fbpx

رؤية محمد بن زايد الحالكة لمستقبل الشرق الأوسط

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تبدو معادلة نظام الحكم الذي يعتمده محمد بن زايد قوامها أنه طاغية مستبد ليبيرالي اجتماعي تتغير سياسة بلاده بتغيُّر المنظور الذي تراها من خلال،هذا البحث المعمق يشرح كيف…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كان ريتشارد كلارك في أبو ظبي في صباح أحد أيام 2013 حين أضاءت شاشة هاتفه. طرح صوتٌ مألوف عليه سؤالاً قائلاً، “هل أنت مشغول؟”. لقد كان سؤالاً بلاغياً. كان المتصل محمد بن زايد آل نهيان، الحاكم الفعلي للإمارات العربية المتحدة وأحد أقوى الرجال على وجه الأرض. قال لريتشارد، “سأرسل لك سيارة”، وأغلق الهاتف. كان كلارك، الذي يعمل مستشاراً لابن زايد حالياً، هو قيصر مكافحة الإرهاب السابق في البيت الأبيض. نادراً ما يشرح م.ب.ز (كما يُعرَف خارج بلده غالباً) ما يدور في خلده وقد اعتاد ارتجال مثل هذه المكالمات. أخذ بن زايد كلارك معه في إحدى المرات إلى رحلة هليكوبتر غير متوقعة في عمق صحراء الربع الخالي، ثم هبطا بالقرب من بركة صناعية، بعثرا على إثرها قطيعاً من الغزلان البرية. وفي مكان غير بعيد كانت مجموعة من المهندسين الألمان تقف وتعمل في محطة لتحلية المياه تعمل بالطاقة الشمسية.

جلس كلارك في المقعد الخلفي للسيارة من دون أن يدري الوجهة. وأثناء مرورهما في منطقة نائية تضم مجموعة من المستودعات، خطر بباله أنه مختطف. ثم توقف السائق خارج مبنى حيث سمع كلارك أصوات إطلاق نار تصدر منه. توجه إلى الداخل ورأى نساء يرتدين بزات عسكرية ويُطلِقن النار على أهداف. في مكان ليس ببعيد كان محمد بن زايد يجلس مرتدياً سترة بيضاء، ويضع غطاءً واقياً للأذنين بجانب زوجته، وبجانبهما كرسيّ ثالث فارغ مخصص لكلارك. وفي فترة الاستراحة من إطلاق النار قدم محمد بن زايد النساء، كُن جميعهن بناته وبنات أخواته. قال محمد بن زايد “أنا على وشك بدء مشروع، أريد أن يشعر كل شخص في البلد بأنه مسؤول. الكثيرون (من أبناء البلد) سمينون وكسولون”. وقال إنه سيبدأ بشباب عائلته لتنشيط المشروع.

كان مشروع محمد بن زايد جزءاً من جهد يهدف إلى بناء الأمة داخل البلاد وخارجها، الأمر الذي يتطلب المزيد من الجنود، وستشمل انعكاساته الشرق الأوسط بأكمله. 

يبدو أنه يعتقد أن الخيارات الوحيدة المتاحة للشرق الأوسط هي إما نظام أكثر قمعاً أو كارثةً كبرى

ظلت الإمارات العربية المتحدة منذ تأسيسها عام 1971، بعيدة من الكثير من الصراعات في العالم العربي. وأصبحت معجزة اقتصادية في المنطقة، صحراء زانادو العامرة بناطحات السحاب اللامعة، ومراكز التسوق اللامتناهية والمطارات ذات الأرضية الرخامية. ولكن بحلول عام 2013 انتاب محمد بن زايد قلق عميق حول المستقبل. كانت ثورات الربيع العربي أطاحت بحكام مستبدين، وكان أبناء حركات الإسلام السياسي يتقدمون لملء الفراغ. فاز الإخوان المسلمون -أول حزب إسلامي في المنطقة، والذي تأسس عام 1928- وشركاؤهم بالانتخابات في مصر وتونس، وكانت الميليشيات الجهادية منتشرة في ليبيا. وقع التمرد ضد بشار الأسد في سوريا في قبضة الميليشيات الإسلامية. وبزغ نجم “داعش”، واجتاز في أقل من سنة الحدود العراقية واستولت على مساحة بحجم بريطانيا.

في الوقت نفسه، راقب محمد بن زايد بفزع حشد الجيوش على الجانب الآخر من المنطقة جراء الانقسام الطائفي الكبير فيها. فقد استغلت الميليشيات الشيعية الموالية لمسؤول التجسس الإيراني قاسم سليماني (الذي قُتل في غارة أميركية) فراغ ما بعد 2011 لنشر نفوذهم الثيوقراطي في سوريا والعراق واليمن. كانت جميع مقومات العنف المروع متواجدة، ولم تفعل القوى الإقليمية سوى القليل لإيقافه. هللت تركيا بحرارةٍ لإسلاميّيها المفضلين ودعمت بعضهم بالسلاح. وكذلك فعلت قطر، جارة الإمارات الغنية بالنفط في الخليج العربي. بينما كان السعوديون مشتتي الخطى، يعرقلهم ملك عجوز. 

حتى الولايات المتحدة -التي تعتبر دائماً محمد بن زايد حليفًا رئيسيًا لها- بدا أنها ترى في جماعة الإخوان المسلمين نتيجةً بغيضة لكنها حتمية لتحقيق الديمقراطية. حذر محمد بن زايد باراك أوباما مراراً في المحادثات الهاتفية من المخاطر التي يراها مقبلة. وقد أخبرني مسؤولون سابقون في البيت الأبيض أن الرئيس الأميركي كان متعاطفاً، لكن بدا أنه عازم على الخروج من الشرق الأوسط، لا الغوص فيه.

وفي الوقت الذي دعا فيه محمد بن زايد كلارك إلى ميدان الرماية الخاص بأسرته، كان قد كون خطة طموحة للغاية لإعادة تشكيل مستقبل المنطقة. ثم ضم إلى هذه الرؤية حليفه محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي المعروف لدى الغرب باسم M.B.S، والذي يُعَد بطريقة أو بأخرى تلميذاً لمحمد بن زايد. وقد تمكنا معاً من مساعدة الجيش المصري على خلع رئيس مصر الإسلامي المنتخب عام 2013. انضم محمد بن زايد إلى الحرب الأهلية في ليبيا عام 2015 متحدياً الحظر الذي فرضته الأمم المتحدة والديبلوماسيون الأميركيون، وقاتل ميليشيات “حركة الشباب المجاهدين” في الصومال معززاً بذلك الموانئ التجارية لبلاده ليصبح صاحب النفوذ في القرن الأفريقي. وشارك في الحرب السعودية على اليمن لقتال ميليشيات الحوثي المدعومة من إيران. 

عام 2017، كسر محمد بن زايد أحد الأعراف والتقاليد القديمة عندما نظم حصاراً عدوانياً على جارته الخليجية، قطر. كل ذلك كان بهدف درء التهديد الإسلامي الوشيك كما يرى بن زايد.

لا يميز محمد بن زايد كثيراً بين الجماعات الإسلامية ويصر على أن لها هدفاً واحداً، وهو إنشاء شكل من أشكال الخلافة يحل فيها القرآن محل الدستور. ويبدو أنه يعتقد أن الخيارات الوحيدة المتاحة للشرق الأوسط هي إما نظام أكثر قمعاً أو كارثةً كبرى. توقعاته تشِي بالأنانية وتخدم مصالحه الشخصية، لكن تجارب السنوات الأخيرة دفعت بعض الملاحظين المخضرمين إلى احترام حدسه في ما يخص مخاطر الإسلام السياسي التي لا تُخفَى على أحد.

