fbpx

الحرب التي جعلت نساء الرقة ودير الزور معيلات أُسَرهن

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يُطلب من المرأة السورية اليوم أن تلعب أدواراً كثيرة نتيجة الظروف الراهنة والتي لا تزال تحمل تحديات قاسية

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“أصبحتُ امرأة ورجلاً في الوقت نفسه”، هكذا تصف السورية هناء العيسى (43 سنة) حالها اليوم، بعدما وجدت نفسها فجأة مسؤولة عن ثلاثة أطفال. فُقد زوجها منذ أربع سنوات في دير الزور، نتيجة الحرب الدائرة هناك. لم تكن تعرف ما معنى العمل قبل أن تعصف الأحداث المريرة بها وبعائلتها. لم تكن تملك أي خبرة في أي مجال، لكنها وضُعت تحت الأمر الواقع، فالتحقت بدورة تابعة لمركز “أيادي للتدريب المهني”، وتعلمت مهنة المحاسبة، لتجد أخيراً فرصة عمل في مدينة الطبقة في الرقة.

من خلف نظارتها الطبية السميكة، في متجر لبيع المونة، تحدّق هناء إلى أجهزة المحاسبة أمامها، أصابعها تزداد رشاقة وخفة. تأخذ الأرز وعبوة الحليب من يد الزبون، تضعهما في الكيس ثم تحتسب الثمن وتقبض منه المال. التراجع الذي أصاب بصرها لم يكن بسبب الأرقام الدقيقة والحسابات وحسب، فمن خلف جهاز المحاسبة في المتجر إلى آلة الخياطة في المنزل، هكذا تمضي حياتها. لا وقت للفراغ. رحلتها اليومية تبدأ عند الثامنة صباحاً، تذهب إلى وظيفتها، لتعود مساء وفي أيام العطل إلى آلة الخياطة في منزلها، لتزاول عملاً إضافية تعتاش منه وعائلتها، وهو رتق الملابس المتهالكة وإصلاحها، وهي حاجة ملحة لدى معظم السوريين الآن، غير القادرين على شراء ثياب جديدة، مع الغلاء الفاحش الذي يعصف بالبلاد.

فقدان المعيل قلب المعادلة

الغلاء الفاحش وفقدان المعيل في عدد كبير من الأسر السورية، قلبا المعادلة وأدارا دفّة المسؤولية نحو المرأة، لتجد كثيرات أنفسهن مثل هناء. فأم شيماء (25 سنة)، وجدت نفسها أرملة مع طفلتين، بعد وفاة زوجها في مدينة موحسن في دير الزور في قصف جوي نفذته قوى النظام السوري. انتسبت إلى جمعية “معاً لأجل دير الزور” التي تعنى بالتدريب المهني واضطرت للنزول إلى الحقل والعمل في الزراعة والحراثة، فهذا العمل الوحيد الذي تتقنه، لا سيما أنها لا تملك أي شهادة جامعية أو ثانوية. 

زادت علامات الشمس وجهها الريفي نضارةً. هذا الوجه لم يعرف الشمس أبداً في ظل حكم “داعش”، فكغيرها من السيدات كان لزاماً عليها أن تغطي وجهها بالأسود الحالك. لكنها اليوم تمارس عملها مع صديقاتها في الهواء الطلق… تقول أم شيماء ممازحة إنها لا تحتاج مساحيق عناية أو حمرة خدود فجمالها ربّاني! 

حالياً، لا سقف يحمي عائلتها من نزلات البرد وجنون الطبيعة، فنزوحها إلى ريف دير الزور وضعها أمام مشكلة تأمين منزل، وبذلك باتت دائمة التنقل بسبب ارتفاع بدلات الإيجار، ومزاجية المؤجرين. واعتقل والدها وشقيقها من قبل النظام السوري، لتجد نفسها مسؤولة أيضاً عن والدتها. 

حول مدفأة من الحطب تضع أم شيماء طفلتها في حضنها وتغني لها أهازيج فراتية. تغلي الشاي المعتق على المدفأة وتسخن لفافات الصعتر المقرمشة، وتتناول طعام الفطور مع عائلتها الصغيرة. تبدأ نهارها باكراً وقبل أن تنزل إلى الحقل، تنجز مهماتها المنزلية، وتؤمّن مستلزمات عائلتها، ثم تعود لتتابع هذه الحلقة اللامتناهية من العمل والتعب المتواصل داخل البيت وخارجه.

تعليم الأطفال بأي ثمن

أمينة مهيدي (37 سنة) تواجه مصيراً مختلفاً بعض الشيء، إذ أصيب زوجها بشلل رباعي في الحرب، وأصبحت مسؤولة عنه وعن ثلاثة أطفال. حركة رأسها المستمرة تدلّك على أوجاع مزمنة في كتفيها ورقبتها، إذ تضطر إلى الانحناء طوال النهار على ماكينتها، بعدما وجدت فرصة للعمل في مجال التطريز. الراتب بالكاد يكفيها لسد احتياجات الأسرة، ودفع إيجار المنزل، ولكنها تصرّ على مواصلة العمل، وتقول “هدفي تعليم أطفالي مهما كان الثمن”.

