fbpx

“إذا فَتحتَ فمكَ ستُسجَن”… هل عاد المغرب إلى سنوات القمع؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في هذا التحقيق قصص عن اعتقالات مست مجموعة من المواطنين والنشطاء في الفترة الأخيرة، بسبب التعبير عن آرائهم المعارضة لسياسات الدولة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“لا أستطيع… لا أستطيع أن أتحدث عن قضية ابني حتى يعانق البراءة… أنا آسف”. 

بصوت مثقل بالحذر، لم يرغب أب التلميذ أيوب محفوظ (18 سنة) المعتقل بسبب منشور فيسبوكي أن يدلي بأقوال لـ”درج”. القضية لم تُحْسَم بعد، والابن ما زال متابعاً قضائياً، بعد إطلاق سراحه.

تنفست عائلة التلميذ الصعداء بعد هذا الحكم غير النهائي، أما الأم فكانت منتشية بالفرح حد البكاء بحضور ابنها، الذي حتى وإن لم تسقط التهم في حقه، إلا أن بإمكانه متابعة دراسته، وهو مكسب بنظر عائلته.

محفوظ، التلميذ في السنة الأولى بكالوريا (ثانوي)، ذو الملامح الهادئة والمحايدة، يبدو أنه كان يخفي غضباً مدفوناً من أوضاع بلده، عندما نشر بضع كلمات من أغنية “عاش الشعب” على صفحته الفيسبوكية، وهو سبب كافٍ ليدينه القضاء بتهم “الإخلال بالاحترام الواجب لشخص الملك، وإهانة موظف عمومي أثناء مزاولة عمله”. 

قصة محفوظ وغيرها من الاعتقالات التي مست مجموعة من المواطنين والنشطاء في الفترة الأخيرة، بسبب التعبير عن آرائهم المعارضة لسياسات الدولة، جعلت المغاربة أكثر حذراً في التعاطي مع منصات التواصل الاجتماعي، فالكلمة يحسب لها ألف حساب، والرقابة الذاتية صارت سيدة الموقف.

“إلا حليتي فمك غادي تشد ف الحبس” (إذا فتحت فمك سَتُسجَنُ)، هكذا اختزل عمر بنشمسي، مدير التواصل في “هيومن رايتس ووتش”، واقع حرية التعبير في المغرب.

الناشطة الحقوقية خديجة الرياضي

أما الناشطة الحقوقية خديجة الرياضي وسواها من الحقوقيين، فيعتبرون ما يسجله المغرب حالياً، “هجوماً ممنهجاً وتصاعدياً على حرية التعبير والرأي”.

السلطة السياسية في المقابل لا تعترف بهذا الأمر وتعتبره “مبالغاً فيه وغير دقيق”، وتبرر خطوة الاعتقال لتجاوز هذه الأصوات المعارضة ما سمته “الخطوط الحمر”، بـ”مسها المقدسات والثوابت الوطنية واستهدافها مؤسسات الدولة ورموزها”.

أغنية مغضوب عليها!

لم يكن محفوظ وحده المدان، بل شملت الإدانة أحد مغني “عاش الشعب” الثلاثة، الرابور سيمو الكناوي، الذي سجن سنة واحدة بتهمة “إهانة موظفين عموميين وهيئة قضائية”، بسبب شتمه الشرطة على إحدى منصات التواصل الاجتماعي خلال تشرين/ نوفمبر الثاني الماضي.

الأغنية المغضوب عليها من السلطات المغربية كانت موضوع أخذ ورد بين المغاربة خلال الفترة الأخيرة، إذ نالت نصيبها من السجال الحامي بين من يراها تعبيراً صريحاً عما يختلج المغاربة من سخط وإحباط تجاه ما يحصل في البلد، وأصوات أخرى ترى أن المقطوعة لا تعدو أن تكون مجرد “تداعٍ” فني محمّل بالكثير من “النشاز” و”الرداءة” ودغدغة لمشاعر المغاربة من الفقراء والمهمشين بخطاب لا يخلو من “الشعبوية”.

في حين يعتقد رأي آخر يشاطر صوت الحكومة أن الأغنية مثقلة بخطاب “راديكالي”، وتحرض المغاربة على “الكراهية” والإساءة للوطن ولثوابته ومؤسساته”.

تقديم الاعتذار للملك وللشعب المغربي لم يشفع “مول الكاسكيطة” في تخفيف الحكم عليه، إذ حكم عليه في محكمة سطات (غرب المغرب) بالسجن أربع سنوات، ودفع غرامة قدرها 40 ألف درهم (نحو 4000 دولار).

“بيد أن هذا المعطى “ليس مُبَرراً لسجن مغني الراب لمدة سنة لمجرد أنه مارس حقه في حرية التعبير”، وفق ما تقوله منظمة “أمنستي” على لسان مديرة مكتبها الإقليمي في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، هبة مرايف، التي تضيف: “على السلطات المغربية أن تلغي حكم إدانته، وتأمر بالإفراج عنه فوراً، ومن دون قيد أو شرط”. 

