fbpx

عقود مهدورة من أعمار مجتمعاتنا

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

نحن نعيش في ظل أنظمة تافهة، أهدرت مواردنا وأعمارنا، والمشكلة أنها ما زالت تبدي شراهة للقتال في سبيل الدفاع عن سلطتها.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

نزل الشعب، بمعظمه، إلى الشارع، في لبنان والعراق، منذ تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، كما سبق أن نزل قبل نحو سنة في الجزائر والسودان، في ما بات يعرف بالموجة الثانية من الربيع العربي، التي كنّا شهدنا صعودها (في موجتها الأولى) في تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا، قبل نحو 10 أعوام. 

مع ذلك فإن نزول الشعب إلى الشارع لانتزاع حقه في تقرير مصيره، أو حقه في السيادة على بلده وعلى موارده البشرية والمادية، ووجه من السلطات القائمة بالتنكر، والاستنكار، إلى حد استخدام آلة الدولة نفسها، وضمن ذلك أجهزة الإعلام والأمن والجيش، لكسر إرادة الشعب، للإبقاء على احتكار السلطة، ففي لبنان تم استخدام الجهاز المصرفي، لحرمان المواطنين من مدخراتهم، التي تمكنهم من العيش. 

لا يهم كثيراً في هذا المجال الجدل حول تسمية ما حصل أو توصيفه بحراكات شعبية، أو انتفاضات أو ثورات. ما يهمّ هنا أنها المرة الأولى في تاريخ تلك المنطقة التي يخرج فيها الشعب إلى مسرح التاريخ، متحدّياً أنظمته التسلطية، والتي يعلن فيها إدراكه لذاته، ولحقوقه، في المواطنة والحرية والكرامة. 

على ذلك، أو بغض النظر عن الاختلافات والتفاوتات في الفعل ورد الفعل وفي الوسائل والمآلات، فإن ما شهدناه يعبر عن حقيقة واحدة مفادها أن المجتمعات في تلك البلدان لم تعد تقبل العيش كما كانت، أي في ظل سياسات التهميش والمحو، وإن السلطات القائمة لم تعد تمتلك أي مشروعية للحكم. بيد أن ذلك كله بيّن، أيضاً، أن الطبقة المسيطرة في تلك البلدان تصرّفت وكأن السلطة بمثابة ملكية خاصة لها، وأن تلك البلدان كناية عن مزارع تمتلكها، وأن الشعوب مجرد مقيمين بفضلها.

ما يهمّ هنا أنها المرة الأولى في تاريخ تلك المنطقة التي يخرج فيها الشعب إلى مسرح التاريخ، متحدّياً أنظمته التسلطية.

هذا كله هو الذي يفسّر لا مبالاة طبقة الحكام، في تلك البلدان، بأوضاع مجتمعاتها، ومطالب مواطنيها، ويفسر استخدامها القوى الأمنية، التي هي أكثر شيء استطاعت تلك الطبقة صناعته والعناية به، على مقاسها، وبحسب مواصفاتها، لمثل هذا اليوم بالذات، إذ تم إهدار موارد كبيرة على أجهزة المخابرات وعلى الجيش، أكثر بكثير مما تم تخصيصه لعمليات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والتكنولوجية.

هكذا، استفاقت المجتمعات العربية فجأة على دول هي في الحقيقة مجرد هياكل، ومنظومات للإدارة والتحكم، تغولت فيها السلطة على الدولة، وعلى المجتمع، فسحقت أو همّشت الاثنين، في واقع يفتقد لدولة المؤسسات والقانون والمواطنين، بمعنى المواطنين الأفراد، الأحرار والمتساوين والمستقلّين. 

ذلك يحيل إلى بداية نشوء “الدولة”، التي خلفت الحقبة الاستعمارية، في منطقتنا، والتي تأسّست على حاملين: الجيش في الدول الجمهورية، والعشيرة في الدول الملكية أو الأميرية، علماً أنه في الحالين نشأت كدولة تسلطية، بخاصة بعدما آلت الأنظمة الجمهورية إلى نظم وراثية (“جملكية”). وإذا كانت الأنظمة الملكية اكتفت بتعزيز سلطاتها، من دون ادعاءات في أي رسالة أو دور، فإن الأنظمة الجمهورية، أو معظمها، ادعت التقدم والحداثة، كما الوحدة والحرية والاشتراكية وتحرير فلسطين، لكنها بدت عبر مسيرتها أكثر بؤساً، وحماقة، وغطرسة، واستبداداً من تلك الأنظمة التي لم تدع شيئاً.  

هكذا، تم تضييع 7 عقود من عمر تلك البلدان التي استقلت عن الاستعمار في منتصف القرن الماضي، سبعة عقود تمت فيها عمليات هدر الموارد، وتهميش المجتمعات، بحيث وصلنا إلى تلك الحالة المريعة من الإفقار المادي والمعنوي، مع نسبة فقر عالية، وبطالة مرتفعة، وتدهور في مستوى التعليم في كل المراحل، وبنى اقتصادية هشة، وحالة فساد مهولة، ونظام من الطاعة، أو الاحتكام للسلطة أو للطائفة أو للعشيرة، ومع افتقاد الحريات وكرامة الإنسان المواطن. باختصار كنا إزاء حقبة تم إهدارها بحيث لم نجد أنفسنا بعد نحو 70 سنة إزاء دولة، بل ولم نجد أنفسنا إزاء أنفسنا أو إزاء بعضنا كمواطنين بكل معنى الكلمة في مجتمع. 

استفاقت المجتمعات العربية فجأة على دول هي في الحقيقة مجرد هياكل، ومنظومات للإدارة والتحكم، تغولت فيها السلطة على الدولة، وعلى المجتمع، فسحقت أو همّشت الاثنين.

لنلاحظ أن اللبنانيين والعراقيين إلى الآن في الشوارع يرفعون مطالب بسيطة، إنهاء الفساد، وإنهاء الطائفية، لكن هذين المطلبين يتم الرد عليهما بقنص العيون وتكسير الأيادي، وبإطلاق الرصاص، وبتشكيل حكومات كاريكاتورية. أما في سوريا، وعلى رغم 9 أعوام من القتل والتدمير والتشريد، فما زال النظام على حاله، مع شعاره الأثير: “سوريا الأسد إلى الأبد”، وكأن شيئاً لم يكن، بل إن مستشارته اللبيبة لا تخجل من القول إن الوضع الاقتصادي في سوريا أفضل 50 مرة مما كان، على رغم أن الجوع يفتك بالسوريين، وعلى رغم أن الدولار وصل إلى أعلى من سعره السابق بعشرين مرة. 

أخيراً، ثمة معلومة صغيرة، مفادها أن سوريا حكمها نظام الأسد (الأب والابن) نصف قرن (1970 – 2020 وما زال)، أي خلال ثلثي عمر سوريا بعد الاستقلال (الذي حصل عام 1946)، وبمعنى أنه حكم ضعف فترة الاستعمار الفرنسي (1920 – 1946)، علماً أن الأسد الابن لوحده ما زال يحكم منذ عشرين عاماً.

باختصار نحن نعيش في ظل أنظمة تافهة، أهدرت مواردنا وأعمارنا، والمشكلة أنها ما زالت تبدي شراهة للقتال في سبيل الدفاع عن سلطتها.