fbpx

ضربة موجعة لـ”النهضة” والغنوشي يراكم الأخطاء

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

سقطت حكومة الحبيب الجملي، بعدما فشلت في إقناع نواب البرلمان التونسي باستقلاليتها وكفاءتها. سقوط وضع حداً لطموح اللاعب الذي اختاره رئيس “حركة النهضة” راشد الغنوشي، ليكون في الواجهة كـ”مستقل”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

سقطت حكومة الحبيب الجملي، بعدما فشلت في إقناع نواب البرلمان التونسي باستقلاليتها وكفاءتها. سقوط وضع حداً لطموح اللاعب الذي اختاره رئيس “حركة النهضة” راشد الغنوشي، ليكون في الواجهة كـ”مستقل”، في حين تحتم اتفاقيات الغرف المظلمة ألا يحيد عن المسار الذي يخدم مصالح الحركة بالدرجة الأول، علىى رغم التطلعات لتشكيل حكومة قادرة على مواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية الكبيرة في البلاد. لهذا وفيما احتفل التونسيون برفض الحكومة المقترحة، تلقت الحركة الإسلامية ضربة موجعة، لا سيما رئيسها، يُحتمل أن تفقد بعدها السيطرة على مقاليد الحكم التي احتكرتها منذ عام 2011. وقد تجد نفسها مجبرة على مراجعة حساباتها مجدداً، عسى أن تتحسس لنفسها موقعاً بين بقية المكونات أو تدفع مكرهة إلى صف المعارضة. 

وكان نواب البرلمان التونسي حسموا مصير الحكومة في العاشر من كانون الثاني/ يناير الماضي بعد اعتراض 134 نائباً على تمريرها، فيما صوت 72 نائباً (حركة النهضة وائتلاف الكرامة الذي يشكل الصف الثاني للحركة) لمنح الثقة للحكومة، مع تحفظ 3 نواب، في خطوة أجهضت آمال “النهضة” في الانفراد بالحكم مجدداً، والتغلغل أكثر داخل مؤسسات الدولة، وفتحت المجال أمام رئاسة الجمهورية لتولي مهمة اختيار الشخصية المناسبة لتشكيل الحكومة.

حبيب الجملي

وينص الفصل 89 من الدستور على أن يقوم رئيس الجمهورية بإجراء مشاورات مع الأحزاب والائتلافات والكتل النيابية، لتكليف الشخصية الأقدر لتكوين حكومة في أجل أقصاه شهر في حال فشل الحزب الأول في الانتخابات التشريعية في تكوين الحكومة خلال شهرين في أقصى تقدير.

والتصويت بالرفض لحكومة “الجملي والنهضة” لم يكن حدثاً عادياً مرتبطاً بموقف فريق وزاري، بقدر ما كان رسالة قوية إلى الحركة التي دخلت المعركة، وقد عزمت أن تحكم بمفردها، على رغم إدراكها أنها لا تملك مقومات تحقيق هذا الهدف، ومن دون أن تأخذ في الاعتبار ضعف نتائجها في الانتخابات الرئاسية والتشريعية، على رغم تصدرها المشهد، وتراجع صورة زعيمها الذي لم يعد يحظى بثقة التونسيين بحسب نتائج سبر الآراء. 

وخاضت “حركة النهضة” مشاورات تشكيل الحكومة بمنطق أنها الكتلة الأكبر في البرلمان، ودخلت في مفاوضات عقيمة مع بقية الكتل البرلمانية لإقناعها ظاهرياً بمشاركتها الحكم، في حين كانت ترغب في شركاء تتحكم بهم، حتى تضعهم في الواجهة أمام كل فشل، كما فعلت في سنوات حكمها الماضية. ولكن ما كان ناجعاً لسنوات فقد جدواه اليوم، بعدما باتت اللعبة مكشوفة لأطياف السياسة، التي لم تخفِ حذرها وتوجسها من خطط الحركة، ما أدى إلى تعطل المشاورات واقتراح الجملي ما أسماه حكومة “كفاءات مستقلة”، كانت بمثابة مناورة أخيرة للحركة، لم تكن محكمة التنفيذ، لأن الفكر النفعي للحزب كان فاضحاً، ما جعل الجملي محل سخرية واسعة حين تحدث مراراً عن الاستقلالية. وثبت أن الفريق المقترح بمباركة الغنوشي لم يكن سوى النافذة الخلفية للحركة، التي وجدت نفسها في عزلة كبيرة بعد توحد الكتل والأحزاب المدنية بمختلف خلفياتها، على وضع حد لهذا التغول، وربما السير نحو تقديم مشهد سياسي جديد لم تتهيأ الحركة جيداً له.

