fbpx

موت الجاسوس الساحر

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

إذا أتيح لأيٍّ منكم أن يشابه، هو أو ابنه، واحداً من اثنين: “الجاسوس” جيمس بوند أو أيّ “شهيد” يخطر في البال قدّم حياته نفسها فدى القضيّة والوطن، فأيّ الاثنين يختار؟ أغلب الظنّ أنّ 90 بالمئة منهم على الأقلّ سيختارون جيمس بوند، كاشفين عن تضارب كبير بين مقدّماتهم الفكريّة والتصوّريّة وبين اختياراتهم العمليّة. بوند، في هذا المعنى، ذو وظيفة محدّدة: إنّه ليس جاسوسـ”ـنا” وليس جاسوسـ”ـهم” علىيـ”نا”، حيث يتدخّل في الحالتين الهوى الوطنيّ والسياسيّ بما يحدّ من الموقف “الحياديّ” حيال الجاسوس بوصفه وظيفةً وتعبيراً عن طريقة حياة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ماذا سيكون جوابهم إذا سئل ألف شخص من الجنسين، من مختلف الفئات العمريّة والطبقات الاجتماعيّة والسويّات التعليميّة، وفي عدادهم عدد مُعتبَر من الممانعين (“المناضلين الوطنيّين الشرفاء” إلخ…)، السؤال التالي:

إذا أتيح لأيٍّ منكم أن يشابه، هو أو ابنه، واحداً من اثنين: “الجاسوس” جيمس بوند أو أيّ “شهيد” يخطر في البال قدّم حياته نفسها فدى القضيّة والوطن، فأيّ الاثنين يختار؟

أغلب الظنّ أنّ 90 بالمئة منهم على الأقلّ سيختارون جيمس بوند، كاشفين عن تضارب كبير بين مقدّماتهم الفكريّة والتصوّريّة وبين اختياراتهم العمليّة.

بوند، في هذا المعنى، ذو وظيفة محدّدة: إنّه ليس جاسوسـ”ـنا” وليس جاسوسـ”ـهم” علىيـ”نا”، حيث يتدخّل في الحالتين الهوى الوطنيّ والسياسيّ بما يحدّ من الموقف “الحياديّ” حيال الجاسوس بوصفه وظيفةً وتعبيراً عن طريقة حياة.

هاتان الوظيفة والطريقة تفضّلهما على وظيفة الشهيد وطريقة حياته (وموته) أكثريّةٌ ساحقة من المُستَفتين المفترضين.

هذا ما لا ينبغي استغرابه فيما تكشف تجاربنا ويوميّاتنا أنّ السلوك الإنسانيّ كثيراً ما تتناقض نتائجه مع مقدّماته. ذاك أنّ النتائج قد تصدر عن مستويات في النفس غير تلك التي تصدر عنها المقدّمات.

فنحن، مثلاً، نقول جازمين بأنّ المستقيم في مواقفه الصالحة، خيرٌ من المتذبذب والألعبان والانتهازيّ. هذا ما تُعلّمنا إيّاه البيوت والأديان والأخلاق والمدارس والعقائد. لكنّنا حين نشاهد فيلم “كازبلانكا” الشهير لا ننجذب كثيراً إلى فيكتور لازلو، القياديّ الشهم والصلب في المقاومة التشيكيّة. ننجذب، في المقابل، إلى ريك بلاين (همفري بوغارت)، صاحب الحانة الليليّة. لقد كان بلاين في بداياته صاحب مبدأ يضحّي في سبيله: هرّب سلاحاً لأثيوبيا ضدّ الفاشيّين الطليان، وقاتل مع الجمهوريّين في الحرب الأهليّة الإسبانيّة. لكنّه، بعد إحباطه الغراميّ بإيلسا لوند (إنغريد بيرغمان)، تحوّل كائناً سينيكيّاً، لا ينحاز إلى قضيّة مُحقّة، ولا يضحّي بشيء في سبيل شيء، بما فيه مكافحة النازيّة. إنّه مَن يقترف المساومات الملوّثة على غير صعيد.

ريك بلاين هذا، لا فيكتور لازلو، هو الذي صار أيقونة للجاذبيّة، لا في السينما فحسب، بل في الحياة أيضاً.

في خانة مشابهة يندرج ما بات عناوينَ شائعةً للأدب والسينما، كـ “النوم مع العدوّ” و”عشق العدوّ”. لقد ضحّت “ابنة رايان” الإيرلنديّة بأهلها وصِيتها وأبيها ووطنها وزوجها، المدرّس الطيّب والمحترم، بسبب حبّها لضابط إنكليزيّ محتلّ إبّان الحرب العالميّة الأولى، أي في مناخ الاستقطاب الكبير الذي أحدثته “انتفاضة الفصح” الإيرلنديّة ضدّ الإنكليز عام 1916.