خصص محمد بن زايد كثيراً من موارده لما يمكن أن نسميه “مكافحة الجهاد”، وقد كانت حملة هائلة. وعلى رغم صِغر حجم بلاده (عدد المواطنين الإماراتيين أقل من مليون نسمة)، يُشرِف محمد بن زايد على أكثر من 1.3 تريليون دولار في صناديق الثروة السيادية، ويقود جيشاً من أفضل جيوش المنطقة تدريباً وتجهيزاً، باستثناء إسرائيل. وعلى الصعيد الداخلي، فقد ضيق الخناق على جماعة الإخوان المسلمين، وبنى دولة رقابية بالغة الحداثة، يُراقَب الجميع فيها، بحثاً عن أي علامة على ميولٍ إسلامية.

“مترنيش” العصر

أدى دور محمد بن زايد الرائد في الثورة المضادة الحالية بوصفه “مترنيش” العصر الجديد إلى تغيير سمعة بلاده. (الأمير كليمنس فينزل مترنيش  سياسي نمساوي من أهم شخصيات القرن التاسع عشر، ينسب إليه وضع قواعد العمل السياسي التي سارت عليها القوى الكبرى في أوروبا طوال الأربعين عاماً التي أعقبت هزيمة نابليون بونابرت). ولا يزال البنتاغون يعتبره حليفاً موالياً وقوياً. خلال زيارة إلى أبوظبي في شهر أيار/ مايو الماضي، جلستُ بين الجمهور وكان جيم ماتيس، وزير الدفاع الأميركي السابق، يخاطب حشداً من الإماراتيين وكبار الشخصيات الأجنبية وُيشبِّه الإمارات بِأثينا وإسبرطة. لكن بعض المسؤولين خلال حكم أوباما كانوا يعتبرونه شخصاً شرساً وخطيراً. وبحلول الوقت الذي انتُخب فيه ترامب رئيساً، ليكن بذلك شريكاً أكثر مرونةً لمحمد بن زايد، كانت الجماعات المَعنية بحقوق الإنسان والديبلوماسيين توجه انتقادات لمحمد بن زايد لدوره العسكري في حربي اليمن وليبيا، حتى بعض المعجبين بمحمد بن زايد في الدوائر الدبلوماسية يرون أنه يمكن أن يكون مستبداً، وأنه تورط في نزاعات لا يمكنه التحكم بنتائجها.

بيد أن محمد بن زايد شخصية فريدة في الشرق الأوسط: فهو قائد ذكي، ذو ميولٍ علمانية، ولديه خطط مستقبلية للمنطقة والموارد اللازمة لتنفيذها. على رغم عيوبه، فالبدائل تبدو قاتمة بصورةٍ متزايدة. فقد دفعت الغارة الجوية الأميركية التي أودت بحياة سليماني وحليفه العراقي الأول، في أعقاب أزمة السفارة الأميركية في بغداد، بالمنطقة إلى شفا الحرب، وسمعنا القائد الأعلى في إيران يصدر تهديدات خطيرة بالانتقام. من المبكر أن نتنبأ برد فعل طهران، لكن يُرجَّح أن يكون محمد بن زايد لاعباً رئيساً في أي تطورات مقبلة. 

يوضح هذا التغير عن حملة “الضغط الأقصى” التي يوقدها ترامب، رغبته الجديدة والأكيدة في اتباع مسار مستقل. ويبدو أن الرجل الذي انتقد أوباما سراً لميله نحو التهدئة مع إيران، يشعر بالقلق الآن من احتمال أن ينزلق ترامب في حرب معها. ربما يكون لدى محمد بن زايد فرصة جيدة لتجنب صراع قد تكون فيه دولته، التي تقابلها إيران على ضفة الخليج الأخرى، هي أول المواقع المستهدفة فيه.

منذ أكثر من عقد، أصبح صاحب الـ58 عاماً، القائد الفعلي والشخصية الرائدة في الإمارات، على رغم أن أخاه الأكبر خليفة، الذي أُصيِب بسكتةٍ دماغية عام 2014، هو الرئيس رسمياً. فمحمد بن زايد يرسم السياسات التعليمية والمالية والثقافية والخارجية للدولة منذ زمن أبعد. وعلى رغم ذلك، لم يقم سوى بزيارات رسمية قليلة، ولم يحضر اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة قط، ولا مؤتمر دافوس كذلك.

وهو نادراً ما يلقي خطابات، ولا يتحدث إلى الصحافة. فحضوره الإعلامي والعلني أقل من حاكم دبي، محمد بن راشد آل مكتوم، نائبه في الاتحاد الإماراتي.

استغرق تنسيق موعد لإجراء مقابلة معه نحو عام. في تلك الفترة، التقيت الكثير من ممثليه في نيويورك، وواشنطن، ولندن، وأبوظبي، كنوع من التدقيق الذي يبدو أنني اجتزته بنجاح، وذلك لأنني أمضيت سنوات مراسلاً في منطقة الخليج. فلم يسبق له أن أدلى بحديث إعلامي لصحافي غربي علناً، لكن التوقيت كان جيداً: لقد توافقت جهودي مع نصائح دائرة المقربين منه بأن يكون أكثر انفتاحاً وشفافية. ومع ذلك، حتى بعد حوارنا، كان مستشاروه حذرين في ما يخص ما يُسمح بذكره في المقال، خوفاً من تأويل تصريحاته أو إساءة استخدامها من قِبل أعدائه.

اللقاء الأول

كان أول لقاء لي بمحمد بن زايد في أيار الماضي، حين كان في مجلسه المسائي، والذي يعد تقليداً مهمماً في الحياة السياسية والاجتماعية في الإمارات. كان ذلك في قاعة استقبال كبيرة في أبو ظبي، وكنت محاطاً بمئات المسلمين الصائمين. 

زُرت الإمارات مرات عدة في السنوات الماضية، وتكوَّن لدي انطباع بأن “انعدام الجذور” من أهم سمات تلك الدولة. حتى حين تكون الشوارع مكتظة، يكون معظم من تراهم في دبي أو أبو ظبي مواطنين لدول أخرى غير الإمارات. حين تسألهم عن حياتهم، يذكر معظمهم امتنانهم الكبير لكونهم يعيشون في الإمارات، ويرسلون المال لعائلاتهم في كيرالا أو نيروبي أو كوالالمبور.

كان المجلس الذي حضرته مقدمةً لإفطار رمضاني. كان محمد بن زايد منهمكاً في الحديث مع ضيف أفريقي رفيع المستوى. في ما بعد، رأيت محمد بن زايد يقوم ويتفاعل مع الحضور، يصافح الضيوف، ويتعرف إلى الناس، ويضحك ويعانق أصدقاءه القدامى.

يستضيف بن زايد مجلساً أسبوعياً آخر يحق لأي مواطن إماراتي أن يتقدم بطلب لحضوره، لتقديم شكوى أو طلب مساعدة. تلك اللقاءات الدورية تقوم بدور مهم، وتسمح لمحمد بن زايد وأقرانه بالحصول على المعلومات من رجال الأعمال وزعماء القبائل وغيرهم.

أخبرني مستشارو محمد بن زايد لشهور عن شغفه بالخروج عن المألوف، تراه يقود سيارته البيضاء من طراز “نيسان باترول” ويجوب بها أرجاء أبو ظبي، ثم يظهر فجأة في أحد المطاعم المحلية. وهو من عشاق اللياقة البدنية، فغالباً ما يعقد اجتماعات أثناء المشي لمسافات طويلة، وتراه يدون بعض الملاحظات على يده من حين إلى آخر. وهو صارم في التقيد بالمواعيد، ويهتم بالتفاصيل، ويهوى مفاجأة الديبلوماسيين الغربيين باستخفافه بتقاليد السلوك الأميري. 

