fbpx

لو أنني لا أخاف القطط…

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كان يمكن أن تبدو الشوارع أقل ارتياباً، لو أنني لا أخاف القطط.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كان يمكن أن أجلس في “الكوستا” وقتاً أطول، كان يمكن أن أسير في شارع الحمراء بلا شعور بالرعب. كان يمكن أن تبدو الشوارع أقل ارتياباً، لو أنني لا أخاف القطط.

كان يمكن ألا أسأل في حياتي قبل أي زيارة أو نزهة عن إمكان وجود قطط، كان أمكنني مثلاً أن أضع هراً في حضني كما تفعل صديقاتي، وأختبر ملمس فروته. كان يمكن ألا أصحو في ليالٍ كثيرة وأنا أصرخ مرتعبة باكية، لأنني رأيت عيني قطة في نومي، أو قطة تسير نحوي. إنه شعور بالجحيم! كان يمكن أن أتنزّه في أزقة نيقوسيا من دون أن أنهار كل مئة متر وأنا أشاهد قبائل من القطط المتناحرة أو المتحابة. كان يمكن ألا أسمع الجملة النحس: “حدا بيخاف من بسينة؟”، وألا يكون عليّ أن أشرح في كل مرة ما معنى الفوبيا، وأنسلّ بدراية من الحديث، حين يحضر السؤال اللعين الآخر: “لماذا؟”. وهناك من يضيف سؤالاً أكثر عمقاً وإزعاجاً: “صاير معك شي إنت وزغيرة”. اتركوني وشأني!

الفوبيا هي الخوف مما ليس مخيفاً.

لو أنني لا أخاف من القطط، ربما لما كنت عرفت شعور الخوف في حياتي. أنا أرتعب منها، أفقد السيطرة على صوتي، على حركة يدي، على أعصابي. يتجمّد رأسي. تتجمّد القوة في الداخل، وأتحوّل إلى كائن هزيل، مستعدّ للموت على أن تختفي القطط من أمامه.

أفكّر أحياناً كثيرة في العيش في بلاد لا قطط فيها. الفكرة مغرية جداً. حين تراودني بعد موجة هستيريا، أشعر بالراحة، أغمض عينيّ وأتخيّل نفسي سائرة في الشوارع بلا أن أتلفّت إلى الجهات كلّها، أو أبحث عن عمود أو رجل لا أعرفه حتى يحميني من قطة ما. 

الفوبيا هي الخوف مما ليس مخيفاً.

لا يتصوّر أحد كم تطلّب المشي في المدن التي زرتها مقاومة واستجماع قوى. لا تعرف تلك المدن كم قاتلت مخاوفي وأنا أوافق على الجلوس في مقهى مفتوح على الرصيف أو في حديقة عامة. 

في كل علاقة أباشرها يكون عليّ تقديم شرح مسبق وتفصيلي عن الأماكن التي أستطيع أن أزورها وتلك التي أتفاداها وتلك التي يستحيل أن أدخل إليها مثل المقاهي التي تسمح بإدخال الحيوانات. وقد أُنهي أي علاقة تنحدر إلى الأسئلة التي تطرح من باب الفضول لا من باب التفهّم.

لو أنني لا أخاف من القطط لكنت استطعت أن أنزل إلى حديقة بيتنا أكثر، وكان يمكن أن أزور أصدقائي الذين يعيشون مع قطة، من دون أن أتكوّر حول نفسي وأنا أطلب النجدة أو أعتذر عن المجيء.

أفكّر أحياناً كثيرة في العيش في بلاد لا قطط فيها. الفكرة مغرية جداً.

أحوال القطط تشبه كثيراً أحوال المدن التي تعيش فيها. أعرف القطط وأطباعها لأنني أكثر من يراها، أكثر من ينتبه لوجودها وتحرّكاتها وموائها، مهما بدا بعيداً. لا أحد يعرف القطط كالخائف منها أو من اقترابها أو إمكان أن يكون معها في بقعة واحدة. في المدن العربية وتحديداً تلك البائسة، تنتشر القطط الشاردة في الطرق انتشار الفقر والتعب في الأزقة. في الدوحة، وهي مدينة أحبها وأزورها كثيراً، القطط تعاني من السمنة وتسير في تثاقل واضح. في دول أوروبا الغنية، القطط معززة في بيوت دافئة تعج بالحب والعاطفة. تبدو القطط هناك أفضل حالاً من نصف العرب المنتشرين في بلاد الله الواسعة في المذلّة والعوز واللجوء والضياع. في بيروت تموت قطط كثيرة دهساً في السيارات، ويدهس القهر والفساد واللانظام كرامات الناس وحيواتهم بالطريقة ذاتها. أشياء كثيرة أعرفها من عيون القطط التي أرتعد منها. إنها في كل مكان! تخيّل أنك تخاف من كائن ستجده في أي مكان.

أصبحت أقرأ المدن في عيون قططها. 

في زيارتي الأخيرة إلى تونس، كنا في طريقنا إلى مقهى. اضطرت الحافلة أن تتوقف وكان علينا أن نكمل الطريق سيراً على الأقدام. لسوء حظي كان الشارع يعج بمطاعم السمك. القطط تحب السمك وكانت تتجمع بالعشرات في كل مكان. صرت أهذي وأصرخ وأبكي. شعرت بأنني محاصرة وبأنني في حرب. أصدقائي سبقوني وصرت وحيدة تماماً مع القطط. لم يفهم أحد صراخي. ولم أكن قادرة على الشرح. حين التفت صديقي إلى الخلف ورآني وسط الشارع بحالة هستيريا، ركض نحوي وحضنني. أمضيت الغداء أبكي. 

مرة، قال صديق لي ونحن نسير بحذر شديد في شارع “لافاييت” في تونس: “أنتِ تخافين القطط لأنك قطة”. كان يحاول أن يجد شيئاً مضحكاً في ذاك الرعب الذي يدججني. وفيما نحن نتحدّث قاطعت المشهد قطة راكضة نحونا، شعرت بأنني في خطر، وأن العدو تمكّن مني، تمنيت الموت… أخبرت صديقي بثقة من وجد دليلاً على خرافاته، أنّ سيرة القطط تجعلها قريبة واتفقنا أن نواصل السير بحذر إنما من دون أن نتحدّث عن القطط. وأكدت له بشيء من العتب أنه فشل في حمايتي. في نهاية تلك النزهة، قررت أن أكتب هذا النص. وأظنني فعلت.