هذا التناقض إيّاه يواجهنا في تصرّف الأصدقاء المقرّبين لعائلة خانت المرأةُ فيها زوجها، أو خان الزوجُ زوجته.

أولئك الأصدقاء يحرصون على إبقاء الخبر سرّاً عن الطرف الذي تعرّض للخيانة. في الآن نفسه، يحمون الطرف الذي خان. بفعلهم الأوّل يؤكّدون ولاءهم للعائلة. بفعلهم الثاني يؤكّدون تعاطفهم مع انتهاكها. الفعل الأوّل يخدم الاجتماعيّ الذي صُنعوا عليه. الفعل الثاني يخدم الإنسان – الراغب فيهم قبل أن تقمعه الأعراف وتضبطه الأخلاق السائدة.

تناقضات كهذه إنّما نلقاها صارخة في موقفنا من الجاسوس. هو، في مستوى ما، كائن ضارّ وسيّء وعديم الأخلاق والمبادىء، وقد يكون مرتشياً وقد يكون قاتلاً. إنّه تهديد لحياتـ”ـنا” أو لوطنـ”ـنا” أو لدينـ”ـنا”. وغالباً ما يكون تهديداً لهذه كلّها معاً. وهو ذو ملامح شيطانيّة غالباً ما ربطها الوعي الذكوريّ بالأفعى التي هي المرأة: ينسلّ ويتسلّل ويتلوّى ويتخفّى… هكذا اعتبر ساموراي اليابان الإقطاعيّة أنّ التجسّس وضيع لا يليق بالرجال. إنّه يليق بالنساء فحسب.

لكنّ الجاسوس، في مستوى آخر، الفاتن، أو الفاتنة، الذي يملك معرفة وثيقة بالعالم وبلدانه ولغاته، وسجلاًّ حافلاً بالمغامرات وما تنطوي عليه من براعة وذكاء وقدرة على الإيقاع بخصوم مغفّلين. إنّه ما يُغري الكثيرين بأن يكونوه.

قياساً بكوزموبوليتيّة الجاسوس، العابر للوطنيّات والثقافات والبلدان، يبدو الوطنيّ والشهيد والمناضل أسماء مختلفة لضيق الأفق والمراوحة بين لونين بسيطين أو فكرتين فقيرتين: انتماء لثقافة دون أخرى، أو لبلد دون آخر، وأحياناً لجماعة بعينها أو حيّ أو قرية. الثقافة الأخرى عنده “غزوٌ ثقافيّ”.

صحيح أنّ الجاسوس، ما لم يكن مزدوجاً، يعمل أيضاً لمصلحة طرف واحد، لكنّه يفعل ذلك عبر الانغماس في الأطراف جميعاً. عبر معرفتها ومخالطتها واستبطانها وتقليدها، لا مقاطعتها والقطيعة معها. إيلي كوهين (إلياهو بن شاول كوهين) عاش في الأرجنتين بوصفه المهاجر السوريّ كامل أمين ثابت. أغلب الظنّ أنّه طوّر صداقته بالملحق العسكريّ السوريّ في بوينس إيريس أمين الحافظ الذي جعله الانقلاب البعثيّ في 1963 حاكم سوريّة العسكريّ. إحدى الروايات تذهب إلى أنّ الحافظ رشّح “هذا المهاجر الطيّب الذي يحبّ وطنه” لتولّي وزارة الدفاع السوريّة.

هذا ما يرسم للجاسوسيّة وجهاً لا يملكه باقي المثالب الكبرى، وهو ما راعاه القانون الدوليّ الملتبس حول هذه المهنة الثانية قِدَماً في التاريخ. فالدولة المحاربة ترمي الدولة التي تحاربها بكلّ الارتكابات والصغائر: إنّها تقتل الأطفال وتحرق الأملاك ويمارس جنودها الاغتصاب… أمّا الدولة التي تُطلق التهم فتبرّىء نفسها كلّيّاً منها. لكنْ حين يصل الأمر إلى التجسّس، وهو المرذول والمُدان أخلاقيّاً، تتباهى تلك الدولة بأنّها لا تقلّ قوّةً وقدرةً عن الدولة العدوّ. إنّها لا تقول عن نفسها: نحن نقتل أكثر ممّا تفعل الدولة العدوّ، أو نسرق أكثر، أو نغتصب أكثر. لكنّها تقول: نحن نتجسّس أحسن. هذا التباهي لا يقلّل امتلاك الحقّ وزعم تمثيله.