من الواضح أنه لا يكلف نفسه عناء الأحاديث الجانبية، فعندما التقينا في حزيران/ يونيو من أجل إجراء مقابلة رسمية، بالكاد رحب بي ثم شرع في الحديث عن آخر الخطوات التي اتخذتها حكومته في اليمن. كنا نجلس في بهو فندق قصر الإمارات، وهو مَعلَم ذو واجهة رخامية فخمة، يمتد على شاطئ الخليج العربي. وكما كان متوقعاً أثناء المقابلة، فقد حضر بصحبته اثنان من حرسه الخاص إلى جانب أحد مستشاريه، استمر بن زايد في الحديث لقرابة الساعة حول رؤيته عن الإسلام السياسي، وحول نشأته وأولوياته السياسية، فضلاً عن إرث والده. لقد بدا عليه الاستمتاع بسرد الحكايات التي كانت كلها تصب باتجاه توضيح رؤيته عن الأمور، ليس من قبيل المصادفة أن يقول الناس عادةً الشيء نفسه عن والده الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، الذي أسس دولة الإمارات العربية المتحدة قبل 49 عاماً.

إليكم قصة عن محمد بن زايد

في وقت ما في الثمانينات، حين كان ضابطاً شاباً في الجيش، قام برحلة في إحدى العطل إلى السهول العشبية في تنزانيا، وخلال عودته إلى أبوظبي، ذهب لرؤية والده. جلس الرجلان متربعين على الأرض وفقاً للتقاليد، وقدم محمد بن زايد القهوة لوالده. طلب زايد من ابنه أن يحكي له بالتفصيل عن كل ما رآه: عن البراري، وشعب الماساي وعاداتهم وأعرافهم، ومستوى الفقر في البلاد. وبعد سماعه ذلك، سأل ابنه عما فعله لمساعدة الأشخاص الذين قابلهم. استهجن محمد بن زايد سؤال والده وقال له إن الأشخاص الذين قابلهم لم يكونوا مسلمين. كان رد فعل والده مفاجئاً ولا يُنسَى. 

أخبرني محمد بن زايد قائلاً، “أمسك ذراعي، ونظر في عيني بحدة بالغة، وقال لي: كلنا عيال الله”.

يقول محمد بن زايد إن نهج التعددية الغريزي لدى والده هو السبب الأساسي وراء حملته المناهضة للإسلاميين. فقد مزج زايد، المتوفى عام 2004 عن عمر يناهز 86 سنة، بين العادات البدوية التقليدية والعقلية الليبرالية الفذة. صحيح أن الإماراتيين متدينون للغاية، لكن موقع البلاد المُطِل على ممر بحري عريق أنتج نوعاً متسامحاً وعالمياً نسبياً من الإسلام.

ونصّبه البريطانيون حاكماً لإمارة أبوظبي عام 1966 -بناءً على طلبٍ من العائلات الكبيرة هناك- بعدما ضاقوا ذرعاً بشقيقه الأكبر، شخبوط بن سلطان آل نهيان، الذي كان يكره الأجانب. كانت الإمارات ترزح تحت وطأة الفقر المدقع آنذاك، لدرجة أن حتى أغنى العائلات كانت تسكن في أكواخ من الطوب اللبن. ففي الستينات لم يكن هناك أي دواء غربي تقريباً متوافراً في البلاد، وكان معظم السكان أُميين، لهذا كان حوالى نصف المواليد وثلث الامهات يموتون أثناء الولادة.

أصر زايد على توفير التعليم لجميع النساء في وقت كادت أن تصل فيه نسبة الأمية بين الإناث إلى 100 في المئة. وسمح للمسيحيين بتشييد كنائسهم في أبو ظبي، مخالفاً بذلك الاعتقاد الإسلامي الشائع أنه لا ينبغي أن يكون هناك أي موطئ قدم للديانات الأخرى في شبه الجزيرة العربية. وفي أواخر الخمسينات، أسست عائلة من المبشرين الأميركيين مستشفى في مدينة العين، وهناك وُلد ابن زايد الثالث، محمد، على يد طبيبة أميركية. 

خلال نشأته، شهد محمد بن زايد تحوُّل بلاده من الفقر المدقع إلى الثراء الفاحش الذي يفوق الخيال بعد اكتشاف النفط. وفي الوقت نفسه أصبح الإسلام السياسي هو الشعار الأعظم الذي يوحد أبناء جيله تحت رايته. 

وعندما كان محمد بن زايد في الـ14 من عمره، أرسله والده إلى مدرسة في المغرب. ويبدو أن زايد تعمد أن تكون هذه تجربة قاسية، إذ أعطى ولده جواز سفر يحمل لقباً مختلفاً حتى لا يُعامل كأبناء الملوك. عاش محمد حياة بسيطة في المغرب، وعمل نادلاً لأشهر في أحد المطاعم المحلية. وكان يُحضِّر طعامه ويغسل ثيابه بنفسه، وكان وحيداً معظم الوقت. 

أخبرني محمد أنه “قد يوجد في الثلاجة طبق من التبولة، وكنت أواصل الأكل منه، يوماً بعد يوم، إلى أن تتكون على سطحه طبقة من الفطريات”. في ما بعد، أمضى صيفاً في مدرسة جوردونستون، المدرسة الداخلية الأسكتلندية، حيث أرسلت أجيال من العائلة الملكية البريطانية وغيرها من العائلات النبيلة أبنائها لتحمُل الظروف القاسية. كان من المعروف أن الأمير تشارلز كره المكان، لكن محمد بن زايد أخبرني أنه استمتع بوقته هناك. ثم أمضى سنة أخرى في أكاديمية ساندهيرست العسكرية الملكية.

زُرت الإمارات مرات عدة في السنوات الماضية، وتكوَّن لدي انطباع بأن “انعدام الجذور” من أهم سمات تلك الدولة

سقط محمد بن زايد فريسةً في قبضة الفكر الإسلامي على مدى هذه السنوات، من دون علم والده. ويبدو أن زايد سهّل بلا قصد عملية تلقين ابنه لهذه الأفكار من خلال إسناد مهمة تعليمه إلى أحد الإسلاميين المصريين الذي يُدعى “عز الدين إبراهيم”. وعلى رغم أن زايد كان على علم بانتماء إبراهيم إلى جماعة الإخوان المسلمين، لكنه لم يكن يعتبر أن المنظمة تُشكل تهديداً بعد.

كان محمد بن زايد عام 1979، وهو العام الذي اجتاح فيه الاتحاد السوفياتي أفغانستان، قد بلغ 18 سنة. وبينما شرع المجاهدون الأفغان في مقاومة هذا الغزو ببطولة، تدفق الشباب المسلمون من كل حدب وصوب إلى مدينة بيشاور الباكستانية للانضمام إليهم. وفي هذه الأثناء، أطاحت التظاهرات الشعبية بشاه إيران، وعاد آية الله الخميني إلى وطنه ليقود الثورة. يرى البعض أن ثمة فكرة مثيرة كانت سبباً في ربط هذه الأحداث: فقد فشلت الدُمى التي لطالما دعمها الغرب في المنطقة، والآن حان دور الإسلام ليُقدم الدليل الإرشادي لبناء مجتمع أفضل وأكثر واقعية.

