fbpx

غاز الكلور في دوما بعد قمة أنقرة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لعل أكثر ما يلفت في قصف النظام السوري مدينة دوما بغاز الكلور، هو أن الجريمة وقعت في أعقاب القمة الروسية التركية الايرانية التي عقدت لتناقش الشأن السوري. النظام شعر أن بإمكانه ارتكاب هذه المجزرة وأن ثمة غطاء دولياً مؤمناً له…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لعل أكثر ما يلفت في قصف النظام السوري مدينة دوما بغاز الكلور، هو أن الجريمة وقعت في أعقاب القمة الروسية التركية الايرانية التي عقدت لتناقش الشأن السوري. النظام شعر أن بإمكانه ارتكاب هذه المجزرة وأن ثمة غطاء دولياً مؤمناً له. لكن المجزرة وقعت أيضاً في أعقاب تصريحات لولي العهد السعودي محمد بن سلمان كشف فيها أن شرط إزاحة الأسد لم يعد شرطاً للتسوية في سورية. وجرى أيضاً في أعقاب تصريحات “عابرة” للرئيس الأميركي دونالد ترامب قال فيها إن بلاده بصدد انسحاب وشيك من سورية.

على هذا النحو يستقبل بشار الأسد الإشارات، وعلى هذا النحو يوظفها. فقد شعر الرئيس أن العالم عاد وقبل به رئيساً، فتحرك من فوره وقصف دوما.

والحال أن وجوه هذا المشهد الدولي مساهمون بجريمة النظام. فأنقرة التي كانت أول من أدان قصف دوما هي شريكة راعيي النظام الكيماوي في دمشق، أي موسكو وطهران. وهي شراكة وظيفتها بعد توزيع مغانم الحرب، تعويم النظام وتسويقه بصفته خياراً لا بديل عنه. والرياض التي التحقت بركب الدول القابلة بهذا الأمر الواقع تسعى بدورها لفصل النظام الكيمياوي عن طهران، ضاربة عرض الحائط بحقيقة أنه نظام قتل ما يزيد عن خمسمئة ألف سوري وهجر ما يزيد عن ثمانية ملايين منهم. الشرط الايراني يتقدم الشرط السوري في الرياض، والشرط الكردي يتقدم الشرط السوري في أنقرة، وروسيا تدير أوركسترا القصف الكيميائي مبردة “غضب” أنقرة من جهة ومستعينة بمراوغة طهران من جهة أخرى.

لقد تأسس تقليد القصف الكيمياوي في سورية على سابقة إعفاء الرئيس الأميركي باراك أوباما بشار الأسد من عقاب تجاوزه “الخط الأحمر” بعد قصفه الغوطة الشرقية بغاز الكلور وقتله المئات من أهلها في العام 2013. المجتمع الدولي فقد قدرته على ضبط هذا الانتهاك منذ ذلك التاريخ. كما أن دخول روسيا مباشرة على خط الحرب في سورية تم أيضاً في أعقاب هذا التاريخ. هذا عام مؤسس للمأساة السورية، ففيه جرت الانعطافة الكبرى نحو الهاوية الأخلاقية التي يقبع فيها العالم اليوم، ولم يعد ممكناً بعدها الوقوف في وجه الجموح الكيمياوي للنظام. واليوم بعد مجزرة دوما من غير المتوقع أن يجري ما كان يجب أن يجري في العام 2013. موسكو سترسل خبراءها للتحقيق بهذه “الإدعاءآت، وسيعودون بتقارير تفيد بأن مصدر القصف مواقع الإرهابيين، والعالم الذي أقر بأن النظام فعل ما فعله، لن يترتب على إقراره بذلك أي خطوات أخرى.

دونالد ترامب اكتفى اليوم بتوجيه شتيمة للأسد. قال إنه “حيوان”، وهذا ما لن يزعج ساكن قصر المهاجرين. والاتحاد الأوروبي قال، “إن النظام السوري قصف دوما بالسلاح الكيميائي وعلى العالم أن يتحرك”. هذا رد فعل لا ينطوي على رغبة في التحرك. فالإنكفاء الدولي عن الوضع السوري والتسليم بالدور الروسي بصفته دوراً وحيداً، جعل من مهمة التحرك لضبط جموح النظام نحو مزيد من القتل، مهمة شبه مستحيلة. لا قدرة لأحد اليوم على معاقبة النظام السوري، والأسد ما كان ليفعلها لولا يقينه من هذه الحقيقة، والجريمة المتمادية لم تعد جزءاً من منطق العلاقة بين السوريين وبين نظامهم وحسب، انما أيضاً جزء من حقيقة التخلي الكبرى التي كان باشرها أوباما، والتي يبدو أن خلفه ترامب بصدد مواصلتها.

لكن في مقابل هذا الاستعصاء تلوح حقيقة أخرى، وهو أن العالم المتذمر من فاتورة الحرب السورية لجهة ضخها ملايين من اللاجئيين إلى دول الجوار وإلى المهاجر الأوروبية، ولجهة تضاعف فرص الجماعات الإرهابية وتصديرها العنف إلى الغرب، لم يدرك بعد أن ترك السوريين في العراء في ظل نظامٍ كنظام البعث، وفي ظل هيمنة امبراطوريات الشر الثلاث، أي روسيا وطهران وأنقرة على بلدهم، لن يفضي إلى غير تضخيم هذين المأزقين.

الجواب الوحيد الذي يملكه بشار الأسد على قبول العالم به مجدداً، هو غاز الكلور. هذا درس تكرر في السنوات الأخيرة عشرات المرات، والعالم في لحظة عجز كامل عن التعامل مع هذه التراجيديا. وقبوله بها يمثل اختلالاً أخلاقياً هائلاً لن تقتصر ارتداداته على سوريا.