ولأنّ الأمر هكذا، اهتمّت مصر، مثلاً، بأن تؤلّف صورةً لرأفت الهجّان (رفعت علي سليمان الجمّال) تلائم التخيـيل الذي يطال الجاسوس. فهو أجاد اللغات الأجنبيّة، والدته تفرّعت عن “أسرة عريقة”، وأخوه علّم الإنكليزيّة لشقيق الملكة فريدة. أحبّ المسرح والسينما ومثّل في ثلاثة أفلام، وطاف مدن العالم على ظهر سفينة. لكنّ الهجّان أيضاً، ودوماً وفق الرواية المصريّة، عانى الإحباط واليأس، ولم يكن مستقيماً في حياته وعلاقاته الشخصيّة والماليّة، اتُّهم بالاختلاس وكان مزوّراً.

الرواية المصريّة إذاً تؤكّد على عناصر كوزموبوليتيّة فيه كما تقدّم التنازلات التي لا بدّ منها لموقفنا الأخلاقيّ من الجاسوس. لكنّها في النهاية تستحوذ عليه وتتباهى به. صحيحٌ أنّه “ابن عاهرة” لكنّه “ابن عاهرتنا”، كما قال بن غوريون في وصف مناحيم بيغن. فنحن بارعون أكثر منهم في الجاسوسيّة، أي في هذا السقوط الأخلاقيّ تحديداً. إنّه السقوط الوحيد الذي نقبل المنافسة فيه ونسعى إلى التفوّق.

رفعت الهجّان هذا نُشرت قصّته مُسلسَلةً في مجلّة “المصوّر” المصريّة قبل أن تصبح مسلسلاً تلفزيونيّاً شهيراً… وهذا علماً بوجود رواية إسرائيليّة تقدّمه عميلاً مزدوجاً خدم إسرائيل أكثر ممّا خدم مصر، ووفّر للأخيرة معلومات مضلّلة عن الأولى. اسمه لدى الإسرائيليّين جاك بيتون.

والحال أنّ ميل الحكومات المصريّة المتعاقبة للاستحواذ على الجاسوسيّة والتباهي بها نابع من إدراك صحيح للشعبيّة التي يوفّرها استحواذ كهذا. فالبشر، لا سيّما متى كانوا مهزومين ومحبطين، يزداد افتتانهم بالغامض والغريب الذي يأتيهم بما لا يستطيعونه هم، بدليل أنّهم مهزومون. فهو لا يشبهـ”ـنا” ولا يشبه قصور”نا” ومحدوديّتـ”ـنا” اللذين هما جزء من عاديّة حياتـ”ـنا” الوطنيّة. وهو، فوق هذا، لا يشبه نفسه. إنّه يزوّر حتّى نفسه. هكذا سُمّي بول ديوكس، الذي يُصنَّف أوّل جاسوس محترف في العصور الحديثة، “الرجل ذا المئة وجه”. لقد هرّب الكثيرين من “البيض” من سجون البلاشفة، ونجح في التسلّل إلى أعلى مراتب الحزب والدولة السوفياتيّين.

هذا ما يقرّب الجاسوس من الساحر بالقياس إلى الوطنيّ المسحور بنفسه وبنفسنا الجماعيّة المفترضة. الوطنيّ مطابق لتلك النفس، يقول إنّه يفديها بالروح والدم.

الساحر يأخذنا بعيداً. المسحور يُبقينا في مكاننا، يحفر في ذاك المكان، ويُضجرنا.

فوق هذا، لا تنقلب الوطنيّة على نفسها. لا تؤدّي إلى ما هو غير منتظَر منها. إنّها تقيم في البطولة والتفاني كما تلدهما. غالباً هي وظيفة للرجال.

الجاسوسيّة ولاّدة احتمالات. قد توفّر رقعةَ مساواة في المهنة بين الرجال والنساء. أحياناً تتفوّق النساء. التنميط الذي يشوبها قد ينقلب إيجاباً.

يزيد في غموض الجاسوس غموض تحليله واستقصائه اللذين يُفتَرض بهما أن يوضحاه ويجلواه. فالوطنيّ واضح، يتراوح بين مديح أهله الذي يندفع إلى التعظيم وهجاء أعدائه الذين يطلبون له حبل المشنقة. أمّا المعرفة بالجاسوس، ففضلاً عن قلّتها، ملتوية ومتضاربة، يصعب تأكيدها أو التأكّد منها. ولئن كان الانقسام حول الوطنيّ بسيطاً يُصاغ في تعبير أو تعبيرين بلا ظلال، فالانقسام حول الجاسوس يستجرّ روايتين غنيّتين تصلح كلٌّ منهما لأن تستولد روايات شتّى.

الجاسوسة الإسرائيليّة شولا كوهين، في الرواية اللبنانيّة، كانت تقيم سهرات كيفٍ يرتادها بعض عليّة القوم، وكان الجنس والدعارة، بالإضافة إلى المال، من أهمّ الوسائل التي استخدمتها. في الرواية الإسرائيليّة، هي نفسها أنقذت يهوداً في البلدان العربيّة إبّان فورة العداء لليهود قبيل حرب 1948 وبعدها. لقد هرّبت عشرات الأطفال المهدّدين بالموت إلى الدولة العبريّة.