الولاء القبلي

محمد بن زايد وُلِد وهو يحمل ميراثاً مناوئاً: وهو الولاء القبلي. فقد كان والده تجسيداً لأسر “الإقطاعيين” الحاكمة التقليدية التي اعتاد المفكرون من جماعة الإخوان المسلمين مقاومتها والتصدي لها. وكانت والدته فاطمة، الزوجة الثالثة والمفضلة لزايد. قد استغلت فطنتها وعزمها على ارتقاء أبنائها الستة على أبناء زايد الآخرين. 

بعد عودة محمد بن زايد إلى أبو ظبي في أوائل الثمانينات، أدرك حينها فقط أن الأفكار التي روجت لها جماعة الإخوان تتعارض مع دوره الجديد باعتباره وريثاً للحكم.

عام 1991، نجح جورج بوش الأب في تشكيل تحالف للضغط على صدام حسين للخروج من الكويت، وأثار حرص زايد على المشاركة في هذا التحالف إعجاب البنتاغون. وفي أعقاب ذلك بدأ القادة العسكريون الأميركيون في تعهد محمد بن زايد، الذي أصبح ضابطاً عسكرياً وبدأ في الظهور كأكثر أبناء زايد طموحاً وكفاءةً. 

أنفقت الإمارات مليارات الدولارات على شراء الطائرات الأميركية وأنظمة الأسلحة، فضلاً عن أن من زاروا مكتب محمد بن زايد قالوا إنه لا يزال يحتفظ بقدر كبير من المجلات العسكرية التي تُمكن رؤيتها هناك. وفي مطلع التسعينات، قال محمد بن زايد لمساعد وزير الخارجية الأميركية آنذاك، ريتشارد كلارك، إنه يرغب في شراء الطائرة المقاتلة من طراز “إف-16”. 

وحين قال له كلارك إن هذا النموذج لم يُنتج بعد، وأن المؤسسة العسكرية لم تجر عمليات البحث والتطوير اللازمة لتطويره، قال محمد بن زايد إنه مستعد أن يمول عمليات البحث والتطوير بنفسه. استمرت المفاوضات اللاحقة لأعوام، وعلى رغم أن أساليب محمد بن زايد القاسية في التعامل أغضبت بعض كبار الضباط في البنتاغون، “فقد انتهى الأمر بحصوله على طائرات مقاتلة من طراز “إف-16” أفضل من تلك التي تمتلكها القوات الجوية الأميركية”، بحسب ما قاله كلارك. وفي العقود التي تلت ذلك، أوضح محمد بن زايد جلياً أنه إذا رفض الجيش الأميركي تلبية مطالبه، فسيكون سعيداً للغاية بالتسوق في مكان آخر، حتى في الصين، التي باعت طائرات مُسيّرة بأسعار زهيدة للجيش الإماراتي في السنوات الأخيرة. بالرغم من ذلك، لا تزال تحمل علاقته بالولايات المتحدة أهمية بالغة حتى الآن.

11 سبتمبر/أيلول

في 11 أيلول/ سبتمبر 2001، كان محمد بن زايد في شمال اسكتلندا، مستمتعاً بالصباح الأخير من رحلة صيد الأرانب التي استمرت أسبوعاً بصحبة صديقه عبد الله الثاني، ملك الأردن. وبعدما ودع الجميع، صعد على متن طائرة خاصّة سافرت به إلى لندن، ووصل بعد الغداء مباشرةً. لم يكن غادر الطائرة بعد حتى جاء إليه أحد أفراد حاشيته المصريين من صالة الوصول، وصعد على متن الطائرة، وفقاً لما ذكره مسؤول كان حاضراً لهذا الموقف. وصاح: “نيويورك تحترق!”.

لم يكن محمد بن زايد قد سمع أي شيء عن الأحداث التي وقعت ذلك اليوم، وعندما علم ثار غاضباً. ثم سأل الرجل، “ماذا تقول؟ نيويورك هي مركز العالم. انظر إلى أي مدى نحن معرضون للخطر”. حاول محمد بن زايد التواصل مع والده، لكنه لم يتمكن من الوصول إليه. غير أنه استطاع التواصل مع كلارك الذي كان يشغل آنذاك منصب منسق للأمن القومي ومكافحة الإرهاب في البيت الأبيض. كانت تلك المكالمة الوحيدة التي استقبلها كلارك ذلك الصباح من أشخاص خارج الحكومة. وذكر أن محمد بن زايد قال له، “لديك سلطة مطلقة – فقط أخبرني بما يتعين عليّ فعله”.

عندما عاد محمد بن زايد إلى أبو ظبي في وقت لاحق من ذلك اليوم، علم أن اثنين من الإماراتيين كانا من بين الخاطفين الـ19.

كانت هجمات 11 أيلول بمثابة لحظة مؤثرة غيرت حياة محمد بن زايد، فقد كشفت عن عمق التهديد الإسلامي وحالة الإنكار التي يتبناها العالم العربي تجاهه. وفي تشرين الأول/ أكتوبر، قال لي محمد بن زايد، إنه استمع باستغراب إلى رأي رئيس دولة عربي حين التقى بوالده في زيارة إلى أبو ظبي، مُتجاهلاً الهجمات، ومدعياً أنها عملية داخلية اضطلعت بها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية أو جهاز الاستخبارات الإسرائيلية – الموساد. وبعدما غادر رئيس تلك الدولة، التفت زايد إلى ابنه الذي كان حاضراً لهذا الاجتماع، وسأله عن رأيه. يتذكر محمد بن زايد ما قاله لوالده، “لدينا دليل”. ففي خريف هذا العام اعتقلت أجهزة الأمن الإماراتية نحو 200 إماراتي وما يقرب من 1600 شخص أجنبي كانوا يخططون للذهاب إلى أفغانستان والانضمام إلى تنظيم القاعدة، بما في ذلك ثلاثة أو أربعة أشخاص منهم كانوا حرصين على أن يصبحوا انتحاريين.

في الخريف ذاته، أجرى محمد بن زايد محادثةً أخرى مع والده وكان لهذه المحادثة أثر بالغ في الطريقة التي يفكر بها في الإسلام السياسي. أخبرني محمد بن زايد أن المواجهة بدأت عندما دخل إلى مكتب والده حاملاً خبراً بالغ الأهمية، ألا وهو أن الأميركيين سيرسلون قواتٍ إلى أفغانستان. قال زايد إنه يريد أن تنضم قوات إماراتية إليها. لم يكن محمد بن زايد، الذي كان رئيس أركان القوات المسلحة آنذاك، مستعداً لذلك. فقد يثير اضطلاع الإمارات بدورٍ حيويٍ في الحملة الأميركية قضايا حساسة، نظراً إلى أن البعض كانوا يعتبرونها حرباً على الإسلام. 

قال زايد، بعدما شعر بانزعاج ابنه من احتمال المساهمة بقوات إماراتية، “أخبرني، هل تظن أنني أفعل ذلك من أجل بوش؟” رد محمد بن زايد بالإيجاب، فقال زايد “لا يتعدى ذلك سوى 5 في المئة من الأمر. إذاً هل تعتقد أنني أقوم بذلك لإبعاد بن لادن؟”. أومأ محمد بن زايد برأسه، ليرد زايد أن “هذه 5 في المئة أخرى”.