الرياضي لا ترى أن الأغنية “راديكالية”، وتقول لـ”درج”: “يمكن الاختلاف على كلمة أو كلمتين من محتوى الأغنية، لكنها تبقى نابعة من الأعماق والدليل على ذلك ملايين المستمعين على “يوتيوب”. هؤلاء المغنون عبروا عن الألم”.

الراضي وبودا وآخرون…

يبدو أن مغني الراب حمزة اسباعي تنبأ بما سيحصل له بعدما شدَّد في محتوى أغنيته على أن كل من طالب بحقوقه في المغرب سيكون مصيره الاعتقال، وهو ما حصل له حقاً.

وبسبب أغنيته المنشورة على “يوتيوب” في تشرين الأول/ أكتوبر 2019 لوحق اسباعر بتهمة “الإساءة لمؤسسات الدولة”، أواخر كانون الأول/ ديسمبر الماضي، لكنه نال حكماً اسئنافياً مخففاً، بالسجن 8 أشهر بعدما كانت العقوبة 4 سنوات، وتمت متابعته بعد إطلاق سراحه.

الناشط والصحافي عمر الراضي

الاعتقالات لم تتوقف خلال شهري تشرين الثاني وكانون الأول 2019، بل شملت أيضاً الناشط والصحافي عمر الراضي، المعروف بإنتاجاته وتغطياته الصحافية للحراكات السياسية، الناقدة والجريئة، لسياسات الدولة والنظام، إذ سجن بتهمة “إهانة القضاء وازدراء المحكمة”، بسبب نشره تغريدة حذفها لاحقاً على “تويتر”، تتضمن هجوماً ناقداً للحكم القضائي الصادر ضد معتقلي حراك الريف.

بيد أن الضغوط الحقوقية وتضامن المبادرات المدنية، أتت أكلها في أن تكون سبيلاً لمتابعة الراضي في حالة سراح، في وقت يأمل فيه صحافيو المغرب أن يتابعوا في إطار قانون النشر والصحافة الأخير (الصادر عام 2016) الذي ينص على إلغاء عقوبات السجن، لكن الواقع يقول إن ممتهني الصحافة ما زالوا يلاحقون قضائياً بموجب القانون الجنائي، وهو ما تعتبره منظمات محلية ودولية “آلية انتقامية” من قبل السلطة السياسية لتصفية حساباتها مع هذه الفئة.

الناشط عبد العالي

توالت الاعتقالات لتشمل نشطاء على “السوشيل ميديا”، مثل الناشط عبد العالي باحماد الملقب بـ”غسان بودا”، إذ تابعته السلطات يوم 18 كانون الأول الماضي بتهمة “التحريض على إهانة علم المملكة ورموزها، والوحدة الوطنية والمس بالمقدسات”، وحكمت عليه محكمة خنيفرة (شمال وسط البلد) بالسجن سنتين، وغرامة مالية قدرها 10 آلاف درهم (نحو 1000 دولار).

اليوتيوبور محمد السكاكي، المعروف بـ”مول الكاسكيطة”، اعتقل هو الآخر بسبب انتقاده للملك، ووصفه الشعب المغربي بـ”الحمار” في أحد مقاطعه المصورة على “يوتيوب“.

تقديم الاعتذار للملك وللشعب المغربي لم يشفع “مول الكاسكيطة” في تخفيف الحكم عليه، إذ حكم عليه في محكمة سطات (غرب المغرب) بالسجن أربع سنوات، ودفع غرامة قدرها 40 ألف درهم (نحو 4000 دولار).

“ردة حقوقية” 

شهرا تشرين الثاني وكانون الأول الماضيين كانا “قاتمين” في المغرب، وفق حقوقيين. إذ يؤشران إلى “ردة حقوقية”، وعودة إلى سنوات “القمع” بسبب توالي اعتقال النشطاء والمواطنين المغاربة.

خلال العام الماضي، تم رصد ما يزيد من 17 حالة اعتقال جلها تمت خلال الشهرين الأخيرين من 2019، وفقاً لأرقام “اللجنة الوطنية من أجل الحرية الصحافي عمر الراضي وكافة معتقلي الرأي والدفاع عن حرية التعبير”.

منظمة “هيومن رايتس ووتش”، أفادت في تقريرها السنوي بأنه على رغم إلغاء “قانون الصحافة والنشر” عقوبة السجن بسبب جرائم تتعلق بالتعبير، إلا أنه في الوقت نفسه، يُحافظ القانون الجنائي على عقوبة السجن لمجموعة من جرائم التعبير السلمي، بما في ذلك “المس” بالإسلام والنظام الملكي، و”التحريض ضد الوحدة الترابية” للمغرب.

مول الكاسكيطة

في السياق ذاته، أكد عمر بنشمسي، أن “الدولة لم تعد تبحث عن أساليب ملتوية لاعتقال منتقدينها، بل أضحت تعتقل النشطاء بشكل مباشر بسبب نشر آرائهم عبر الانترنت وهي رسالة تخويف واضحة من السلطات لأصحاب الآراء الحرة في المجال الرقمي”.