الفارق بين الروايتين هائل: فالأولى تستند إلى نظام أخلاقيّ يدور حول الجنس والجنسيّ ويستسهل التجاوز على المرأة، فيما الثانية تؤكّد على نظام أخلاقيّ مغاير زبدتُه إنقاذ البشر، لا سيّما الأطفال، من موت ظالم. المسافة إذاً مزدوجة: بين نظامين متضادّين للأخلاق، وتالياً بين مفهومين للرذيلة مقابل الفضيلة في أوسع معاني الصفتين.

والحقّ أنّ هذين الغموض والغرابة المتعدّدي المصادر أحد الأسباب التي جعلت الجاسوسيّة صناعة جماهيريّة في زمن الحداثة: جيمس بوند، العميل السرّيّ البريطانيّ اخترعه في 1953 إيان فلمينغ، وهو نفسه ضابط سابق في المخابرات البحريّة. لكنْ بعد رحيل فلمينغ في 1964، تعاقب على كتابة مغامرات بوند ثمانية مؤلّفين آخرين. أفلام “العميل 007” شكّلت أطول مسلسل سينمائيّ في التاريخ وحصدت أكثر من سبعة بلايين دولار. منذ “دكتور نو”، الذي مثّله شون كونري في 1962، ظهر 24 فيلماً بونديّاً كان دانيال كريغ آخر ممثّليها.

وفضلاً عن الرواية والسينما، صار بوند بطلاً للتلفزيون والراديو والصور المتحرّكة وألعاب الفيديو. مَن يمثّل دوره ممنوعٌ، حفاظاً على الحصريّة، من أن يمثّل أيّ دور آخر. في 1966 وحده، وبسبب نجاح تجربة بوند، ظهر 22 فيلماً عن الجواسيس.

لقد استثار جيمس بوند كلّ أنواع النقد: نسويّاتٌ قلن إنّه ذكوريّ. مناهضون للإمبرياليّة اتّهموه بأنّه يعكس حنيناً إلى الإمبراطوريّة. محافظون اعتبروه مِتْعَويّاً يهدِّد القيم العائليّة. باردون في واقعيّتهم رأوا عوالمه إيكزوتيكيّة. مكافحون للعنصريّة سمّوه عنصريّاً حيال غير البيض.

لكنّ أحداً لم يشكّ بالتسلية التي ينطوي عليها هذا الجنس الكتابيّ والسينمائيّ، وبالطلب الجماهيريّ على هذه التسلية، بما فيها الإطلال على تقنيّات مستقبليّة تتعدّى السيّارات والأسلحة.

دونالد هاملتون اخترع شخصيّة ماتّ هيلم، واسمه الحركيّ “إريك”، كجاسوس أميركيّ مضادّ في الحرب الباردة. بين 1960 و1993 صدر 27 كتاباً عن هيلم الذي لا يكبر، وطبعاً لا يموت. إنّه جاسوس لا عمر له.

ثمّ، إذا كانت الجريمة أيضاً موضوعاً لصناعة ضخمة في الكتابة والسينما، فإنّ شخص المجرم ليس مُحبّباً ولا هو موضوع تقليد وتماهٍ. الجاسوس أمره مختلف.

هكذا نقع، أقلّه في الأنظمة الديمقراطيّة و”الرخوة”، على ميل عقابيّ ملتبس حيال الجاسوس، التباسُه يشبه التباس القانون الدوليّ: من جهة تشدّدٌ تستدعيه صيانة أمن الدولة والمجتمع، ومن جهة أخرى، رخاوة يسكنها الإقرار بسيولة الحياة وغنى تناقضاتها.