عقب هجمات 11 أيلول مباشرةً، أجرى محمد بن زايد استعراضاً دقيقاً وشاملاً لجميع مواطن الضعف لدى بلاده في مواجهة الهجمات الإرهابية. وتقول مارسيل وهبة، التي وصلت إلى الإمارات في تشرين الأول من ذاك العام (2001)، بصفتها سفيرة الولايات المتحدة الجديدة، “أعتقد أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر جعلته يهتم بإعادة تقييم القطاعات الرئيسية الداخلية بدءً من التعليم وصولاً إلى الموارد المالية، وتحققوا من جميع هذه القطاعات بمنهجية بالغة”. ووفقاً لوهبة، شكَّل محمد بن سلمان فريقاً، يضم أشقاؤه وكبار المستشارين، وعملوا بلا كلل من أجل إصلاح أيّة عيوب. 

وبدأوا تسجيل جميع مراكز الحوالات، النظام غير الرسمي لتحويل الأموال، الذي غالباً ما كان الإرهابيون يستخدمونه. ووضعوا أجهزة استقبال وإرسال رادارية على مراكب شراعية تجوب الخليج. وبدأوا في البحث عن أساليب لتحسين عملية مراقبة شبكات التجارة والتمويل المترامية الأطراف في الإمارات العربية المتحدة. كانت هذه الإجراءات تهدف في معظمها إلى ردع الإرهابيين الذين يمرون عبر الإمارات، لكن خطر شن هجمات إرهابية داخل البلاد كان حقيقياً أيضاً.

في الوقت ذاته، شن محمد بن زايد هجوماً واسعاً على الأيديولوجية الإسلاموية. فالعديد من الإسلاميين في الإمارات ينتمون إلى “جمعية الإصلاح والتوجيه الاجتماعي”، وهي جمعية تأسست في سبعينيات القرن الماضي وتُعد النظير المحلي لجماعة الإخوان المسلمين. ويشتمل التيار الإسلامي في الإمارات على آلاف الأجانب، معظمهم من مصر، الذين رُحب بهم قبل عقود لسد حاجة الإمارات إلى البيروقراطيين والمهنيين المتعلمين. في البداية رحبت الأسر الحاكمة في البلاد بجمعية الإصلاح، التي اعتبروها جماعة متدينة متسامحة. لكن وبحلول التسعينيات، وفقاً للصحفي الإماراتي سلطان القاسمي، جعل الإسلاميون من وزارتي التعليم والعدل (دولة داخل الدولة)، فقد كانوا هم من يقررون كيفية توزيع المنح الدراسية ويدفعون المحاكم إلى سلوك اتجاه أكثر تديناً.

أصدر محمد بن زايد قراراً بفصل المعلمين من ذوي التوجه الإسلامي السياسي مع إعادة كتابة شاملة لجميع المقررات الدراسية في الدولة. إذ بإمكان معظم الإماراتيين الذين أعرفهم إخبارك بقصصٍ مروعة حول مدرسي المدارس الابتدائية الذين حدثوهم بأريحية عن أمجاد الجهاد المسلح وفسوق الكفار. وكانت المقررات المدرسية، التي كتبها أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، تعج بالتعصب حتى في مواد مثل التاريخ والرياضيات، مثلاً، “إذا قتلت ثلاثة مستوطنين يهود وعفوت عن اثنين، فما هو ناتج الجمع”؟ 

تُقدِم المدارس الإماراتية الثانوية الآن دروساً أخلاقية منفصلة عن المقررات الدينية، وهو شيء لم يكن ليفكر فيه أحد قبل وقت قريب. وبذل محمد بن زايد جهوداً أخرى هادئة لدفع الدين إلى القطاع الخاص، فقد وفر منبراً لرجال دين محترمين ممن يتبنون منهجاً أكثر اعتدالاً، من ضمنهم عدداً من الصوفيين البارزين مثل الحبيب علي الجفري، وعارف علي النايض، وحمزة يوسف، وعبد الله بن بيه، رجل الدين الصوفي الموريتاني الشهير الذي يرأس حالياً مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي. بدأت الإمارات أيضاً في تصدير نسختها الخاصة من الإسلام من خلال برامج تدريب للأئمة في الخارج، ويشتمل ذلك على آلاف الأفغان. 

تَركَّز معظم أعضاء جمعية الإصلاح في شمال الإمارات، خاصةً في إمارة رأس الخيمة، التي تقع على بُعد نصف ساعة أو أكثر قليلاً بالسيارة عن دبي. وهي أقل كثافة سكانية من المدن الأكثر ثراءً في الجنوب، مع وجود ناطحات سحاب ومراكز تجارية أقل، وهي أيضاً أكثر تواضعاً. كانت جمعية الإصلاح تعبر نوعاً ما عن ازدرائها من الثقافة الرأسمالية المتوحشة التي تتكاثر في المدن الكبرى بالإمارات. واحتجت في العديد من بياناتها العامة على الحانات وممارسة الدعارة التي تلبي احتياجات السكان الأجانب الذين تتزايد أعدادهم في البلاد. ثم بدأ المتحدثون باسم الجمعية في الترويج للديمقراطية وحقوق الإنسان، على الرغم من أن تلك ربما تكون، الطريقة الأنسب لكسب التعاطف الغربي مع قضيتهم.

لطالما تبنى المستعربون والدبلوماسيون في الغرب غالباً الرأي القائل بضرورة التسامح مع الإسلاميين من هذا النوع، وأن آرائهم من المحتمل أن تكتسي بطابع أكثر مرونةً بمرور الوقت من خلال إدماجهم في السياسات الانتخابية. وكثيراً ما يُنظر إلى حركة النهضة التونسية باعتبارها مثالاً لما قد يحدث حينما تُمنح الفرصة للإسلاميين للتطور في اتجاه ذي صبغة أكثر تقدُّميّة. فقد تقاسمت حركة النهضة التي انبثقت عن جماعة الإخوان المسلمين، السلطة مع أحد الأحزاب العلمانية، فضلاً عن أن زعيمها أشار إلى أن الحركة ليست حزب إسلامي بالمعنى الحرفي بقدر ما هي حزب عربي متنوع على غرار الأحزاب الأوروبية مثل الحزب الديمقراطي المسيحي.

أجرى محمد بن زايد بالفعل حواراً لم يُكلَل بنجاح كبير مع الإسلاميين في الإمارات، ويزعم أن التجربة أثبتت أنهم ليسوا أهل للثقة. ففي أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، بدأ بلقاء أعضاء من جمعية “الإصلاح” وحثّهم على العودة إلى كنف الدولة. وفي البداية، عرض عليهم صفقة: وهي الابتعاد عن المعترك السياسي، في مقابل استمرارهم في ممارسة الأعمال الخيرية. بيد أنهم ردوا بتقديم قوائم من المطالب. ثم وصلت محاولات مد جسور التواصل بين الطرفين إلى نهايتها بعد اجتماع مشوب بالتوتر عام 2003، ويبدو أن موقف محمد بن زايد بات أكثر تشدداً. وصرح عام 2004 في لقاء مع وفد أميركي زائر، قائلاً “نحن نخوض حرباً ثقافية مع جماعة الإخوان المسلمين في هذا البلد”، وفقاً لإحدى البرقيات المسربة التي نشرها موقع “ويكيليكس”. وقال خلال زيارة مجموعة من الدبلوماسيين عام 2009، إن أحد أبنائه بدأ في الوقوع تحت تأثير الفكر الإسلامي. وحاول مجابهة ذلك باستخدام أحد الأساليب التي استخدمها والده من قبل: وهو إرسال ابنه إلى إثيوبيا برفقة منظمة “الصليب الأحمر” لتقدير المبادئ الأخلاقية التي يتسم بها غير المسلمين.

