتُ المحاكم الدينية وأحكامها المتخلفة… أن تكون ذلك، بالمختصر يعني أنّك شيعة سفارة برتبة عالية.

تبدو الصورة مضحكة من بعيد، مجرّد تخوين سياسي مراهق لا قيمة له. لكنّ الأمر على أرض الواقع مختلف تماماً وشديد الثقل على صدور من يعيشه. ليست نكتة مسليّة أبداً أن تكون أيامنا عبارة عن جلسات تحقيق ومحاكم اجتماعية دائمة للتدقيق في ما نقوله ونكتبه ونفعله وتفسيره بالخيانة، أن نصنّف بأحسن حالاتنا مشاريع عملاء لم يحن دورنا بعد. يمكن أن يذهب الأمر إلى مستوى أقذر بكثير كأن يقف رجل دين بعمامته السوداء في النبطيّة لتهديد إعلاميّة بالصلب وتقطيع الأوصال بحسب الشريعة كما حدث منذ فترة.  

من ناصردين “الزلمي ابن الأصل” إلى بو ناصر “المرتزق الدواعش”

صدر عام 2009، ألبوم الراب البعلبكي الأوّل “طفّار – صحاب الأرض” الذي شاركت فيه كتابةً وأداءً باسم “ناصردين الطفّار”. حمل الاسم يومها معنيين، الأوّل يتفاخر باسم العشيرة المقرّبة منّي في عائلتي وقريتي، والثاني أنّني أناصر دين الطفّار وأدعمهم في رفض تسليم أنفسهم للعدالة في بلد يحكمه اللصوص.

انتشرت أغاني الألبوم يومها بسحر ساحر في لبنان، بخاصة أغنية “ازرع أحصد كسّر لفّ”، التي حملت كلماتها مستوى عالياً من التفاخر بالدم العشائري النقي والفحولة الفجّة. حملت بعض الأغنيات يومها دعوة لمحاربة السرقة بالسرقة المضادة والقتل بالقتل المضاد والحرق بالحرق المضاد. عوملنا يومها معاملة الأبطال وكنّا في قرانا “صوت اللي ما إلو صوت” كما يُقال، تحتلّ أغانينا السهرات الشبابيّة وهواتفهم النقّالة و”فانات” الركّاب. استمرّ الأمر كذلك إلى أن وصل الربيع العربيّ إلى سوريا، وأعلنتُ جهاراً ولائي ووقوفي مع الشعب السوري الحرّ، وحقّه بالحياة والحريّة. حينها تمّ الطلاق وتحوّلت من ابن الأصل “الزلمي ابن الزلمي” إلى “شقفة كلب خلّي جبهة النصرة تجي تنيك أختك”، وامتلأت المواقع التي أنشر عبرها موسيقاي ومقالاتي بالشتم والتهديدات والافتراء.

انبرى أقرباء لي للدفاع عن شرف العائلة التي استوليت على اسمها زوراً، اعتبروا أنّني عار على العشيرة التي لا يشرّفها أن تضمّ “سلفيين” مثلي. قابلتُ براءتهم منّي حينها ببراءة مماثلة وغيّرت اسمي إلى “بو ناصر” وهو الاسم الأحبّ إليّ في خلفيّاته. وبهذا الاسم واصلت منفرداً مشروعاً موسيقياً قفزت عبره فوق رضا فحول الطائفة عنّي إلى دائرة أوسع بكثير تشمل الغناء لأي إنسان يطالب بحريّته في كلّ بقاع الأرض.

أين كانت هذه الوحشيّة كلها؟ 

جنّ جنون الناس حولي حين ثار الشعب السوريّ. ربّما هم كانوا مجانين أصلاً وقد كشفت الثورة ما يُزرع في صدورهم منذ عقود من تجييش وكره وتحريض على كلّ مختلف عنهم. أنا لا أستشرق هنا على مجتمع أدّعي معرفته، كبرتُ هناك وتعرّضت كما غيري لمحاولات غسيل دماغ مهولة لم ينقذني منها سوى سمّاعاتي وكتبي.

 وصل الربيع العربيّ إلى سوريا، وأعلنتُ جهاراً ولائي ووقوفي مع الشعب السوري الحرّ، وحقّه بالحياة والحريّة. حينها تمّ الطلاق وتحوّلت من ابن الأصل “الزلمي ابن الزلمي” إلى “شقفة كلب خلّي جبهة النصرة تجي تنيك أختك”، وامتلأت المواقع التي أنشر عبرها موسيقاي ومقالاتي بالشتم والتهديدات والافتراء.

يسمّون جثث الأطفال المطحونة تحت أنقاض بيوت حلب “خسائر حرب”، يلتقطون “السيلفي” أمام براداتهم المملوءة شماتة بموت أهل مضايا جوعاً، يوزّعون البقلاوة في الشوارع فرحاً برفع راية الحسين على أنقاض بيوت الناس في القصير وتهجير أهلها، يطلقون حملة نكات مقزّزه تسخر من المنتحرين جوعاً في بلدهم. ثمّ يسمّونني بعد ذلك “كاره للذات” حين أنفر من هذا القرف كله. صرتُ أمشي كالغريب مطأطأ الرأس في أزقّة الحيّ الذي أكل قدميّ في صغري. وحين انتقلت للسكن في الأشرفيّة وكتبت عن التجربة تمّ الأمر: هذا ناكر الجميل يبصق في الصحن الذي يأكل منه.