ماتا هاري (مارغريت ماكلويد)، الراقصة الهولنديّة الإكزوتيكيّة التي اتُّهمت بالتجسّس لألمانيا إبّان الحرب العالميّة الأولى، ونفّذ فيها الفرنسيّون حكم الموت رمياً بالرصاص، كُرّمت لاحقاً بما يشبه التكفير عن ذنب. لم تُبرّأ من الجاسوسيّة، ولم تُطهَّر صورتها من الاتّهامات الأخلاقيّة (“عاهرة”). لكنْ جرى، في المقابل، التركيز على مأساتها العائليّة: العائلة مكسورة. الزواج فاشل. الزوج حرمها حضانة ابنتها. الابن مات بالسفلس. كذلك رُكّز على كوزموبوليتيّتها وعلى فنّيتها: اسم “ماتا هاري” يعني “الشمس” في لغة الملايا. عاشت في جزر الهند الشرقيّة. أدخلت إلى باريس، في السنوات الأولى من القرن العشرين، الرقص الإيزوتيكيّ والشعبيّ في آن. واكبت الوجهة الأوروبيّة يومذاك في البحث عن الموضة في آسيا ومصر. عرّفت الأوروبيّين على هويّة جزر الهند الشرقيّة ورقصها. مثّلت، بعلاقاتها وبأسفارها، تجاوزاً للحدود القوميّة إبّان بلوغ القوميّة ذروتها التي تسبّبت بالحرب العالميّة الأولى. أُعدمت وهي في الـ 41، وكانت شجاعة رفضت وضع عصبة على عينيها، كما أرسلت بيدها قبلة للضبّاط المولجين بإطلاق النار. جثّتها لم تطالب بها عائلة، واستُخدمت في الأبحاث الطبيّة. قُطع رأسها وحُفظ في متحف التشريح بباريس، لكنّه ضاع في 1954 مع نقل مبنى المتحف إلى مكان آخر. وفي النهاية كُرّمت هذه الجاسوسة “العاهرة” بأن أقيم متحف لها وعنها في هولندا، في 2017، في الذكرى المئويّة لإعدامها. بعد موتها، أوحت بأفلام سينمائيّة عدّة مثّلت في أحدها غريتّا غاربو. قدّمت أيقونة لبعض النسويّات.

لقد تدخّلت سيولة الحياة، وفي عدادها الإقرار بماتا هاري الراقصة، لتخفّف، بمفعول رجعيّ، الحكم الأخلاقيّ – السياسيّ الصارم عليها. أبعد من هذا، نشأ ما هو اعتذاريّ منها في تقديم سيرتها على نحو يجعلها تشبه سِيَر الأنبياء والأولياء، حيث يضمر حضور العائلة، ولا يظهر منه إلاّ السلبيّ المعيق للنجاح، بل يختفي الجسد نفسه وينفصل عنه الرأس. حتّى الجثّة تمضي في إتحاف العالم بما هو جميل أو مفيد. وإذا كان من عيوب الجاسوسيّة أنّها تتسبّب بموت الأبرياء، فإنّ قوميّة الحرب العالميّة الأولى تسبّبت بموت 9 ملايين نسمة، فيما ماتا هاري كانت عابرة مبكرة للقوميّات والحدود، أي مناهضة للحرب القاتلة.

شيء موازٍ نلقاه في أسمهان (الأميرة آمال الأطرش): مولودة على متن باخرة كانت تُقلّ العائلة من تركيّا. ابنة وحيدة كُتبت لها الحياة في أسرتها. والدتها “اضطُرّت”، بعد نشوب ثورة 1925 في جبل الدروز، إلى الهجرة إلى مصر. الأمّ – الأميرة غنّت في القاهرة، في حفلات خاصّة، لإعالة أبنائها. الابنة، أسمهان، تزوّجت قريبها الأمير حسن الأطرش وانتقلت معه إلى قرية عرى في جبل الدروز. اختلفت مع زوجها وعافت الإمارة والقرية ورجعت إلى مصر لممارسة الفنّ.

لقد تحدّت أسمهان، وفقاً لسيرتها الشائعة، مسلّمات اجتماعيّة وتقلّبت بين حالات قصوى غالباً ما تحكّم بها ضجر بوفاريٌّ من الزوج الواحد والمكان الواحد والحياة الواحدة.

بسبب تعاونها مع المخابرات البريطانيّة في الحرب العالميّة الثانية، والتي أرسلتها “في مهمّة” من القاهرة إلى جبل الدروز، تزوّجت ثانيةً من طليقها حسن الأطرش، الأمر المرفوض كلّيّاً عند الدروز. أهمّ من ذلك أنّها أخضعت الزواج “المقدّس” في بيئة بالغة المحافَظَة، لمتطلّبات مهنة غير محترمة هي: الجاسوسيّة. حسن الأطرش، من جهته، وهو الأمير والزعيم، وافق على “التعاون مع البريطانيّين” شريطة أن تعود أسمهان زوجة له. تذهب روايات إلى أنّها فيما كانت تعمل لصالح البريطانيّين، عملت لصالح “فرنسا الحرّة”، والطرفان كانا عدوّي الحركات القوميّة السائدة في المشرق، أي أنّها كانت عدوّ”ـنا”، الخائنة للأهل والوطن. آنذاك، وضدّاً على هامشيّة المرأة ودونيّتها، عُرفت أسمهان بالإفراط في تناول الكحول وبكثرة الكلام، وهي تزوّجت المخرج أحمد بدرخان لمجرّد الحصول على الجنسيّة أو الإقامة في مصر، ثمّ الممثّل أحمد سالم، وربطتها علاقات عدّة برجال كثيرين متعدّدي الجنسيّات والمهن. وحين قضتْ أثناء توجّهها إلى الريف، في 1944، بنتيجة غرقها في ترعة، حاكت الشبهات حول: المخابرات البريطانيّة والمخابرات الألمانيّة وحسن الأطرش وأحمد سالم (زوجها إبّان وفاتها) وأمّ كلثوم وشقيقيها فريد وفؤاد الأطرش والملك فاروق وأمّه الملكة نازلي وأحمد حسنين باشا (وكيل الديوان الملكيّ الذي يقال أنّ نازلي عشقته بينما عشق أسمهان). إنّها قتيلة تعدّد قاتلوها إلى الحدّ الذي أضاع الجريمة، من غير أن يقلّل الغنى الذي انطوت عليه شخصيّة القتيلة.