في الوقت الذي أبدى فيه محمد بن زايد تشدده ضد جماعة الإخوان المسلمين وحاول تضييق الخناق عليهم، عمل على مشروع أكثر طموحاً: وهو بناء دولة من شأنها أن تفضح الحركة الإسلامية بأسرها؛ من خلال النجاح في الذي فشلت الحركة أن تحققه. فبدلاً من إرساء الديمقراطية غير الليبرالية -على غرار تلك المُتبعة في تركيا- سعى إلى تأسيس ديمقراطية مغايرة لذلك تماماً، وهو نظام ليبرالي اجتماعي قائم على حكم الفرد، تماماً كما فعل لي كوان يو في سنغافورة في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين. فقد بدأ بقطاعات الخدمة المدنية في أبو ظبي، التي ابتُليت بالعديد من العلل التي تعاني منها الدول العربية الأخرى: مثل التضخم وانعدام الكفاءة، حيث تؤدي العلاقات والسمعة العائلية الدور الأكبر في شغل المناصب الوظيفية وليس الجدارة. جزئياً كانت هذه المظاهر بمثابة التركة التي خلفها رجل مصر القوي، جمال عبد الناصر، الذي بنى نموذجاً مختلاً خلال حقبة الخمسينيات، وجرى العمل به بعد ذلك في كل مكان.

استخدم محمد بن زايد مجموعة من الشباب الموهوبين وفوّضهم بتحطيم البيروقراطية. وعلى مدى السنوات القليلة التي أعقبت ذلك، فصلوا عشرات الآلاف من الموظفين وأعادوا تعيين العديد من الموظفين الآخرين في مناصب أخرى، الأمر الذي أدى إلى تنظيم وتبسيط الدولة. وبين عامي 2005 و2008، تقلص عدد العاملين في حكومة أبو ظبي من 64 ألف شخص إلى 7 آلاف شخص فقط. وفي نفس الوقت، بدأ في تسخير احتياطيات رأس المال الهائلة التي تمتلكها أبو ظبي لبناء اقتصاد لا يعتمد على النفط. ومن خلال إنشاء صندوق ثروة سيادية جديد يُسمى “مبادلة”، تمكن من جذب الصناعات الجديدة، وخلق فرص عمل ساعدت في تدريب السكان المحليين. وصقل صورته التقدمية من خلال إشراك النساء في حكومته. وقد أنشأت “شركة مبادلة للتنمية” مركزاً للطيران وعلوم الفضاء في مدينة العين تمثل النساء 86 % من العاملين به.

في بعض الأحيان، يبدو وكأنه يريد إحداث تغيير في المواطنين الإماراتيين أنفسهم، وجعل شعبه أكثر انضباطاً وعقلانيةً واعتماداً على الذات. فقد سمعه أحد الدبلوماسيين السابقين يقول، “هل سبق لك أن صافحت يد مواطن إماراتي؟، إنها يد ضعيفة فهم لا يتجرؤون على النظر إليك مباشرة. وأنا أحاول تعليم الناس أن ينظروا إليك بثقة ويصافحونك بيد قوية حازمة”. وفي سبيل ذلك، جعل فصول تمارين رياضة الجوجيتسو أمراً إلزامياً في المدارس. وفي عام 2014، بدأ التجنيد العسكري الإلزامي، مما أرغم الشباب الإماراتيين، الذين يحظون بالسكن والتعليم والرعاية الصحية دون مقابل، على تحمل قضاء مدة عام في معسكرات التدريب والعمل الشاق. وحرص محمد بن زايد على أن يأخذوا الأمر على محمل الجد. فبعد فترة وجيزة من بدء العمل بهذا النظام، تخلف بضع مئات من الشباب المؤهلين عن التسجيل. ولذا وفقاً لما قاله أحد الدبلوماسيين السابقين، فقد أمر محمد بن زايد بالاجتماع معهم، “وأمضى ساعة يحدثهم بقسوة عما فعله والده في سبيل بناء الدولة، وأشياء من هذا القبيل”، وأضاف “لقد سُجِنوا جميعاً لمدة 30 يوماً”. (بيد أن متحدث إماراتي شكك في تلك الرواية).

عندما زُرت الإمارات العربية المتحدة لأول مرة عام 2007، سمعت الكثير من اللغط حول العواقب الاجتماعية المترتبة على قفزة البلاد المفاجئة من الفقر إلى الثروة الهائلة: من عدم الاكتراث والاكتئاب والعزلة وغياب الاستقرار والتفكك. بيد أنه خلال زيارتي الأخيرة، سمعت عشرات القصص عن بعض الكُسالى الذين عادوا من معسكرات التجنيد بقوام ممشوق وذهنٍ يقظ، وصاروا فجأة على استعداد لتنظيف ملابسهم وغسل الأطباق. فضلاً عن أن التجنيد ساهم في الجمع بين الشباب من مختلف الإمارات والطبقات الاجتماعية بطريقة نادراً ما حدثت في الماضي. فرغم أن حرب اليمن فرضت أهوالاً على ذلك البلد، ولكن يبدو أن لها تأثيراً قاطعاً ساهم في تقوية المجتمع الإماراتي. فقد لقي أكثر من 100 مواطن إماراتي مصرعهم في القتال، ورغم أن هذا العدد ضئيل بالمقارنة مع عدد الضحايا المروع لليمنيين، فمن الناحية الإنسانية تُعد تلك الحرب هي الأكثر تكلفة التي خاضتها الإمارات على الإطلاق. ولعل انضمام أبناء محمد بن زايد وأغلب حكام الإمارات الست الأخرى إلى جبهة القتال، بل وإصابة بعضهم بجروح خطيرة، ساهم بشكل جيد في الحرب. فقد التقيت لبرهة قصيرة مع زايد بن حمدان، ابن شقيق محمد بن زايد وزوج ابنته، الذي يستخدم كرسي متحرك بعد أن أصيب عموده الفقري في حادث تحطم مروحية في اليمن عام 2017.

ربما هذا هو اللغز الرئيسي في نظام الحكم الذي يعتمده محمد بن زايد: فهو طاغية مستبد ليبيرالي اجتماعي، وتتغير سياسة بلاده بتغيُّر المنظور الذي تراها من خلاله

في عام 2009، اتخذ محمد بن زايد قراراً من شأنه أن يزيد إلى حد كبير من قدرته على إبراز قوته خارج حدوده. فقد دعا الجنرال “مايكل هيندمارش”، الرئيس السابق لقيادة العمليات الخاصة الأسترالية، للمساعدة في إعادة تنظيم المؤسسة العسكرية الإماراتية. في البداية، طلب محمد بن زايد من هيندمارش مساعدته في اختيار ضابط إماراتي ليتولى قيادة تنظيم وحدات النخبة في البلاد. ولكن يبدو أن محمد بن زايد أُعجِب بـ هيندمارش، ذلك الرجل النحيف الذي تبدو على ملامح وجهه آثار تقدم العمر، ويتسم بالهدوء والصراحة، واختاره في النهاية ليشغل هذا المنصب.

لا يمكن تصور تعيين شخص أجنبي على رأس الحرس الرئاسي ووحدات النخبة العسكرية في أيّة دولة أخرى بالشرق الأوسط. لكن محمد بن زايد أحكم قبضته على الدولة بحلول عام 2009. فقد أضرَّت الأزمة المالية العالمية الإمارات الست الأخرى -خاصةً إمارة دبي- وفقدوا بعضاً من استقلالهم الذاتي لصالح إمارة أبو ظبي، الإمارة الأكبر مساحةً والأكثر ثراءً في الاتحاد الفيدرالي بلا منازع. منح محمد بن زايد هيندمارش (الذي يدعوه بـ “الرئيس”) دعمه الكامل وجميع الأموال التي يحتاجها. وكان هيندمارش مسروراً بذلك، فقد اعتاد على العقبات البيروقراطية خلال العقود التي قضاها في الخدمة بالجيش الأسترالي. وأبقت الإمارات دور هيندمارش طي الكتمان، مراعاةً للحساسيات العربية، لكنه ظل يؤدي وظيفته، وكان عمله الأساسي هو وضع القوات الإماراتية الخاصة ضمن قائمة النخبة على مستوى العالم.

