fbpx

عن بيروت… تفاحة طرابلس والـ”أطراف”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أعادت التظاهرات والمواجهات التي شهدتها بيروت في اليومين الفائتين إحياء نقاش قديم، سبق أن تولى في الماضي اقتراح تفسيرات للمحن اللبنانية المتعاقبة منذ نشوء الكيان. والنقاش هذا يدور حول علاقة الريف بالمدينة، أو الأطراف بالمركز.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أعادت التظاهرات والمواجهات التي شهدتها بيروت في اليومين الفائتين إحياء نقاش قديم، سبق أن تولى في الماضي اقتراح تفسيرات للمحن اللبنانية المتعاقبة منذ نشوء الكيان. والنقاش هذا يدور حول علاقة الريف بالمدينة، أو الأطراف بالمركز، وذلك بعدما وصل محتجون من الأطراف إلى بيروت وانضموا إلى تظاهراتها، التي تحولوا في الكثير من الأوقات إلى متنها. وما عزز من الرغبة في النقاش، تغريدات أطلقها رئيس الحكومة المستقيل سعد الحريري، انطوت على مخاوف على بيروت والده (الوسط التجاري) من متظاهرين أتوا إلى هذه الـ”بيروت” من طرابلس ومن عكار، ومن البقاع والجنوب!

والحريري إذ أطلق مخاوفه هذه، فعل ذلك بموازاة خطاب إعلامي حمل الكثير من عبارات لوم المتظاهرين على تحطيمهم واجهات المتاجر في الوسط التجاري، واقتلاع الزروع التي زينت فيها شركة “سوليدير” شوارع الوسط التجاري الأنيقة. فصُور هذا العنف وكأنه بمواجهة أناقة الـ”داون تاون” وأنه أشبه بانتقام الأطراف من المركز، على ما دأبنا نشير طوال سعينا للحديث عن بيروت في سابق عهودنا في التحليل والتفسير.

والحال أن المسافات القصيرة بين الأطراف والمركز في لبنان، وضعف التقاليد الريفية، وهشاشة الريف واقتصاداته وأنماط عيشه لم تفت من عضد النقاش، ولا من قوة التفسيرات التي سبق أن أعطيناها للكثير من وقائعنا الكبرى والصغرى طوال سنوات محننا المتناسلة.

عزز النقاش تغريدات أطلقها رئيس الحكومة المستقيل سعد الحريري، انطوت على مخاوف على بيروت والده (الوسط التجاري) من متظاهرين أتوا إلى هذه الـ”بيروت” من طرابلس ومن عكار.

لكن لا بأس في عدم الإطالة والتعامل مع مشهد الأيام الفائتة بصفته تدفقاً من الأطراف إلى المركز، ومن الريف إلى المدينة، وهو واقعياً كذلك إلى حدٍ ما. لكن هذا التدفق لم يحصل بهدف “ترييف الثورة”، ولم يستهدف قيم المدينة ولا أنماط عيشها. لهذا التدفق أسباب مباشرة وراهنة ولا تمتد إلى أكثر منها. وإذا كان من متسبب بها، فالمدينة هي من المتسبب. المدينة بوصفها الحريري والمصارف، وبوصفها أيضاً درة عين “حزب الله”، والمدينة التي يحصل فيها التفاوض على حكومة حسان دياب، والمدينة التي أفقرت الأطراف أكثر مما أفقرت أهلها. المدينة التي يتكثف فيها الفساد، وتنعقد فيها علاقاته، وتستثمر فيها دولته كل طاقتها. ولهذا بدا سعد الحريري حين أطلق تغريدته خوفاً على مدينة والده متعسفاً وجاحداً وغير مكترثٍ لتعاقب اقتراع أهل الأطراف للوائحه الانتخابية. بدا وكأنه يقول للمتظاهرين، ابقوا خارج القصر، سترسل لكم المدينة في الانتخابات المقبلة، بعد أربع سنوات، معونات تكفيكم أسبوعاً، ستجوعون بعده، لكنكم ستنسون أهل القصر. أما المصرف الذي قررت إدارته في بيروت أن تحجز على مدخرات الناس في فروعها في طرابلس وعكار وبلاد البقاع والجنوب، فقد آلمه أن يحطم أهل الأطراف زجاج مقراته في الوسط التجاري، فتولت محطات التلفزيون الذي يموله تظهير هذا الألم على ألسنة مراسليها.

لكن للأطراف أيضاً حضور مختلف في قلب المدينة. “حزب الله” أطراف أيضاً! أليس هذا ما تشعر به المدينة؟ الملمح “الطرفي” للحزب يدخل إلى وعي المتطيرين من الأطراف من نافذة أخرى ملاصقة لمنازل نوافذ أهل المركز. الخندق الغميق هو بمعنى ما حضور للأطراف في المدينة! لكن كيف يمكن أن يستقيم هذا الاعتقاد في ظل وقوع الخندق في قلب العاصمة. هو أقرب إلى بيروت من نفسها. أقرب إلى ساحة الشهداء من وادي أبو جميل حيث يقيم الحريري. هل ما زال الخندق “ريفاً”، على رغم أكثر من 40 عاماً من عيش أهله فيه؟ أين الريف وأين المدينة هنا، وهل يمكن سعد الحريري أن يوجه نداءً لأهل الخندق بعدم التظاهر في شارعهم؟

بيروت اليوم هي المصارف وهي “سوليدير” وهي الخندق الغميق مثلما هي شارعا الحمرا والأشرفية ومنطقة الطريق الجديدة. وبيروت التي ناشد الحريري أهل الشمال لعدم الانجرار وراء استهدافها هي من ارتكب حماقة الهندسة المالية، وبيروت هذه هي من طرد أهل بيروت إلى مناطق خلدة وعرمون. هي بيروت الجمهورية الثانية، وبيروت “سوليدير” التي استبدلت ملكية الأسواق بأسهم زهيدة الثمن، وصارت شوارعها معارض أحذية مرتفعة الأثمان، وفروعاً لمصارف متخمة بالأرباح بفعل الهندسة المالية.

لا بأس في عدم الإطالة والتعامل مع مشهد الأيام الفائتة بصفته تدفقاً من الأطراف إلى المركز، ومن الريف إلى المدينة، وهو واقعياً كذلك إلى حدٍ ما.

لم يستهدف المتظاهرون مدينة على نحو ما فعل المتحاربون في بداية الحرب الأهلية غير المنقضية. استهدفوا معرضاً باذخاً لحياة قليلة الحضور في المدينة. لم يطلقوا رصاصة، ولم يحرقوا الفندق الذي بجوار التظاهرة. وبيروت التي “تألمت” لفعلتهم هي غير بيروت التي طردتها جمهورية الطائف من بيروت. بيروت التي استهدفوها هي بيروت المصارف التي سطت على مدخراتهم، وبيروت المجلس النيابي الذي تقيم فيه كل النخبة السياسية الفاسدة والمرتهنة. وهم فعلوا ذلك بينما كانت فضيحة كبرى تدوي إلى جانبهم تماماً، إذ كان حسان دياب يضيف أسماء وزراء جبران باسيل إلى حكومته، وكان “حزب الله” يبارك التشكيلة وكان حاكم المصرف يتنفس الصعداء بعدما حصل على وعد بتشريع الـ”كابيتل كونترول” عبر قانون تقترحه حكومة المستشارين ويقره برلمان الفاسدين.

في هذه اللحظة تماماً تدفقت الأطراف على “المركز”.