في المقابل، لا تخفي “هيومن رايتس ووتش” حضور “مجال” وهامش لانتقاد الحكومة، لكن شرط تفادي أي انتقادات لاذعة للملكية وغيرها من “الخطوط الحمر”.

“الخطوط الحمر غير مقبولة في أي دولة ديموقراطية” تقول الرياضي.

وتضيف لـ”درج”: “الخطوط الحمر في حرية التعبير تتجلى في الدعوة إلى العنف والكراهية والتعبير عن آراء عنصرية. ولم نسجل حضور مثل هذه التجاوزات لدى هؤلاء النشطاء”.

“بلد حرياتٍ وإن كان المسار الحقوقي مضطرباً”

“إنّ المغرب دولةُ حقوق وحريات، وإن كان المسار الحقوقي يعرف بعض الاضطرابات”، هكذا يرد رئيس الحكومة سعد الدين العثماني على الأصوات الحقوقية.

لا ينكر العثماني حضور تجاوزات حقوقية لكنه يراها “محدودة” قياساً بسنوات ما يعرف بـ”الجمر والرصاص”، إبان السبعينات، لكنه لا يجد غضاضة في انتقاد نشطاء ومعتقلي رأي متابعين قضائياً، إذ يرى أن ما قاموا به ينطوي على “استهداف لمؤسسات الدولة ورموزها، والإساءة إلى الوطن وثوابته، وهي مسألة خطيرة لأنها تأتي في سياق دولي وإقليمي يريد إضعاف قوة الدول واستقرارَها الداخلي”.

أيوب محفوظ

يحاول المسؤول الثاني في البلد أن يقف في المنطقة الوسطى من دون تحيز تام للملف الحقوقي، قائلاً: “لا أريد لأحد أن يُسجن، ولا أن يُعتقل، إنما تتمتع السلطة القضائية بالاستقلالية، وأنا كرئيس للحكومة مُلزم باحترام استقلال السلطة القضائية ومقتضيات عملها”.

وإلى حد ما، تشاطر أمينة بوعياش، رئيسة المجلس الوطني لحقوق الانسان (هيئة حكومية) صوت الحكومة، وتعترف بوجود “أزمة إدارة لحقوق الإنسان” تظهر –بحسبها- “قبل كل شيء في إدارة التظاهرات”.

لكنها في الوقت ذاته، تنكر وجود سجناء سياسيين بالمغرب، بل “سجناء اعتقلوا جراء تورطهم في أعمال عنف أو تعبير عنيف عن الرأي خلال تلك التجمعات”. 

في المقابل، استبعدت المسؤولة الحقوقية أن تكون “حرية الرأي والتعبير مضمونة بشكل تام، في ظل وجود رقابة ذاتية من جانب المواطنين وتدخلات أحياناً في الشبكات الاجتماعية”، لكنها تعود لتؤكد أن المغرب لم يسجل “حظر أي موقع إلكتروني أو أي حساب على شبكة التواصل الاجتماعي على مدار الخمس سنوات الأخيرة”.

“الحرية لولاد الشعب”

فيما تتصاعد أصوات الحقوقيين والمتضامنين، المُنَدِّدَة باعتقال مواطنين بسبب آرائهم، تشيد هذه الأصوات بأحكام تخفيف شملت العقوبات، وأيضاً الإفراج الموقت أو المتابعة القضائية في حالة سراح، لكن مطلبها الملح هو إسقاط كل التهم الموجهة لهؤلاء النشطاء، معتبرة إياها “تعسفية” و”انتقامية” و”جائرة” في حقهم.

ولتحقيق هذا الهدف، قامت جهات الحقوقية ومتضامنة مع المعتقلين بحملات تواصلية ميدانية، وأخرى على النت ومواقع التواصل الاجتماعي، ووسمتها بهاشتاغ “الحرية لولاد الشعب”.

أبرز هذه الحملات، وثيقة 20 كانون الثاني/ يناير 2020، المطالبة بالإفراج عن كل معتقلي الرأي في المغرب، إذ دعت المغاربة إلى التوقيع بأسمائهم الكاملة بغية الضغط على السلطة السياسية وتوعية الرأي العام بهذا الملف. فهل بإمكان مثل هذه المبادرات أن تطلق سراح المعتقلين؟  

“إطلاق سراح المعتقلين يتم عبر الضغط السياسي القوي، ووثيقة أو عريضة لوحدها ليست كافية، هي فقط تخلق أجواء التعبئة لإنتاج قوة ضاغطة”، تقول الرياضي.

تشدد الرياضي على خيار الشارع كأفضل وسيلة لحل مثل هذه الملفات، وتضيف: “يجب أن نتذكر أنه في ظل أجواء التظاهر السلمي والمطالبة بالحرية التي طبعت دول منطقتنا عام 2011، تم الإفراج عن مجموعة من المعتقلين تعسفياً، إما في قضايا ما يعرف بـ(السلفية الجهادية) أو ضمن ملفات سياسية تمس نشطاء… كل ذلك تحقق تحت ضغط الشارع”.