كان محمد بن زايد مُرتعِباً من حديث إدارة بوش عن تعزيز الديمقراطية وتداعيات ذلك. بما في ذلك تأسيس أحزاب مذهبية سياسية في العراق، وانتصار حركة حماس في الانتخابات في غزة. أحس محمد بن زايد عام 2009 وجود “أجندة حرية” في خطاب أوباما التاريخي في القاهرة، مع دعوته إلى “بداية جديدة بين الولايات المتحدة والمسلمين حول العالم”. وقد أخبر بن زايد دبلوماسي أميركي لاحقاً أنه يخشى من أن “يرفع الخطاب سقف التوقعات في العالم العربي”.

ثم أتى الربيع العربي. وقد كانت الولايات المتحدة تدعم الرئيس المصري حسني مبارك، وأمثاله من الحكام المستبدين على مدى عقود، وتعاملت مع الإخوان المسلمين باعتبارهم متعصبين خطرين. إلا أنه عندما فاز الإخواني محمد مرسي في الانتخابات الرئاسية المصرية في عام 2012، قبلت إدارة أوباما بالنتيجة. لكن محمد بن زايد لم يستطع تقبُلها. وبدايةً من مطلع عام 2013، دعمت الإمارات العربية المتحدة حركة تمرد، الحركة الشعبية البارزة المناهضة لمحمد مرسي. واندلعت مظاهرات واسعة ضد محمد مرسي في 30 حزيران، أعقبها عزله من قِبل الجيش في 3 تموز/ يوليو، وهو ما أوصل عبد الفتاح السيسي، القائد العام للقوات المسلحة، إلى سُدة الحكم. 

سرعان ما تعهدت الإمارات وحلفاؤها في الخليج بضخ مليارات الدولارات لدعم الحكومة الجديدة. وفي حين التزم المسؤولون الإماراتيون بالصمت المطبق فيما يخص دورهم في مصر، يعتقد جميع الدبلوماسيين الذين تحدثتُ معهم أن الإمارات اتصلت بالسيسي وأوضحت شروط دعمهم المالي قبل الإطاحة بمرسي. وقد أخبرني أحد الدبلوماسيين السابقين قائلاً “أتصور أنه توجد أسباب وجيهة تدعو للاعتقاد بأنه دبر للقيام بانقلاب. وأن تقوم دولة خليجية صغيرة بالإطاحة برئيس مصر ووضع رجلٍ موالياً لهم مكانه، فهذا إنجازٌ عظيم”.

ربما حال محمد بن زايد دون أن تتحول مصر إلى دولة ثيوقراطية إسلامية، وهكذا يرى الأمر، على أية حال. لكن منهج العنف الذي يتبناه السيسي بات واضحاً على الفور. (ويمكننا الجزم بأن هذا لم يشغل محمد بن زايد كثيراً، إن لم يكن مطلقاً). في منتصف أغسطس/ آب، قتل الجيش المصري حوالي ألف شخصٍ في اعتصامين تابعين للإخوان المسلمين في القاهرة، وفقاً لمنظمة هيومن رايتس ووتش. في نفس الوقت تقريباً، بدأت الحكومة في قمع المعارضين العلمانيين أيضاً، وأصبح السيسي في نواحٍ عديدة أكثر استبداداً من مبارك. تسبب الاستيلاء على السلطة بمصر في تصاعد التوترات بين الإمارات والولايات المتحدة، التي تخبطت بشكل أخرق ما بين إدانة السيسي باعتباره زعيم غير ديمقراطي، ومواصلة التعاون معه بهدوء. (سيقدم ترامب فيما بعد دعماً غير مشروط، حتى أنه مزح قائلاً أن السيسي هو “ديكتاتوره المفضل”).

عقب استيلاء السيسي على السلطة مباشرة، في تشرين الأول 2013، كان محمد بن زايد يشاهد محطة “سي أن أن” وعلم للمرة الأولى أن الولايات المتحدة تتفاوض سراً لإبرام اتفاق نووي مع إيران. لم يخبره أصدقاؤه الأميركيون بأيّ شيء. وأخبرني أحد كبار مستشاري محمد بن زايد أن “هذه كانت ضربة كبيرة”. 

شكلت الاضطرابات في مصر والمحادثات مع إيران منعطفاً في علاقة محمد بن زايد مع الولايات المتحدة. لكن لم يتضح هذا التحول في العلاقات على الفور، إذ واصل التحدث مع أوباما وقدم له المشورة بانتظام. فقد حذره من أن العلاج المقترح لحل الأزمة في سوريا، بالتعاون مع المتمردين الإسلاميين، قد يكون أسوأ من المرض نفسه (ألا وهو طغيان الأسد). كما أنه حث أوباما على التحدث مع الروس من أجل التعاون سوياً في سوريا، وهو اقتراح واقعي مجرد من شأنه إنهاء الحرب سريعاً، وإن كان ذلك من خلال وأد حلم المعارضة بالنصر.

لكن باستثناء المشاورات الروتينية المصطنعة، تغيرت مشاعر محمد بن زايد تجاه أوباما. وفي نهاية المطاف أصبحت العلاقة بينهما سامة، مع تحدث محمد بن زايد مع الزوار عن الإدارة الأميركية باستحقار، مثلما أخبرني مسؤولون سابقون في الإدارة. كما أدلى أوباما بتصريحات رافضة خلال مقابلة مع مجلة “ذا أتلانتك” عام 2016، ووصف حكام الخليج بأنهم “منتفعون بالمجان” و”ليست لديهم القدرة على إخماد النيران بأنفسهم”، وينتظرون أن تهب الولايات المتحدة لنجدتهم.

ثم جاءت القشة الأخيرة بعد شهرٍ من فوز ترامب، عندما وصل محمد بن زايد إلى نيويورك لمقابلة فريق الرئيس المنتخب، بعدما ألغى غداء وداع مع أوباما. بعد ذلك بفترة وجيزة، استقبل محمد بن زايد وسيطاً روسياً، في منتجع إماراتي في سيشيل، مع إريك برنس، مؤسس شركة “بلاك ووتر”، وهو اللقاء الذي جعلهم محل تساؤل من قِبل تحقيق المستشار الخاص روبرت مولر حول علاقة إدارة ترامب مع روسيا. ويبدو أن الاجتماعات، المذكورة باقتضاب في تقرير مولر، لم تنطو على أي تواطؤ له علاقة بترامب. لكن حتى إذا لم يكن محمد بن زايد متواطئاً مع الروس، فيبدو أن موقفه تجاه رعاته الأميركيين تغير. وأصبحت لديه خططه الخاصة الآن، ولم يعد ينتظر موافقتهم عليها.

كان الانقلاب على مرسي أول نجاحات حملة محمد بن زايد المضادة للثورات. ويبدو أنه زاد من ثقته بشأن ما يمكن فعله من دون القيود الأميركية. ثم سرعان ما انتقل تركيزه إلى ليبيا، حيث انتشر الجهاديون، فبدأ توفير الدعم العسكري للواء السابق المنشق خليفة حفتر، فهو يشارك محمد بن زايد مشاعره تجاه الإسلاميين. في مؤتمر كامب ديفيد في أيار 2015، وبخ أوباما محمد بن زايد وأمير قطر بصورة غير مباشرة لشنهم حرب بالوكالة تأييداً للمليشيات المتصارعة. لكن بحلول نهاية 2016، كانت الإمارات أنشأت قاعدة جوية في شرق ليبيا، انطلقت منها طائرات بدون طيار وطائرات حربية قصفت خصوم حفتر في بنغازي.