لكنّ جاسوسيّة أسمهان وما أنزلته من إساءات بالإمارة والعائلة والزواج والأعراف و”الأخلاق” والوطنيّة، وبأفكار الإخلاص والشرف والاستقامة…، لم تحتلّ من صورتها الشائعة إلاّ هامشاً ضيّقاً مصحوباً بقدر من التعاطف مع “شطارتها” و”ذكائها” و”كرمها” و”ألاعيبها”. متن الصورة العريض احتلّته “الفنّانة الخالدة” أسمهان.

هذا الانتباه الضمنيّ لسيولة الحياة ومزيج الغامض – الغريب عكسته على مستويات عدّة حالة لبنان ما قبل الحرب، بوصفه البلد الموصوف بالرخاوة في منطقة متشدّدة. فشولا كوهين هي التي طلب القضاء العسكريّ إنزال عقوبة الإعدام بها. إلاّ أنّ العقوبة خُفّفت إلى السجن عشرين عاماً. هذا السلوك “اللبنانيّ” غالباً ما استخدمه العقائديّون مستمسَكاً على لبنان: إنّه ليس وطناً جدّيّاً. إنّه متواطىء مع الجاسوسيّة. يعجّ بالجواسيس. ذاك أنّ الوطن التعاقديّ الذي يخلو من إيديولوجيا رسميّة حاكمة، ليس الوطن الذي يتخيّله القوميّون وعموم العقائديّين.

لكنّ هذا ما يجعل اللبنانيّين، في معزل عن المحاكمة القوميّة التي قد ينطقون بها، يتذكّرون، بكثير من الحنين، “أوكار الجواسيس”: فندق “سان جورج” الذي أرّخ بارَه سعيد أبو الريش، مراسل إذاعة “أوروبا الحرّة” ومدير “تايم – لايف” يومذاك. هناك، في ذاك البار، كان سام بوب بروّر، مراسل “نيويورك تايمز”، يلتقي يوميّاً عميل السي أي آي ويلبر كراين إيفلاند، كما كان كيم فيلبي، أشهر جواسيس الحرب الباردة، الذي يراسل “إيكونوميست” و”أوبزرفر”. مايلز كوبلاند، عميل السي أي آي الآخر، وصاحب الكتاب الشهير عن نشاطها الإقليميّ “لعبة الأمم”، كان يرابض في فندق “فينيسيا”. فبيروت، التي نتغنّى بها وبحرّيّاتها، هي التي جعلتها المخابرات البريطانيّة، بعد حرب 1956، مركزها الإقليميّ. هذا كان جزءاً ممّا نتغنّى به من غير أن نسمّيه.

المدهش أنّ اللبنانيّ الذي يتحمّس لمكافحة الجاسوسيّة واجتثاثها قد يكون هو نفسه مَن يحنّ إلى فنادق بيروت وعالمها “الموبوء بالجواسيس”.

لقد كان هذا جزءاً من الحرّيّة التي تتمتّع بها بيروت.

حرب 1975 بدأت بـ “حرب الفنادق” ودمّرت الفنادق. لقد كانت البديل “الوطنيّ” الوحيد الممكن عن مدينة حرّة فيها كلّ شيء، بما في ذلك الجواسيس.

الحرب إيّاها هي التي دمّرت أيضاً “مدرسة شملان” بحجّة أنّها “وكر جواسيس”. صحيح أنّ الخارجيّة البريطانيّة هي التي أسّست “مركز الشرق الأوسط للدراسات العربيّة” (ميكاس)، في القدس عام 1944، ونقلتها إلى تلك البلدة الجبليّة بعد قيام إسرائيل. الهدف كان تعليم موظّفيها في الشرق الأوسط اللغة العربيّة. بالطبع كان هناك جواسيس بين هؤلاء الموظّفين، لكنْ كان أيضاً مَن ليسوا جواسيس. لقد درس فيها ديبلوماسيّون يابانيّون ورجال أعمال أميركيّون وأبناء لمهاجرين لبنانيّين. كان لبنان السلم يتّسع لهذا كلّه.