التصويت بالرفض لحكومة “الجملي والنهضة” لم يكن حدثاً عادياً مرتبطاً بموقف فريق وزاري، بقدر ما كان رسالة قوية إلى الحركة التي دخلت المعركة.

وأدرك التونسيون منذ البداية أن إصرار “النهضة” على حكومة الجملي لم يكن نابعاً من إيمانها بجدية الحكومة وقدرتها على تحديد برامج واضحة كفيلة بالتصدي للمشكلات المتراكمة في انتظار حلول عاجلة، بقدر بحثها عن الإمساك بالسلطة التنفيذية لتحصين موقعها السياسي، الذي بات هشاً، بعد نتائج الانتخابات الصادمة، فضلاً عن الانقسامات الداخلية التي بدأت تجد طريقها خارج الأبواب التي اعتادت أن تكون محصنة ولا تسمح بمرور ما يحدث داخل البيت النهضوي. 

وبات جلياً أن الانقسامات أخذت منحى تصاعدياً بخاصة لدى القسم الذي كان يعارض منذ البداية خيارات رئيس الحركة راشد الغنوشي، بل وعارضوا حتى فكرة توليه رئاسة البرلمان. وضع فضحته من جهة مداخلة الأمين العام السابق للنهضة زياد العذاري في البرلمان، عندما خاطب الحبيب الجملي قائلاً، “إن اختياركم لتشكيل الحكومة خاطئ، لن أصوت لحكومتكم”. ومن جهة أخرى، كانت تدوينة القيادي عبد اللطيف المكي مباشرة بعد رفض منح الثقة للحكومة في البرلمان، التي كتب فيها ما يلي “إلى السيد رئيس البرلمان، أحسنت”. ولعلها المرة الأولى التي يجاهر فيها قياديون من “النهضة” بمواقف من هذا النوع، ما يشي بأن منسوب الخلافات بلغ أشده وحالة الارتباك في ازدياد، لا سيما في ظل ارتفاع منسوب النقد الموجه لرئيس الحركة الذي سقط في مطبات متتالية، آخرها زيارة أردوغان مباشرة بعد إسقاط الحكومة. أخطاء تتالت في الوقت الذي يحاول فيه الرجل الترويج لنفسه على أنه الشخصية السياسية الأولى في تونس بعد رحيل الرئيس التونسي الأسبق الباجي قائد السبسي. 

ولكن بعد حادثة العاشر من كانون الثاني، وجد الغنوشي نفسه في وضع مخجل أمام قواعده وأنصاره قبل خصومه، لا سيما التيار الرافض سياساته داخل حزبه والذي بدا منتشياً برفض الحكومة، وكأن هؤلاء يترصدون هذا السقوط للتأكيد لزعيمهم سوء تقديره، لا سيما مع اقتراب مؤتمر الحركة المرجح أن يكون فرصة لجملة من التعديلات والتغييرات.  

مشهد يقول متابعون إنه لم يكن في سجل انتظارات الغنوشي، وربما كان ذلك سبب ارتباكه الذي أثقل خساراته وراكمها في ظرف وجيز. فقد يجد زعيم الحركة الإسلامية، قريباً، أن مستقبله داخل حزبه اهتز في ظل ترجيح فرضية تمرد القيادات عليه وما يعنيه ذلك من مساس بصورة الزعيم القوي التي بذل الكثير من أجل ترسيخها لدى حلفائه في الخارج. كما أن ما حدث قد يعزز الفكرة السائدة بكون زعيم “حركة النهضة” يتقن اللعب والتسيير والمناورة خلف الكواليس، ولكنه لا يفقهها علناً، بخاصة في منصب رئيس البرلمان الذي وصل إليه أساساً بعد صفقة أبرمت في غرف مظلمة مع نبيل القروي، زعيم “حزب قلب تونس”، ولم يكن بفعل حنكته السياسية أو قدرته على إقناع الكتل داخل المجلس. بل إنه ما زال حتى اليوم محل اختلاف حول توليه المهمة وهنا شبه إجماع شعبي على عدم أهليته.