وبينما كان بن زايد ينسحب بعيداً عن إدارة أوباما، كان يكتسب حليفاً قوياً، محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي. ربما يبدو التحالف طبيعياً للغرباء، فهما أميران من الخليج ولهما الاسم ذاته، لكن ذلك التحالف يخفي تحته خلافاً تاريخياً. فالسعوديون هم أولياء أمر “الإسلام السياسي”. ويتفق محمد بن زايد مع هذا الرأي. فالدولة السعودية تأسست على إثر معاهدة من القرن الثامن عشر بين حكامها وأنصار مذهب إسلامي متشدد، هم الوهابيون. إنها نسخة من التطرف المدعوم من الدولة، تبدو جماعة الإخوان المسلمين معتدلة مقارنةً بها.

نشأ محمد بن زايد في عهد كانت الإمارات تشعر فيه بالتهديد من جارتها العملاقة، وكانت هناك مناوشات مسلحة على الحدود في خمسينات القرن الماضي. عام 2005، قال بن زايد لسفير الولايات المتحدة جيمس جيفري إن أكبر مخاوفه هي الوهابية، وفقاً لبرقية نشرتها ويكيليكس.

لقد كان يرى أن العائلة السعودية الحاكمة عاجزة، لكنه كان يخشى أن البديل في ظل مجتمع محافظ كهذا سيكون حكماً دينياً وهابياً على النمط الداعشي. يذكر جيفري أنه قال، “أي بديل لآل سعود سيكون كارثياً. علينا أن نساعدهم على أن يساعدوا أنفسهم”.

يقول محمد بن زايد إن نهج التعددية الغريزي لدى والده هو السبب الأساسي وراء حملته المناهضة للإسلاميين.

سرعان ما تشبث ابن زايد بنظيره السعودي، الذي كان يتوق لإجراء إصلاحات كبيرة، كوسيلة لإضعاف الصلة بين السعودية والإسلام المتطرف. يبدو أنه قام بدور المرشد للشاب الأصغر منه سناً، وشجع إدارة أوباما على مساندته. لكنه لم يتحكم بأي شكل في نزوات محمد بن سلمان.

حين قادت السعودية حملة عسكرية ضد المقاتلين الحوثيين الموالين لإيران في اليمن عام 2015، بمساندة الإمارات، توقع كثيرون أن تستمر تلك الحملة أشهراً على الأكثر. لكنها استمرت 5 سنوات، وتحولت إلى كارثة هزت ضمير العالم. دُمِرت مبانٍ أثرية وقُتِل الآلاف من المدنيين، وعانى اليمن، وهو من أفقر الدول العربية، من الأوبئة والمجاعات. أصبح الوصول إلى الهدف المعلن من الحرب، وهو القضاء على حكومة الحوثيين الموالية لإيران، أبعد من أي وقت مضى.

تتحمل الإمارات نصيباً من المسؤولية عن هذه المأساة المروعة، على رغم أنها لم تقم بشن الغارات الجوية التي تسببت في الدمار في شمال اليمن. لقد حصر محمد بن زايد دور بلاده في الجنوب، حيث حاول عقد صفقات سياسية لإنهاء الحرب، لكنه فشل.

حين أعلن محمد بن زايد الانسحاب من اليمن، أوضح أن شراكته الجديدة مع السعودية لها حدود. كما بدأ يرسم مساراً ديبلوماسياً جديداً مع إيران. بعد سلسلة من الهجمات على السفن في الخليج العربي وإسقاط طائرة أميركية بدون طيار، هدد ترامب بالويل، ثم تراجع فجأةً. يبدو أن محمد بن زايد شعر بأن طهران بدأت ترى أن تهديدات ترامب ليست لها قيمة، ما قد يعرض الإمارات للمزيد من العنف من قِبل إيران. بعد ذلك بزمن قصير، أصدرت الإمارات تصريحات تصالحية، وأرسلت وفداً إلى إيران. هذا النمط من التواصل والحوار ربما يكون ضرورياً في أعقاب اغتيال سليماني، فأصبح لزاماً على جيران إيران الاجتهاد لتجنب الحرب.

نصب التسامح

أمام ديوان محمد بن زايد الرئيسي في أبوظبي، يرتفع نصب برونزي، تمثل منحوتاته التسع حروف كلمة “التسامح-TOLERANCE” بالإنكليزية. تبذل الإمارات جهوداً هائلة للترويج لالتزامها بالتعددية. فعام 2016 مثلاً، أنشأت الحكومة وزارة “التسامح”، واختير عام 2019 ليكون “عام التسامح”، والذي بدأ بزيارة كثُر الكلام حولها للبابا فرنسيس، وهي المرة الأولى التي تطأ فيها أقدام أي بابا للفاتيكان أرض شبه الجزيرة العربية. لكن التسامح لم يشمل الإسلاميين، أو أي شخص يتعاطف معهم. فقد شنت الإمارات حملة شديدة الضراوة على الإسلاميين بدءً من عام 2011، واعتقلتهم وسجنتهم بشكل جماعي بحجج واهية. وعام 2014، صنفت الحكومة جماعة الإخوان المسلمين رسمياً على أنها جماعة إرهابية. ولاحقت محامين لدفاعهم عن الإسلاميين أو حتى العلمانيين الذين ينتقدون الحكومة في بعض الحالات. 

وطورت الإمارات برنامجاً استخباراتياً سيبرانياً هجومياً، يُسمَى “مشروع ريفين”، وقد شارك في تطويره عملاء استخبارات أميركيين سابقين، وعلى ما يبدو فإنه يستهدف جزئياً الخصوم السياسيين. ووفقاً لتحقيق نشرته وكالة “رويترز، تضمنت قائمة أهداف “مشروع ريفين” على الأقل أربعة صحافيين غربيين، من بينهم ثلاثة أميركيين.

المستبد الليبيرالي

ربما هذا هو اللغز الرئيسي في نظام الحكم الذي يعتمده محمد بن زايد: فهو طاغية مستبد ليبيرالي اجتماعي، وتتغير سياسة بلاده بتغيُّر المنظور الذي تراها من خلاله. فقياساً إلى معايير جماعات حقوق الإنسان الغربية، يمكن أن تبدو الإمارات بسهولة مثل مستعمرة عبيد ذات نظام رأسمالي متوحش، يرغب حكامها في سحق جميع المعارضين. أما إذا قارنتها بسوريا أو مصر، فإنها تبدو تقريباً نموذجاً للدولة الليبيرالية المستنيرة. وغالباً ما يتبنى الشباب العربي وجهة النظر الأخيرة. فقد أظهرت الاستبيانات أن معظم الشباب العربي يفضلون العيش فيها على العيش في أي مكان آخر، بما في ذلك الولايات المتحدة أو كندا. ويعزى هذا جزئياً إلى أن بلدان مثل مصر أو العراق بات الاشتياق بأسى إلى الماضي هو تقريباً أسلوب الحياة فيها، في حين يتطلع الناس في الإمارات أكثر إلى المستقبل. وكون هذه النقطة هي محور حديث المروجين للإمارات، فإن هذا لن يُجمِّل الحقيقة على الإطلاق.

هذا المقال مترجم عن nytimes.com ولقراءة المقال الاصلي زوروا الرابط التالي