هذه الطريقة الرخوة تخالف طريقة الأنظمة الأمنيّة والعقائديّة. الأخيرة، كأنظمة حرب دائمة، لا تملك إلاّ الأمن ولا تقدّم إلاّ التعبئة ضدّ “العدوّ”. إنّها تنحو نحواً حربيّاً بالتعريف: إيلي كوهين الذي تجسّس في سوريّا وعليها بين 1961 و1965، حُكم بالإعدام وشُنق في ساحة المرجة. جثّته ظلّت معلّقة ثلاثة أيّام.

في العراق، صدّام حسين ذهب أبعد: كان يخترع الجواسيس ليعدمهم. في 26/1/1969، وبعد أشهر على وصول البعث إلى السلطة وإقامته نظاماً يفتقر إلى الشعبيّة، وُلدت “وجبات إعدام الجواسيس”. بحضور رئيس الجمهوريّة أحمد حسن البكر ونائبه صدّام، ووسط زغردة النسوة وزحف الجموع لمشاهدة “جثث الخيانة والعمالة”، أُعدم 14 شخصاً بريئاً، 10 منهم يهود. أصحاب “المؤامرة الماسونيّة” هؤلاء عُلّقوا في ساحة التحرير ببغداد وساحة أمّ البروم بالبصرة. ذاك اليوم أُعلن “عطلة رسميّة” احتفالاً بـ “النصر العظيم”.

هذه الجذريّة في مكافحة الجاسوسيّة هي إيّاها الجذريّة في مصادرة الحياة وتجفيف سيولتها. ستالين كان رائداً في هذا. تهمة الجاسوسيّة في روسيا الستالينيّة لازمت الكثير من أعمال التصفية الفرديّة والجماعيّة.

في هذا المعنى، كان تلخيص “مدرسة شملان” بـ “وكر جواسيس” نوعاً من اختراع الجواسيس تمهيداً للإلغاء والاستئصال الشاملين. الترميز الكاذب وُجد هنا أيضاً: مثلاً، كان أحد الأدلّة القاطعة على جاسوسيّة المدرسة وجود ملعب على سطحها اعتُبر مقرّاً للاتّصالات السرّيّة كونه يطلّ على مطار بيروت. الملعب كان في حقيقته ملعب سكواش.

ما من شكّ في أنّ الأنظمة الديمقراطيّة قد تعدم الجواسيس أيضاً، لا سيّما في أزمنة الحروب. لكنّها لا تُعدم معهم كلّ شيء. لا تعدم قصّتهم أو قضيّتهم إذا كانت لديهم قضيّة. إعدام الزوجين جوليوس وإيثيل روزنبرغ في الولايات المتّحدة، عام 1953، بعد ثبوت تجسّسهما للسوفيات، لا سيّما في مجال الذرّة، لم يمنع الإقرار بحماستهما للشيوعيّة وتفانيهما في خدمتها.

تجربة “حلقة كامبريدج” شكّلت مناسبة لدراسة السياسة البريطانيّة ودراسة إحدى الفئات الاجتماعيّة في ذاك البلد. أولئك الخمسة (كيم فيلبي، دونالد ماكلين، غاي برغس، أنتوني بلنت، ولاحقاً اكتُشف خامسهم جون كايرنكروس) كانوا، باستثناء بلنت، طلاّباً في كامبريدج في الثلاثينات. بلنت كان أستاذاً في تاريخ الفنّ. لم يكن بعيداً عنهم آخرون في عدادهم لودفيغ فيتغنشتاين، الشابّ يومذاك والفيلسوف اللاحق. لقد انشدّوا إلى الماركسيّة، وإذ حالت أصولهم الاجتماعيّة بينهم وبين العمل الحزبيّ والنضاليّ، فقد وجدوا سبيلهم إلى خدمة الطبقة العاملة في التجسّس للاتّحاد السوفياتيّ. بين الثلاثينات وأوائل الخمسينات تجسّسوا، وكانوا في هذه الغضون احتلّوا مواقع مؤثّرة في ديبلوماسيّة بريطانيا ومخابراتها، الـ أم 16.

في 1951 انتقل برغس وماكلين إلى موسكو. في 1963 فرّ فيلبي من بيروت، التي خاف أن يُخطف فيها، إلى موسكو أيضاً. كايرنكروس اعترف في 1951. بلنت تأخّر اعترافه حتّى 1963، بعد أن فضحه أناتولي غوليتسين، السوفياتيّ الذي انشقّ وهرب في 1961 إلى بريطانيا. بلنت اللامع كمؤرّخ للفنّ، عمل حافظاً ومنسّقاً للوحات الملكة في بكنغهام، وفي 1956 مُنح لقب “فارس”. بعد انكشافه، عُرض عليه أن يشي بزملائه مقابل عدم اعتقاله. وشى. انكشاف وحشيّة الستالينيّة في هذه الغضون كان يسهّل ممارسة الوشاية.