لم يكن الأمر شديد الاختلاف في قريتي التي لم أعد أزورها سوى نادراً لحضور الاجتماعات العائليّة الضروريّة أو المآتم، بعدما كنت في السابق أستغلّ كلّ فرصة لزيارتها ولو لساعة واحدة. في آخر عرس شهدته هناك (مولد نبوي شرعي) كان الناس يرقصون في حديقة بيت والمدفعيّة تقصف باتجاه عرسال من البيت الملاصق. كان الناس يصرخون فرحين مع كلّ ضربة وكأنّها ألعاب نارية لتسلية الحضور.

لم يأتِ كلّ هذا من العدم ولا هو لحظات تخلٍّ عابرة. بل إنّه نتاج عقيدة تعمل منذ عقود على بناء حاضنة فولاذيّة لا مكان فيها لأي اختلاف مهما صغر، تقتل التمايز في مهده قبل أن يكبر ويهدّدها بالمحاسبة على أفعالها وفظائعها. هم لا يرفضون الرأي الآخر فقط، بل يرفضون الرأي من أساسه. يطلقون على أميركا اسم الشيطان الأكبر، لكنّهم يتماهون معها في شعار جورج بوش إبان غزو العراق “من ليس معنا فهو ضدّنا”. أن تكون ضدّهم يعني أن تكون ضدّ الوليّ الحكيم العارف بالأمور وحده، الموكل من الله مباشرة بالتفكير عن الناس وإدارة شؤونهم، ومعارضته إذاً هي معارضة لإرادة الله على الأرض.

انبرى أقرباء لي للدفاع عن شرف العائلة التي استوليت على اسمها زوراً، اعتبروا أنّني عار على العشيرة التي لا يشرّفها أن تضمّ سلفيين مثلي. قابلتُ براءتهم منّي حينها ببراءة مماثلة وغيّرت اسمي إلى “بو ناصر” وهو الاسم الأحبّ إليّ في خلفيّاته. .

ثورة 17 تشرين: كم لبثنا؟

حدّثني محمد (اسم مستعار) منذ سنوات بينما كنّا نشرب البيرة سرّاً في السيارة، عن مشاركته في الحرب المستعرة في سوريا. هو يكره سوريا شعباً ونظاماً، يكره إسرائيل وفلسطين بالقدر ذاته، لا همّ له بالسياسة ولا بتحقيق البطولات الدنيوية أو نيل جنّات الآخرة. لا يتأثّر أبداً بالترهات التي تقال له عن تعجيل ظهور المهدي من حلب وقتل أعور الدجّال في درعا، هو فقط مشتاق لرفاقه الذين قضوا هناك. يشعر بصورهم المعلّقة على كلّ جدران القلعة وعواميدها، تنظر في عينيه، يخجل من المشي مثلي في أزقّة القرية بينما يرقد رفاق طفولته تحت التراب. لا يريد محمّد من كلّ هذا سوى الثأر.

مع انطلاق الثورة الشعبيّة في لبنان، وضع محمد علم لبنان غلافاً لصفحته على “فيسبوك”. أرسل لي فيديو من خيمة الاعتصام ذاتها قبل أن تحترق، يظهر أمامها عشرات الشبّان والشابات بوجوه ضاحكة وأغنية تليت في الخلفيّة “مين باع دين؟ بالهرمل إلي أخوة مهما كانوا باعدين”. قفزت دمعة الفرح من عيني فوراً وكأنّها كانت تقف على حافتها منذ قرون. من يعرف بعلبك الهرمل جيّداً يعرف أنّ مشهداً كهذا هو انتصار مستقلّ بذاته للثورة. اجتماع مختلط من دون أمر حزبي بل مواجه للأمر الحزبيّ ورافض له، موسيقى الراب الملعلعة في الشوارع عوضاً عن أناشيد التسلّح والقتال، رفض الأمر الواقع جهاراً والحديث عن حياة كريمة خارج عباءة الوصاية الإلهية. كم لبثنا؟

لحظات كهذه لن تُمحى من ذاكرتنا، ولا مشهديات تحطيم مكاتب النوّاب في الجنوب والدوس على صور الزعماء، ولو أحرقوا ألف خيمة وسحلوا ألف متظاهر. دبكة أهالي اللبوة وعرسال المشتركة في الساحة العامة كانت منذ شهور قليلة حلماً ساذجاً، لكنّه اليوم تحقّق ورسم المستقبل الذي نتحمّل الكثير من أجله. وهو مستقبل تقف فيه رفيقتي في معشر شيعة السفارة وسط المدينة التي طُردت منها والفرحة تملأ وجهها، بيدها لافته صفراء كتبت عليها: 

“صار فيك تقول أني إلي، أني معي، أني مني صرماية حدا”.

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!