راشد الغنوشي

ومن جهة أخرى، وقع الغنوشي في مطب خطير عندما اختار التوجه إلى تركيا ولقاء رئيسها مباشرة بعد فشل تمرير حكومته، ليضع نفسه في مواجهة غضب شعبي واستياء كبيرين، بلغ حد المطالبة بسحب الثقة منه كرئيس للبرلمان وخضوعه للمساءلة داخل المجلس، وما رافق ذلك من اتهامات بعدم احترام المسار القانوني للقيام بمثل هذه الخطوات والزج بالبلاد في سياسة المحاور التي تلزم الحركة حصراً. ردود جعلت من الخطوة التي أقدم عليها الغنوشي خطأ فادحاً ارتكبه من دون تقييم مسبق ومن دون قراءة متأنية للعواقب، ومضى فيها محكوماً بنزعة التبعية لزعيم الإخوان المسلمين الجديد رجب طيب أردوغان، ليضع نفسه في دائرة اتهامات عدة، وصلت حد القول بأن الحكومة كانت بتنسيق تركي وبعد فشلها هرع الغنوشي إلى أنقرة بحثاً عن الحل. 

ولن يكون سهلاً عليه إقناع التونسيين بأن زيارته كانت شخصية ومن أجل تهنئة أردوغان بالسيارة الجديدة التي تم تصنيعها في بلاده. وسيكون لصدى الزيارة تأثير على شعبية الرجل المتدنية أصلاً، كما أنها وضعته في إحراج جديد. فالزعيم الضالع في السياسة كما يقول، يلتقي رئيس دولة أجنبية بصفة انفرادية ومن دون تفويض من المسؤول الأول عن الديبلوماسية التونسية الرئيس قيس سعيد، في خطوة إما أن توضع في خانة الجهل بالقانون والمسار الرسمي لهذه المسائل أو محاولة من الرجل لسحب البساط من رئاسة الجمهورية والظهور في الصورة كلاعب رئيسي، وما يعنيه ذلك من ضرب للديبلوماسية التونسية ومؤسساتها وهياكلها.

أدرك التونسيون منذ البداية أن إصرار “النهضة” على حكومة الجملي لم يكن نابعاً من إيمانها بجدية الحكومة وقدرتها على تحديد برامج واضحة كفيلة بالتصدي للمشكلات المتراكمة في انتظار حلول عاجلة، بقدر بحثها عن الإمساك بالسلطة التنفيذية.

هذه المطبات التي وقع فيها الغنوشي تباعاً وفي ظرف قياسي عمقت عزلة “النهضة”، وكشفت بوضوح للرأي العام سياسة الحركة النفعية القائمة أساساً على البحث عن سبل التمكين في الحكم، من دون التركيز على البناء أو على المصلحة العامة. وفي السنوات التسع الماضية، نجحت الحركة في ترويض خصومها بإيهامهم بلعبة التوافق والتشارك في الحكم، فيما كانت تتحكم بكل مفاصل السلطة، وعند المواجهة مع الشعب تتنصل من المسؤولية، وتتهم شركاءها المفترضين بأنهم من كانوا يسيرون وأنهم كانوا عقبة أمامها. ولسنوات انطلت الكذبة وحافظت النهضة على مركزها المتقدم في دائرة الحكم، ولكن يبدو أن ما كان ناجعاً بالأمس بات نقمة اليوم، في ظل استيعاب الأحزاب والكتل داخل البرلمان للدرس، لا سيما مع “حزب نداء تونس”، وعزمها، كما يبدو، على تغيير خارطة الحكم في تونس.

خلاصة القول إن سقوط حكومة “الجملي والنهضة” كانت حتماً خطوة نحو تحجيم دور الحركة الإسلامية في تونس، ولكن الأهم هو بروز ما سمي “تكتل الضرورة”، الذي برز لإنجاح هذا السقوط. فإلى جانب الإشادة الكبيرة التي رافقت تصويت هذا التكتل ضد منح الثقة للحكومة المقترحة، بدأ الحديث عن فرص تطويره وتحويله إلى جبهة تلتقي داخلها القوى الديموقراطية وإمكانات اتفاقها وتجاوزها خلافاتها القديمة وتسليط تفكيرها على عوامل تقاربها، من أجل بناء مشهد سياسي جديد قادر على استيعاب دقة الرهانات وثقلها والحلول الممكنة، ويكون أقرب لتطلعات المواطن الذي سئم التخبط داخل المشكلات ذاتها لسنوات. طموح قد يجد سبيله قريباً إذا نجح “تكتل الضرورة” في تبين نقاط الالتقاء بوضوح ما قد يعني، لو تم، ركلاً للنهضة إلى صف المعارضة. لكن الأكيد أن فشل الحركة في تمرير حكومتها لن يعني انسحابها أو تسليمها بالهزيمة، فالحزب الذي اعتاد على المناورة والمراوغة، لن يتوانى عن ترصد أخطاء خصومه وتوظيفها لكسب بعض النقاط والعودة مجدداً.