المهمّ أنّ تجربتهم دفعت إلى تحرّي المجتمع والسياسة والثقافة في بريطانيا. قيل إنّهم عبّروا عن تصدّع العائلات الأريستوقراطيّة القديمة. عن ثورة الأبناء الأريستوقراطيّين على آبائهم. البعض تحدّث عنهم بوصفهم محطّة في تاريخ المثليّة في ذاك البلد (معظمهم كانوا مثليّين). أُرّخ بهم للتطوّرات التي تحكّمت بالمزاج الثقافيّ البريطانيّ آنذاك: معاناة سنوات الكساد، والاستياء الواسع من ممالأة النازيّة في أوساط الأريستوقراطيّة، ثمّ التحالف مع موسكو في الحرب عليها.

“حلقة كامبريدج” لا تزال حيّة وبقوّة حتّى اليوم. المجتمع تعلّم بعض تاريخه منها، وهو تسلّى بها، تماماً كما تسلّى بعلاقة جون بروفيومو، وزير الحرب المحافظ، بكريستين كيلر، “الموديل” ابنة الـ 19. تلك العلاقة أسقطت حكومة هارولد ماكميلان وساهمت في فوز “حزب العمّال” في 1964. كيلر كانت، إبّان علاقتها ببروفيومو، على علاقة بيفغيني إيفانوف، الملحق بسلاح البحريّة في السفارة السوفياتيّة بلندن.

“حلقة كامبريدج” لم تكن سوى واحدة من حلقات كثيرة مشابهة تعمل في الاتّجاهين: إحداها أدارها هاري دكستر وايت، نائب وزير الخزانة الأميركيّ والذي كان كبير مفاوضي بلده في مؤتمر برِتون وودز عام 1944، والذي أرسى النظام الاقتصاديّ لما بعد الحرب الثانية.

لكنّ الجواسيس في المجتمعات الديمقراطيّة، وعليها، هم وحدهم مَن يستمرّون على قيد حياةٍ ما، حياةٍ لا تقتصر على القصص والأفلام. الجواسيس على أنظمة الاستبداد يُجتَثّون ويُجتثّ ذكرهم.

المجتمع الديمقراطيّ والرخو يطلق ثلاثة حوافز على الأقلّ لا يعرفها مجتمع الاستبداد: حبّ الربح الذي يُديم الجاسوس على شكل صناعة في السينما والكتب والترفيه، وحبّ التلصّص، خصوصاً متى كان موضوع هذا التلصّص مجتمعاً مغلقاً كمجتمعات “الستار الحديديّ”، وأخيراً، حبّ المراجعة والنقد.

حتّى اللغة عكست هذا التباين: تعبير عميل agent، الذي غالباً ما يتقاطع مع الجاسوس، لا تنقطع صلته بالأصول التجاريّة للكلمة إلاّ في استخدام الأنظمة والقوى العقائديّة. هنا، الوصف نفسه لا يعني إلاّ طريد القبيلة والعدوّ المحض والوضيع الذي يستحقّ الموت.

*****

والموت كان مصير الجاسوس القديم وإن لم يكن مصير الجاسوسيّة نفسها. فالمهنة التي بلغت أعلى ذُراها في الحرب الباردة، لتنحسر مع انتهائها، رجعت بقوّة مع صعود “الجاسوس” فلاديمير بوتين في روسيا، وتردّي العلاقات بين الأخيرة والدول الغربيّة. لكنّ التجسّس غدا في معظمه إلكترونيّاً، تتحكّم به شبكة الإنترنت، أشكالُ اشتغاله رخيصة الكلفة نسبيّاً، وقابلة للتنفيذ بسرّيّة، بعيداً من محوريّة الفرد – الجاسوس، ومن أهوائه ومعارفه وكوزموبوليتيّته وعلاقاته بالمدن أو اللغات. هناك غاز الأعصاب والمظلاّت السامّة والمسمّمة، وطبعاً، ودائماً، الكومبيوتر.

جاسوسيّة الزمن البوتينيّ عالم أورويليّ أكثر منه إنسانيّاً. الواقع افتراضيّ. خصوصيّة الأفراد شبه معدومة. التقنيّات الرفيعة ومُجمّعات المعلومات تعرف كلّ شيء تقريباً عن الأفراد، وصولاً إلى أذواقهم في المأكل أو الجنس. هناك ألغوريذمات معقّدة تحلّل وتبوّب ما لا حصر له من معلومات عن الأشخاص، ثمّ تتوقّع، بنسبة مرتفعة جدّاً من الدقّة، تصرّفهم وردود أفعالهم.

الجاسوسيّة صارت، مع بوتين، نظاماً يقوى ويتوسّع. الجاسوس غدا لزوم ما لا يلزم.