وكانت أمينة التحقت بجمعية “وفاق للتدريب المهني”، إذ تعرفت إلى القائمين عليها في حملة “نحن أهلها” الناشطة في محافظتي الرقة ودير الزور شمال شرقي سوريا، وتدعم الحملة أيضاً جمعيات مماثلة للتدريب المهني مثل “معاً لأجل دير الزور” و”أيادي للتدريب المهني”.


ما قبل الثورة…

الخبير الاجتماعي راكان العساف، يقول “بحسب التكوين المجتمعي لدينا في سوريا، لم يكن هناك وجود حقيقي للمرأة المعيلة، إلا في حالات قليلة جداً وضمن ظروف معينة”. 

ويضيف: “قبل الآن، كان الرجل (الأب، الأخ، الزوج) هو المعيل الرئيسي لعائلته، لكن اليوم بسبب ظروف الحرب القاسية والوضع الاقتصادي المتردي، إضافة إلى اختفاء كثيرين وإصابة آخرين، أصبحت المرأة المعيلة الأساسية لعدد كبير من العائلات. اضطرت كثيرات للعمل في مجالات متنوعة، أحياناً من خارج اختصاصهن أو خبراتهن، فالخيارات ليست دوماً كالتمنيات، والظروف ملحة وصعبة، في ظل غياب رب الأسرة، بسبب الوفاة أو الهجرة أو الالتحاق بالخدمة الإلزامية أو الاختفاء القسري أو غيرها من الأسباب”.

ويشير العساف إلى أن “المجالات التي تعمل فيها المرأة السورية اليوم، تتوزّع بين التعليم والعمل الإنساني والطبي، إضافة إلى الزراعة، كما لوحظ إقبال النساء بشكل واسع على برامج التدريب المهني، ونشطت المنظمات التي توفر التدريبات في مجالات الإعلام والخياطة والتمريض وغيرها”.

ممرضات للمرة الأولى

خارج حدود منزلها الصغير تمضي أم قاسم (23 سنة) معظم وقتها، بعدما فقد زوجها عمله، فاضطرت للنزول إلى الميدان، والتحقت بأحد المستشفيات في قرية حمَار الكسرة في ريف دير الزور، وبدأت العمل ممرضة، بعدما تلقّت تدريباً لدى منظمة “معاً لأجل دير الزور”. لقيت تشجيعاً من قبل الجيران والأهالي فهي تساعدهم في علاج حالات طبية خفيفة لا تستوجب مراجعة الطبيب، وتقدّم الإسعافات الأولية للحالات الطارئة، لا سيما في ظل بُعد المستشفيات والصيدليات، كما تقول مبتسمة.

أم قاسم سعيدة جداً بالتغييرات التي حصلت اليوم بعد خروج “داعش” من المنطقة، فحين كان التنظيم حاكماً، لم تكن تسمح لنفسها بالتفكير في ممارسة أي عمل بسبب التضييق الشديد والعقوبات. كانت الأسرة تعيش على ما بقي معها من مدخرات وبعض المساعدات. اليوم أم قاسم تحلم بافتتاح عيادتها الخاصة، وتقول إنها ستستمر بالعمل حتى عندما يجد زوجها وظيفة. وتضيف: “مجال عملي إنساني بالدرجة الأولى لذلك أحببته وتعلقت به، وشعرت بعدما خضت غمار العمل للمرة الأولى بقيمتي وأهميتي في المجتمع كعنصر فاعل، وليس فقط مجرد ربة منزل تدير شؤون أسرتها”.

معيل مساعد 

من خلف عدسة الكاميرا تضبط الناشطة الإعلامية بتول العلي (22 سنة) كادرها جيداً، وتلتقط الصورة، تجول بين عشرات الرجال والنساء في إحدى الدورات التعليمية، تجري معهم مقابلات مصوّرة، ثم تسلّم موادها جاهزة من الألف إلى الياء. نزوح أسرتها من دير الزور إلى الرقة، فرض مصاريف جديدة، من حيث إيجارات البيوت المرتفعة، والمستلزمات اليومية، فكان لا بدّ أن تبحث عن عمل وتساعد أسرتها. أُتيحت لها فرصة للتدرب في مجال التصوير فالتحقت بالدورة، التي نظمتها “معاً لأجل دير الزور”، وها هي اليوم إعلامية وناشطة تغطي النشاطات المطلوبة منها، وهي تحترف التصوير والمونتاج وصناعة الفيديو. 

بحماسة شديدة تعمل بتول، في مهنة لم تكن تتوقع يوماً أن تخوض غمارها، مهنة المتاعب، ولكن على رغم ذلك تحب هذا التعب للحفاظ على كرامتها، لا سيما أنها لاقت دعماً من أسرتها والمجتمع المحيط، تقول بتول: “المرأة السورية فاجأت العالم كلّه بمهارتها داخل المنزل وخارجه، وقدرتها على التحمّل، ورغبتها المستمرة في تطوير نفسها”.

يُطلب من المرأة السورية اليوم أن تلعب أدواراً كثيرة نتيجة الظروف الراهنة والتي لا تزال تحمل تحديات قاسية في ظل تمكن النظام السوري من استعادة قبضته الأمنية، إلا أنها تواجه في المقابل ضعف فرص العمل وتدني الأجور وتردي الأوضاع المعيشية، وهي حرب جديدة تخوضها نساء سوريا في وجه الجوع والعوز ومن أجل الكرامة والبقاء والحرية.